الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم

          1260- الحادي والعشرون: حديثُ الغارِ: عن ابن شهاب عن سالمٍ عن ابن عمرَ قال: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: «انطلقَ ثلاثةُ نفَرٍ ممَّن كان قبلَكم حتَّى آواهُم المبيتُ إلى غارٍ فدخَلوه، فانحدرَت صخْرةٌ من الجَبلِ فسدَّت عليهمُ الغارَ، فقالوا: إنَّه لا يُنجيكُم من هذه الصَّخرةِ إلَّا أن تدعوا الله بصالحِ أعمالِكُم.
          قال رجلٌ منهم: اللهمَّ؛ إنَّه(1) كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغْبِقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً(2)، فنأى بي طلبُ شجرٍ(3) يوماً، فلم أُرِحْ عليهما حتَّى ناما، فحلَبتُ لهما غَبوقَهما فوجدتُهما نائمَين، فكرهْتُ أن أَغبِقَ قبلَهما أهلاً أو مالاً، فلبِثتُ والقَدَحُ على يديَّ أنتظِرُ استيقاظَهما حتَّى برَقَ الفجرُ(4) _زاد بعض الرُّواة: / والصِّبيةُ يتَضاغَون(5) عند قدمَيَّ_ فاستيقظا، فشرِبا غَبوقَهما، اللهمَّ؛ إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك ففرِّجْ عنَّا ما نحنُ فيه من هذه الصَّخرةِ، فانفرجتْ شيئاً لا يستطيعون الخروجَ.
          قال النَّبيُّ صلعم: قال الآخرُ: اللهمَّ؛ كانت ليَ ابنةُ عمٍّ، كانت أحبَّ النَّاسِ إليَّ، فأردتُها عن نفسِها فامتنَعتْ منِّي، حتَّى أَلَمَّت بها سَنَةٌ(6) من السِّنينَ فجاءتْني، فأعطيتُها عشرين ومئة دينارٍ على أنْ تُخَلِّيَ بيني وبين نفسها، ففعلَت، حتَّى إذا قدَرتُ عليها قالت: لا أُحِلُّ لك أنْ تَفُضَّ الخاتَمَ إلَّا بحقِّه(7)، فتحرَّجْتُ(8) من الوقوعِ عليها، فانصرفْتُ عنها وهي أحبُّ النَّاسِ إليَّ، وترَكتُ الذَّهبَ الَّذي أعطيتُها.
          اللهمَّ؛ إن كنت فعَلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكَ فافرُجْ عنَّا ما نحن فيه، فانفرجتِ الصَّخرةُ(9)، غيرَ أنَّهم لا يستطيعونَ الخروجَ منها (10).
          قال النَّبيُّ صلعم: وقال الثَّالثُ: اللهمَّ؛ إنِّي(11) استأجَرتُ أجراءَ، وأعطيتُهم أجرَهُم، غيرَ رجلٍ واحدٍ ترَك الَّذي له وذهَب، فثمَّرتُ أجرَه حتَّى كثُرت منه الأموالُ، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله؛ أدِّ إليَّ أجري، فقلت: كلُّ ما ترى / من أجرِك من الإِبِل والبقرِ والغنمِ والرَّقيقِ، فقال: يا عبدَ الله؛ لا تستهزِئ بي، فقلت: إنِّي لا أستهزئُ بك، فأخذه كلَّه فاستاقَه(12)، فلَم يترُك منه شيئاً.
          اللهمَّ؛ فإن كنتُ فعَلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك فافرُج عنَّا ما نحنُ فيه، فانفرجتِ الصَّخرةُ، فخرَجوا يمشون». [خ¦2272]
          وأخرجاه من حديثِ عُبيد الله عن نافعٍ عن ابن عمرَ: أنَّ رسول الله صلعم قال: «بينما ثلاثةُ نفَرٍ مِمَّن كان قبلَكم يمشون، إذ أصابَهم مطرٌ فآوَوا إلى غارٍ، فانطبقَ عليهِم، فقال بعضُهم لبعضٍ: إنَّهُ والله يا هؤلاء؛ لا يُنجيكُم إلَّا الصِّدقُ، فلْيَدْعُ كلُّ رجلٍ منكُم بما يعلمُ أنَّه قد صدَق فيه.
          فقال أحدهم: اللهمَّ؛ إنْ كنْتَ تعلمُ أنَّه كان لي أجيرٌ عمِل لي على فَرَقٍ(13) من أرُزٍّ، فذهَب وتركَه، وإنِّي عمَدتُ إلى ذلك الفَرَقِ فزرَعتُه، فصار من أمرهِ أنِّي اشتَريتُ منه بقراً، وأنَّه أتاني يطلُب أجرَه، فقلتُ له: اعمدْ إلى تلك البقرِ فَسُقْها، فقال: إنَّما لي عندك فَرَقٌ من أرُزٍّ، فقلت له: اعمد إلى تلك البقرِ فإنَّها من ذلك الفَرَقِ، فساقَها، فإن كنتَ تعلمُ أنِّي فعلتُ ذلك من خشيَتِك ففرِّجْ عنَّا. فانساحَتْ(14) عنهمُ الصَّخرةُ...».
          وذكَر باقي الحديث بقريبٍ من معنى حديث سالمٍ. / [خ¦3465]
          وأخرَجاه أيضاً من حديثِ موسى بن عُقبةَ عن نافعٍ بنحوِ ذلك. [خ¦2215]
          وأخرَجه البخاريُّ من حديث إسماعيلَ بن إبراهيمَ بن عُقبةَ ابنِ أخي موسى بن عُقبةَ عن نافعٍ عن ابن عمرَ عن النَّبيِّ صلعم بنحوِه. [خ¦5974]
          وليس لإسماعيلَ بن إبراهيمَ بن عقبةَ عن نافعٍ عن ابن عمرَ في «الصَّحيحِ» غيرُ هذا.
          وأخرَجه مسلمٌ من حديث صالحِ بن كيسانَ عن نافعٍ عن ابن عمرَ بنحوٍ من ذلك، ومن حديثِ فُضيلِ بن غزوانَ ورَقَبَةَ بن مَصْقَلَةَ عن نافعٍ عن ابن عمرَ عن النَّبيِّ صلعم، وأحاديثُهُم وإن اختلفت فالمعاني متقارِبةٌ(15).


[1] سقط قوله: (اللهم إنه) من (ابن الصلاح)، وفي نسختنا من رواية البخاري «اللهم كان».
[2] لا أغْبِقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً: أي؛ لا أسقي ولا أشتَغِل إلا بهما، والغَبُوق شُرب العَشيِّ، والمال ههنا الماشية، ويقال: غبَقت أهلي غُبوقاً: إذا سقَيتَهم في ذلك الوَقت، والشَّرابُ المستعَدُّ به في ذلك الوقتِ يسمَّى غَبوقاً، فشربا غَبوقهما أي: ما أعددتُ لهما.
[3] كذا في الأصلين! وفي نسختنا من رواية البخاري (شيء)، قال الحافظ 6/508: والشيء لم يفسر ما هو في هذه الرواية، وقد بين في رواية مسلم من طريق أبي ضمرة، ولفظه: «وإني نأى بي ذات يوم الشجر» والمراد أنه استطرد مع غنمه في الرعي إلى أن بعد عن مكانه زيادة على العادة.
[4] برَق الفَجرُ: أضاء وتلألأ بفتح الراء، وبرِقَ بكسر الراء تحيَّر ودَهِش.
[5] يتَضاغَون: أي؛ يصرُخون ويبكون، والضَّغو والضُّغاء: صوتُ الذَّليل المَقهُو.
[6] أَلَمَّت بها سَنَةٌ: أي؛ نزَلَت بها شِدَّة، والمُلِمَّةُ: النَّازِلةُ من نوازلِ الدَّهر.
[7] الفضُّ: تفريقُ الشَّيء المجتمِع، وانفضَّ القومُ تفرَّقوا.والخاتَمُ: كنايةٌ عن الفرْج.إلا بحَقِّه: أي؛ ما يحِلُّ ويحسُن ذكره.
[8] فتحرَّجْتُ: أي؛ تأثَّمتُ ورأيتُ أن الحرَجَ والإثمَ في اقتحام ما لا يحِلُّ ولا يحسُنُ.
[9] فانفرجتِ الصَّخرةُ: أي؛ انشقَّت وانفسَحَت واتَّسعَت، والفُرْجة في الخليط بالضم، كالشَّق والطاقة، والفَرْجة بفتح الفاء انفراج الهمِّ وزوالُ الفزَع.
[10] في ذيل (ابن الصلاح): (بلغ) وفي أعلى التي تليها: (الخامس والعشرون).
[11] سقط قوله: (إني) من (ابن الصلاح)، وما أثبتناه موافق لنسختنا من رواية البخاري.
[12] ساق الشَّيءُ يسوقُه سوقاً، واستاقَه يستاقُه استِيَاقاً؛ إذا حملَه وحازَه وذهَب به، وسُقت إليهم الصَّداق؛ إذا حمَلْتَه إليهم.
[13] الفَرَق: مِكيالٌ من المكاييلِ، تُفتَح راؤه وتسكّن، كذا في «المجمل»، وقال القتبي: بفتح الراء، قال: وهو ستة عشر رطلاً، وأنشَدَ: فرَقَ السَّمْن وشاة في الغَنَم، وقال أحمد بن يحيى: فرَق بفَتْح الرّاء ولا تقل فرْق، قال: والفرَق اثنا عشر مُدّاً.
[14] فانساحَتْ عنهمُ الصَّخرةُ: أي؛ انفسَحَت، قال تعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} أي: انفسِحوا آمنين.ووقع في «تفسير الغريب» و(ابن الصلاح): (فانساخت).
[15] وفي هامش (ابن الصلاح): (بلغ).