إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كنت لك كأبي زرع لأم زرع

          5189- وبه قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”حدَّثني“ بالإفراد (سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) المعروف بابن بنتِ شرحبيل، أبو أيُّوب الدِّمشقيُّ (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بضم الحاء المهملة وسكون الجيم بعدها راء، ابنُ إياسٍ، أبو الحسن السَّعديُّ المروزيُّ (قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاقَ السَّبيعيُّ قال: (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ) أخيه (عَبْدِ اللهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ) أبيه (عُرْوَةَ) بن الزُّبيرِ بنِ العوَّام (عَنْ / عَائِشَةَ) ♦ (قَالَتْ) ممَّا هو موقوفٌ وليس بمرفوع. نعم قوله: «كنتُ لكِ كأبي زرعٍ(1)» مرفوع، وقد رواه النَّسائيُّ في «عشرة النِّساء» عن أبي عقبةَ خالدِ بن عقبةَ بنِ خالدٍ السَّكونيِّ، عن أبيه، عن هشام‼، به موقوفًا، وآخره مرفوع. وعن عبد الرَّحمن بنِ محمدِ بنِ سلامٍ، عن أبي عصمة ريحان بنِ سعيدِ بنِ المثنَّى، عن عبَّاد بنِ منصورٍ، عن هشام، به. جميعه مسند(2) مرفوع، ورواه الطَّبرانيُّ في «الكبير» من رواية الدَّراورديِّ وعبَّاد بنِ منصورٍ، كلاهما عن هشام بنِ عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا(3)، وإنَّما المرفوع: «كنتُ لك كأبي زرعٍ لأمِّ زرعٍ» والمحفوظ فيه رواية سعيدِ بنِ سلمةَ بنِ أبي الحسامِ(4) وعيسى بنِ يونس، كلاهما عن هشام بنِ عروةَ، عن أخيهِ عبد الله بنِ عروةَ، عن أبيهما، عن عائشة. ورواه الطَّبرانيُّ من حديث الدَّراورديِّ وعبَّاد _كما أشرنا إليه سابقًا_ بدون واسطة أخيهِ، عن هشام، به، جميعه مسند مرفوع ولفظه: قال لي رسولُ الله صلعم : «كنتُ لك كأبي زرعٍ لأمِّ زرعٍ». قالت عائشة: بأبي وأمِّي يا رسول الله، ومَن كان أبو زَرع؟ قال: «اجتمع...» فساق الحديث كلَّه، لكن قال ابنُ عساكرٍ: الصَّواب حديث هشام عن أخيه عبد الله بنِ عروة بعضه مسندٌ وأكثره موقوف. انتهى.
          وكذا روي مرفوعًا من رواية عبد الله بنِ مصعبٍ والدَّراورديِّ عند الزُّبير بنِ بكارٍ. وأخرجه مسلم في «الفضائلِ» عن عليِّ بنِ حجرٍ وأحمد بن جَنَاب _بفتح الجيم والنون_ كلاهما عن عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عن أخيه عبدِ الله، عن عروة، عن عائشةَ قالت: (جَلَسَ) جماعةٌ (إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ) أي: ألزمنَ أنفسهنَّ عهدًا، و(5) عقدنَ على الصِّدق من ضمائرهنَّ عقدًا (أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا).
          وعند الزُّبير بنِ بكَّار عن عائشة: دخل عليَّ رسولُ الله صلعم وعندي بعضُ نسائهِ، فقال يخصُّني بذلك: «يا عائشةُ، أنا لكِ كأبي زرعٍ لأمِّ زرعٍ» قلتُ: يا رسول الله، ما حديثُ أبي زرعٍ وأمُّ زرعٍ؟ قال: «إنَّ قريةً من قرى اليمنِ كان بها بطنٌ من بطون اليمنِ، وكان منهن إحدى عشرةَ امرأةً، وإنهنَّ خرجنَ إلى مجلسٍ فقلْنَ: تعالين فلنذكُر بعولتنا بما فيهم ولا نكذب» ففيه ذكر قبيلتهنَّ وبلادهنَّ، لكن في رواية الهيثم: إنهنَّ كنَّ بمكَّة.
          وعند ابنِ حزمٍ: إنَّهنَّ من خثعم، وعند النَّسائيِّ من طريق عمرَ بن عبد الله بنِ عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: فخرتُ بمال أبي في الجاهلية وكان ألف ألف أوقيَّةٍ، فقال النَّبيُّ صلعم : «اسكُتي يا عائشةُ، فإنِّي كنتُ لكِ كأبي زرعٍ لأمِّ زرعٍ».
          وعند أبي القاسم عبد الحكيم بن حيَّانَ بسند له مرسل من طريق سعيدِ ابنِ عفيرٍ، عن القاسم بنِ الحسنِ، عن عَمرو بن الحارثِ، عن الأسود بن خير المعافريِّ قال: دخلَ رسولُ الله صلعم على عائشةَ وفاطمةَ، وقد جرى بينهما كلام، فقال: «ما أنت بمنتهيَةٍ يا حميراءُ عن ابنتِي؟! إنَّ مثلي ومثلكِ كأبي زرعٍ مع أمِّ زرعٍ». فقالت: يا رسول الله حدِّثنا عنهما فقال: «كانتْ قرية فيها إحدى عشرةَ امرأةً، وكان الرِّجال خُلُوفًا، فقلْنَ: تعالين نذكُر أزواجنَا بما فيهم ولا نكذبُ».
          (قَالَتِ) المرأة (الأُولَى) ولم تسمَّ تذمُّ زوجها: (زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٌٍّ) بفتح الغين المعجمة وتشديد المثلثة، والرفع صفة‼ لـ «اللحم»، والجرُّ صفةٌ لـ «الجملِ»، وكلاهما في الفرع. قال البدر الدَّمامينيُّ: لا إشكالَ في جوازهما، لكن لا أدري ما المرويُّ منهما؟ ولا هل ثبتا معًا في الرِّوايةِ؟ فينبغي تحريره. انتهى. قلت: قال ابن الجوزيِّ: المشهور في الرِّواية الخفضُ، وقال لنا ابنُ ناصرٍ(6): الجيِّد الرَّفع، ونقله عن التَّبريزيِّ وغيره، والمعنى: زوجي شديدُ الهزال (عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ) زاد التِّرمذيُّ في «الشمائل»: وَعْر، أي: كثير الصَّخرِ، شديدُ الغلظةِ، يصعب الرقيُّ إليه، وعند الزُّبير بنِ بكَّار: على رأسِ جبلٍ وَغْثٍ(7). بفتح الواو وسكون المعجمة(8) بعدها مثلثة: صعبُ المرتقى بحيث تُوحل فيه الأقدام فلا تخلص منه، ويشقُّ فيه المشيُ (لَا سَهْلٌٍَ فَيُرْتَقَى) بضم التحتية وفتح القاف مبنيًّا للمفعول، أي: فيصعدُ إليه؛ لصعوبة المسلكِ إليه «ولا سهلٍ» بالخفض منونًا في الفرع كأصله(9) صفةُ / الجبل، ويجوز الفتح بلا تنوين على إعمال لا مع حذف الخبر، أي: لا سهلَ فيه، والرَّفع مع التنوين خبر مبتدأ مضمر، أي: لا هو. قال البدر الدَّمامينيُّ: ويلزمُ عليه إلغاء «لا» مع عدم التَّكرير في توجيه الرَّفع، ودخول «لا» على الصِّفة المفردة مع انتفاء التَّكرير في توجيه الجرِّ، وكلاهما باطل. انتهى. وعند الطَّبرانيِّ: لا سهلَ فيرتقَى إليهِ (وَلَا سَمِينٌٍَ) بالجر والرفع منونًا، والفتح بلا تنوين، كما مرَّ في «لا سهل»، ويجوز أن يكون رفع سمينٍ على أنَّه صفةٌ لـ «لحم»، وجرُّه صفةٌ لـ «لجملِ» (فَيُنْتَقَلُ) أي: لا ينقلهُ أحد لهزالهِ. وعند أبي(10)عبيدٍ: فينتقى. وهو وصفٌ للحمِ، أي: ليس له نقيٌّ يستخرجُ، والنِّقيُّ _بكسر النون_: المخُّ، يقال: نقوت العظمَ ونقَّيتهُ إذا استخرجتُ مخَّه.
          قال القاضي عياض: انظر إلى كلامها؛ فإنَّه مع صدقِ تشبيههِ قد جمع من حسنِ الكلام أنواعًا، وكشفَ عن محيَّا البلاغةِ قناعًا، وقرن بين جزالةِ الألفاظِ، وحلاوةِ البديعِ، وضمَّ تفاريق المناسبة والمقابلةِ والمطابقة والمجانسةِ، والتَّرتيب والتَّرصيع، فأمَّا صدقُ تشبيهها فقد أودعت أوَّل كلامها تشبيه(11)شيئين من زوجها بشيئين، فشبَّهت باللَّحم الغثِّ بُخله وقلَّة عرفهِ، وبالجبل الوعثِ شراسةَ خلقهِ، وشموخَ أنفه، فلما تمت(12) كلامها جعلت تفسِّر سابقة كلِّ واحدةٍ من الجملتين، وتفصِّل ناعتةً كلَّ قسمٍ من المشبَّهين، ففصَّلت الكلام وقسَّمته، وأبانتِ الوجهَ الَّذي(13) علَّقت التَّشبيه به وشرحته، فقالت: لا الجبل سهل؛ فلا يشق ارتقاؤهُ لأخذ اللَّحم، ولو كان هزيلًا لأنَّ الشَّيء المزهود فيه قد يؤخذ إذا(14) وجد بغير نصبٍ، ولا اللَّحم سمين فيتحمَّل في طلبهِ واقتنائهِ‼ مشقَّة صعودِ الجبل ومعاناةِ وعورته، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، واجتمع قلَّة الحرص عليه ومشقَّة الوصول إليه، لم تطمح إليه همَّةُ طالبٍ، ولا امتدَّت نحوه أمنيةُ(15) راغب، فقطع الكلام عند تمام التَّشبيه والتَّمثيل، وابتداؤه بحكم التَّفسير والتَّفصيل أليقُ بنظم الكلام، وأحسنُ من نفي التَّبرئة وردِّ الصِّفة في نمط البيان، وأجلى في ردِّ الأعجاز على(16) صدور هذه الأقسام، والتَّشبيه أحد أبوابِ البلاغة، وأبدعُ أفانين هذه الصِّناعة، وهو موضعٌ للجلاء(17) والكشف، والمبالغة في البيان، والعبارة عن الخفيِّ بالجليِّ، والمتوَهَّم بالمحسوسِ، والحقير بالخطيرِ، والشيء بما هو أعظمُ(18) منه وأحسن، أو أخسُّ وأدوَن، وعن القليلِ الوجود بالمألوفِ المعهود، وكلُّ هذا تأكيدٌ في البيان، والمبالغة في الإيضاحِ، فانظر إلى قول امرأة: زوجي بخيل لا يوصل إلي شيءٍ ممَّا عنده، وبين(19) كلام هذه المرأةِ، فقد شبَّهت بخلَ زوجها وأنَّه لا يُوصل(20) إلى ما عنده مع شراسةِ خُلقه وكبرِ نفسه بلحمِ الجملِ الغثِّ على رأسِ الجبلِ الوَغْث، فشبَّهت وعورة خلقهِ بوعورةِ الجبل، وبُعد خيره ببعدِ اللَّحم على رأسه، والزُّهد فيما يرجى منه لقلَّته(21) وتعذُّره بالزُّهد في لحمِ الجملِ الغَثِّ، فأعطت التَّشبيه حقَّه، ووفَّته(22) قسطَه، وهذا من تشبيهِ الجليِّ بالخفيِّ(23)، والمتوهَّم بالمحسوس، والحقيرِ بالخطيرِ، ثمَّ انظر أيضًا حسنَ نظم كلامِها ونضارتَهُ، وأخذه حقَّه من المؤالفة(24) والمناسبةِ في الألفاظ الَّتي هي رأسُ الفصاحة، وزمامُ البلاغة، فإنَّها وازنتْ ألفاظها، وماثلتْ كلماتها، وقدَّرت فِقَرَها، وحسَّنت أسجاعها، فوازنت في الفِقْرة الأولى لحم برأس في الثَّانية، وجمل بجبل، وغثٍّ بوَغْثٍ، وقحرٍ بوعرٍ، فأفرغتْ كلَّ فقرةٍ في قالب أُختها، ونسجتْها على منوالِ صاحبتِها، ثمَّ في كلامها أيضًا نوع آخر من البديع وهو الموازنةُ، ويسمَّى التَّرصيع والتَّسميط والتَّصفير والتَّسجيع؛ وهو أن تتضمَّن الفِقَرُ أو بيتُ الشِّعر مقاطعَ أخر بقوافٍ مُتماثلة، غير فقر السَّجع وقوافي الشِّعر اللَّازمة، فيتوشَّح بها القول، وينفصل بها نظمُ اللَّفظ، كما أتت هذه المرأةُ بـ «جمَلٍ» في وسط الفقرةِ الأولى، و«جبَلٍ» في وسط الفقرة الأخرى، ففصلت بذلك الكلام على جزءٍ من المقابلة أثناءَ السَّجعتين اللَّتين(25) هما غثٌّ ووغثٌ، فجاء لكلِّ فقرةٍ سجعتان مُتقابلتان مُتماثلتان، ثمَّ في كلامها أيضًا نوعٌ من البديع يسمَّى المطابقة؛ وهو مقابلةُ الشَّيء بضدِّه، فقابلتِ الوعرَ بالسَّهل، والغثِّ بالسَّمين في الفقرتين الأخيرتين، وهو ممَّا يحسِّن الكلام ويروق بمناسبته، وفي طيِّه أيضًا نوعٌ من / المجانسةِ وهو تجانسُ جمَلٍ بجبَلٍ، وهو وإن(26) لم‼ يجانسْه في كلِّ حروفه فقد جانسَه في أكثرها، ثمَّ في كلامها أيضًا نوعٌ من البديعِ؛ وهو حُسن التَّفسير، وغرابةُ التَّقسيم، وإبداعُ حمل اللَّفظ على المعنى(27)، والمعنى على المعنى في المقابلةِ والتَّرتيب؛ وذلك في قولها: لا سهلٍ فيُرتَقى، ولا سمينٍ فيُنتَقى. فإنَّها فسَّرت ما ذكرت، وبيَّنت حقيقةَ ما شبَّهت، وقسَّمت كلَّ قسم على حيالهِ، وفصَّلت كلَّ فصلٍ من مثاله، وجاءتْ للفقرتين الأوليَين بفقرتين مفسِّرتين، وقابلتْ: لا سهلٍ فيُرتقى بقولها: ولا(28) سمينٍ فيُنتقى، وهذا يسمَّى المقابلة عند أهل النَّقد. ووقع في رواية النَّسائيِّ بتقديم(29): لا سمين فينتقى لعوده على اللَّحم المقدَّم، وتأخير سهلٍ لعطفه على الجبلِ المؤخَّر، فيكون أوَّلُ تفسيرٍ لأوَّل مفسَّر؛ وهو قولها: كلحمِ جملٍ، والثَّاني للثَّاني، فحملت اللَّفظ على اللَّفظ، ثمَّ ردَّت المقدَّم على المقدَّم، والمؤخَّر على المؤخَّر، فتقابلت معاني كلماتها، وترتَّبت ألفاظها. ثمَّ في كلامها أيضًا نوعٌ من البديع؛ وهو التزامُ ما لا يلزمُ في سجعها؛ وهو قولها: فيُرتَقى ويُنتقى، فالتزمتْ القاف والتاء في كلِّ سجعٍ قبل القافية، وقافية سجعها الياء المقصورة، وهذا نوع زيادةٍ في تحسينِ الكلامِ وتماثلهِ، وإغراقٍ في جودةِ تشابهه وتناسبهِ، ثمَّ فيه أيضًا نوع من البديع يسمَّى الإيغالُ؛ وهو أن يتمَّ كلام الشَّاعر قبل البيت، أو النَّاثر قبل السَّجع إن كان كلامه سجعًا، وقبل الفصلِ والقطعِ إن لم يكن كذلك، فيأتي بكلمةٍ لتمام قافيةِ البيتِ أو السَّجع، أو مقابلة الفصل والقطعِ، تفيد معنًى زائدًا، فإنَّها لو اقتصرتْ على تشبيهِ زوجها بلحمِ جملٍ على رأس جبلٍ لاكتفتْ ببعد منالهِ ومشقَّةِ الوصولِ إليه والزُّهد فيه، وهو غرضها، لكنَّها زادتْ بسجعِها غثٌّ ووعرٌ معنيين بيِّنين، وبالغت في القولِ فأفادتْ بزيادتها التَّناهي في غايةِ الوصف. انتهى كلامُ القاضِي، وإنَّما أطَلنا به لما فيه من فرائدِ الفوائدِ.
          وأما قوله في «التنقيح»: تريد أنَّه مع قلَّة خيره متكبِّرٌ على عشيرتهِ، فيجمع إلى منع الرِّفدِ سوء الخُلق. فتعقَّبه في «المصابيح» بأنَّه لا دَلالةَ في لفظها على أنَّه متكبِّرٌ على العشيرةِ مترفِّع على قومهِ. انتهى.
          ولعلَّ هذا أخذه الزَّركشيُّ من قول الخطَّابي: إنَّ تشبيهها له بالجبل الوعرِ إشارةٌ إلى سوءِ خلقه، وأنَّه يترفَّع ويتكبَّر ويسمو بنفسه، أي: جمع إلى قلَّةِ الخير التَّكبُّر.
          (قَالَتِ) المرأة (الثَّانِيَةُ) واسمها: عمرةُ بنت عَمرو التَّميميِّ، تذمُّ زوجها: (زَوْجِي لَا أَبُثُّ) بالموحَّدة المضمومة، أي: لا أظهرُ ولا أشيعُ (خَبَرَهُ) لطوله، وفي رواية‼ ذكرها القاضي عياض: «لا أنث» بالنون بدل الموحدة، أي: لا أظهر حديثهُ الَّذي لا خير فيه لأنَّ النَّث _بالنُّون_ أكثر ما يستعمل في الشَّرِّ، وعند الطَّبرانيِّ: «لا أنمُّ» بالنون والميم مِنَ النَّميمة (إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ) بالذال المعجمة، والضَّمير يعود على قولها: خبرَه، عند ابنِ السِّكِّيت، أي: أخاف أن لا أترك من خبرهِ شيئًا لأنَّه لطوله وكثرتهِ لم أستطع استيفاءهُ، فاكتفتْ بالإشارة خشية أن تطولَ العبارةُ، وقيل: يعود الضَّمير إلى زوجها، وكأنَّها خشيتْ إذا ذكرتْ ما فيه أن يبلغهُ فيفارقها، و«لا» زائدةٌ، أو أنَّها إن فارقتهُ لا تقدرُ على تركهِ(30) لعلاقتها به وأولادِها منه، فاكتفت بالإشارة إلى أنَّ له معايبَ، وفاءً بما التزمتْه من الصِّدقِ، وسكتتْ عن تفسيرها للمعنى الَّذي اعتذرتْ به (إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ) بالجزم جواب «إن» (عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ) بضم العين الموحدة وفتح الجيم. قال في «القاموس» وذكرَ عجرَهُ وبجرَهُ: أي عيوبَهُ وأمرَهُ كلَّه. وقال أبو عُبيد القاسمُ بن سلامٍ ثمَّ ابن السِّكِّيتِ: استعملا فيما يكتمهُ المرءُ ويخفيهِ عن غيره. وقال الخطَّابي: أرادَتْ عيوبه الظَّاهرة وأسرارهُ الكامنة. قال: ولعلَّه كان مستور الظَّاهر رديءَ الباطنِ. وقال عليُّ بن أبي طالبٍ: أشكو إلى اللهِ عجرِي وبُجرِي، أي: همومي وأحزانِي، وأصل العُجرة: الشَّيء يجتمعُ في الجسد كالسِّلعة، والبُجرة نحوها، وقيل: العجرُ في الظَّهر، والبجرُ في البطنِ.
          (قَالَتِ) المرأة (الثَّالِثَةُ) وهي حُبَّى _بضم الحاء المهملة وتشديد الموحدة مقصورًا_ بنت كعب اليمانيِّ تذمُّ زوجها: (زَوْجِي العَشَنَّقُ) بفتح العين المهملة والشين المعجمة والنون المشددة بعدها قاف، الطَّويل المذموم، السَّيِّئ الخلقِ، وقيل: ذمَّته بالطُّول لأنَّ الطُّول في / الغالب دليلُ السَّفه لبُعد الدِّماغ عن القلب (إِنْ أَنْطِقْ) بكسر الطاء، أي: إن أذكرْ عيوبَهُ فيبلغه (أُطَلَّقْ) بضم الهمزة وفتح الطاء واللام المشددة، مجزوم جواب الشَّرط (وَإِنْ أَسْكُتْ) عنها (أُعَلَّقْ) بوزن أُطلَّق السابقة، أي: يترُكني معلَّقةً؛ لا أيِّمًا فأتفرَّغ لغيره، ولا ذات بعلٍ فأنتفع به. وقال في «الفتح»: الَّذي يظهرُ لي أنَّها أرادتْ وصفَ سوء حالها عندهُ، فأشارتْ إلى سوءِ خلقهِ، وعدم احتماله لكلامِها إن شكت له حالها، وأنَّها تعلمُ أنَّها متى ذكرت له شيئًا من ذلك بادرَ إلى طلاقها، وهي لا تحبُّ تطليقهُ لها لمحبَّتها فيه، ثمَّ عبَّرت عن الجملةِ الثَّانية إشارة إلى أنَّها إن سكتتْ صابرةً على تلك الحال كانت عنده كالمعلَّقةِ. وقال القاضي عياضٌ: أوضحتْ بقولها: على حدِّ(31) السِّنان المُذَلَّقِ‼ مرادها بقولها قبل: إن أسكُت أعلَّق، وإن أنطِق أطلَّق، أي: أنَّها إن حادت عن السِّنان سقطت فهلكتْ، وإن استمرَّت عليه أهلكَها.
          (قَالَتِ) المرأة (الرَّابِعَةُ) واسمها مَهْدَد _بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الدال المهملة الأولى_ بنت أبي هرُومة _بالراء المضمومة وبعد الواو ميم_ تمدحُ زوجها: (زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ) بكسر التاء الفوقية، اسم لكلِّ ما نزلَ عن نجدٍ من بلاد الحجاز، وهو من التَّهَم _بفتح الفوقية والهاء_ ركودُ الرِّيح. وقال في «القاموس»: وتِهامة _بالكسر_ مكة شرَّفها الله تعالى. تريد: أنَّه ليس فيه أذى، بل راحةٌ ولذاذةُ عيشٍ، كليلِ تهامةَ لذيذٌ معتدلٌ (لَا حَرٌّ) مفرطٌ (وَلَا قُرٌّ) بضم القاف: ولا بردٌ، وهو لفظ رواية النَّسائيِّ، والاسمان رفع مع التنوين، كما في الفرع. وفي رواية الهيثم بن عديٍّ عند الدَّارقطنيِّ: «ولا وَخَامةَ» بواو وخاء معجمة مفتوحتين وبعد الألف ميم، يقال: مرعى وخِيم إذا كانت الماشيةُ لا تنجعُ عليه (وَلَا مَخَافَةٌَ، وَلَا سَآمَةٌَ) أي: لا ملالةَ لي ولا له من المصاحبةِ، والكلمتان مبنيتان على الفتح في الفرع، ويجوز الرَّفع كقراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ}[البقرة:197] بالرفع والتنوين فيهما، على أن «لا» ملغاة، وما بعدها رفع بالابتداءِ وسوَّغ الابتداء بالنَّكرة سبقُ النَّفي عليها، وبناء الثَّالث والرَّابع على أنَّ «لا» للتَّبرئة، والمعنى لا أخافُ له(32) غائلةً لكرمِ أخلاقهِ، ولا يسأمُني ولا يستثقِلُ(33) بي فيملَّ صُحبتي، وليس بِسيِّئ الخُلقِ فأسأم من عِشرته، فأنا لذيذةُ العيشِ عنده،كلذَّةِ أهل تهامةَ بليلهم المعتدلِ. وقال ابن الأنباريِّ: أرادت بقولها: ولا مخافةَ: أنَّ أهل تهامةَ لا يخافون لتحصُّنهم بجبالها، أو أرادتْ وصفَ زوجها بأنَّه حامِي الذِّمار مانعٌ لدارهِ وجارهِ، ولا مخافةَ عند من يَأوي إليه، ثمَّ وصفته بالجود، وقال غيره: قد ضَربوا المثلَ بليلِ تهامةَ في الطِّيب لأنَّها بلادٌ حارَّةٌ في غالب الزَّمان، وليس فيها رياحٌ باردةٌ، فإذا كان اللَّيل كان وهجُ الحرِّ ساكنًا، فيطيب اللَّيل لأهلها بالنِّسبة لما كانوا فيه من أذى حرِّ النَّهار.
          (قَالَتِ) المرأة (الخَامِسَةُ) واسمها: كَبْشة _بالموحدة الساكنة والمعجمة_ تمدحُ زوجها: (زَوْجِي إِنْ دَخَلَ) البيت (فَهِدَ) بفتح الفاء وكسر الهاء، فعل فِعْل الفَهد، يقال: فهدَ الرَّجلُ إذا أشبهَ الفَهد في كثرةِ نومه؛ تريد: أنَّه ينامُ ويغفلُ عن معايبِ البيتِ الَّذي يلزمُني إصلاحهُ، وقيل: تريد وثبَ عليَّ وثوب الفهدِ، كأنَّها تريد أنَّه يبادرَ إلى جماعها(34) من حبِّه لها بحيثُ إنَّه لا يصبرُ عنها إذا رآها. قال الكمالُ الدَّمِيريُّ: قالوا‼: أَنْوَمُ من فهدٍ، وأَوْثَبُ من فهدٍ. قال: ومن خلقه الغضب وذلك أنَّه إذا وثبَ على فريسةٍ(35) لا يتنفَّس(36) حتَّى ينالها. وقال القاضي عياض: حملهُ الأكثرُ على الاشتقاقِ من خلقِ الفهدِ، إمَّا من جهةِ قوَّة وثوبهِ، وإمَّا من كثرةِ نومه. قال: ويحتملُ أن يكون من جهة كثرة(37) كسبه لأنَّهم قالوا: أكسبُ من فهدٍ، وأصله أنَّ الفهود الهرمة تجتمعُ على فهدٍ منها فتيٍّ، فيتصيَّد عليها كل يومٍ حتى يشبعها، فكأنَّها قالتْ: إذا دخل المنزلَ دخل معه بالكسبِ لأهله، كما يجيءُ الفهدُ لمن يلوذُ به من الفهودِ الهرمةِ، ثمَّ لما كان في وصفِها له بالفهدِ ما قد يحتمل الذمَّ من جهةِ كثرة النَّوم رفعت اللبسَ بوصفها له بخلُق الأسدِ، فأوضحت أنَّ الأوَّل سجيَّة كرمٍ، ونزاهةُ شمائل، ومسامحةٌ في العشرةِ، لا سجيَّة جُبْنٍ وخور في الطَّبع، فقالت: (وَإِنْ خَرَجَ) من البيت (أَسِدَ) بكسر السين المهملة فعل / ماض؛ تريد: يفعلُ فعلَ الأسدِ في شجاعتهِ، وفيه _كما قال القاضي عياض_: المطابقةُ بين دخلَ وخرجَ لفظيَّةٌ، وبين فَهد وأَسد معنويَّةٌ، وتسمَّى أيضًا المقابلة، وفيها(38) أيضًا الاستعارةُ، فإنَّها استعارت له من الحالتين خلقًا واحدًا من هذينِ الحيوانين، فجاء في غايةٍ من الإيجاز والاختصار، ونهايةٍ من البلاغةِ والبيان، أي: إذا دخلَ تغافلَ وتناومَ، وإذا خرج صالَ، فلمَّا استعارتْ له خُلُقَ هذين السَّبعين في الحالتين اللَّازمتين له المختصَّتين أعربت بذلك عن تخلُّقه بهما والتزامهِ لوصفيهما، وعبَّرت عن جميع ذلك كلِّه بكلمةٍ كلمةٍ(39)، كلُّ واحدة من ثلاثة أحرف، حسنةِ التَّركيب، مع جمالها في اللَّفظ، ومناسبتها(40) في الوزن، وسهولتِها(41) في النُّطق (وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ) بفتح العين وكسر الهاء، أي: عمَّا له عهدٌ في البيت من ماله إذا فَقَدَهُ لتمام كرمهِ. وزاد الزُّبير بن بكَّار في آخره: «ولا يرفَعُ اليَوْمَ لِغَدٍ» أي: لا يدَّخر ما حصل عنده اليومَ من أجل غدٍ، فكنَّت بذلك عن غايةِ جودهِ، ويحتمل أن يكون المراد(42) من(43) قولها: فهد _على تفسيره بالوثوبِ عليها للجماعِ_ الذَّمُّ من جهةِ أنَّه غليظُ الطَّبع، ليستْ عنده مداعبةٌ قبل المواقعةِ، بل يثبُ وثوبَ الوحشِ، أو أنَّه كان سَيِّئَ الخلقِ يبطشُ بها ويضربُها، وإذا خرجَ على النَّاس كان أمرهُ أشدَّ في الجرأةِ والإقدامِ والمهابةِ كالأسدِ، ولا يسألُ عمَّا تغيَّر من حالها، حتَّى لو عرف أنَّها مريضةٌ أو معوزةٌ وغاب ثمَّ جاء لا يسأل عن ذلك، ولا يتفقَّد حال أهلهِ ولا بيته، بل إن ذكرت له شيئًا من ذلك وثب عليها بالبطشِ والضَّربِ.
          (قَالَتِ) المرأة (السَّادِسَةُ) واسمها هندٌ، تذمُّ زوجها: (زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ) باللام المفتوحة والفاء المشددة فعل ماضٍ، أي: أكثر الأكلَ من الطَّعام مع التَّخليطِ من صنوفهِ، حتى لا يُبقي منه شيئًا من نهمتهِ وشرههِ، وعند النَّسائيِّ من رواية عمرَ بن عبدِ الله: «إذا أكلَ اقتفَّ» بالقاف، أي: جمع واستوعبَ، وحكى القاضي عياض: أنَّه روي ”رفَّ“ «بالراء» بدل: «اللام»‼. قال: وهي بمعنى: لفَّ (وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ) بالشين المعجمة، أي: استقصَى ما في الإناءِ، وقيل: رويت ”استفَّ“ بالسين المهملة، وهي بمعناها (وَإِنِ اضْطَجَعَ) نامَ (التَفَّ) في ثيابه وحدهُ في ناحيةٍ من البيت وانقبضَ عنها، فهي كئيبةٌ لذلك، كما قالت: (وَلَا يُولِجُ الكَفَّ) أي: لا يدخلُ كفَّهُ داخلَ ثوبي (لِيَعْلَمَ البَثَّ) أي: الحزنَ الَّذي عندي لعدمِ(44) الحُظوةِ منه، فجمعت في ذمِّها له بين اللُّؤم والبخلِ، وسوء العشرةِ مع أهله، وقلَّة رغبتهِ في النِّكاح، مع كثرة شهوتهِ في الطَّعام والشَّراب، وهذا غايةُ الذَّمِّ عند العربِ، فإنَّها تذمُّ بكثرة الطَّعام والشَّرابِ، وتتمدح بقلَّتهما وبكثرة الجماع لدَلالة ذلك على صحَّة الذُّكوريَّة والفحوليَّة، وقول أبي عبيدٍ في قولها: ولا يولج الكفَّ، أنَّه كان في جسدها عيبٌ، فكان(45) لا يدخلُ يده في ثوبها ليلمسَ ذلك العيبَ لئلا يشقَّ عليها(46)، فمدحته بذلك. تعقَّبه ابن قتيبةَ بأنَّها قد ذمَّته في صدر الكلامِ، فكيف تمدحهُ في آخره؟ وأجابَ ابن الأنباريِّ بأنَّه لا مانع أن تجمعَ المرأةُ بين مثالب زوجِها ومناقبه لأنهنَّ كنَّ تعاهدنَ أن لا يكتمنَ من صفاتهم شيئًا، فمنهنَّ(47) من وصفتْ زوجها بالخيرِ في جميعِ أموره، ومنهنَّ من ذمَّته في جميع أموره(48)، ومنهنَّ من جمعت، وفي كلام هذه من البديعِ المناسبة والمقابلةُ في قولها: إن أكلَ وإن شربَ، والالتزامُ فإنَّها التزمت التاء قبل الفاء، وقافية سجعها الفاء، وفيه التَّرصيعُ وهو حسنُ التَّقسيم والتَّتبُّع والإرداف، وهو من باب الكنايات والإشارات، وهو التَّعبير بالشَّيء بأحد توابعه، وكلٌّ من الكنايات الحسِّيَّة لأنَّها عبَّرت بقولها: التفَّ، واكتفتْ به عن الإعراض عنها وقلَّة الاشتغال بها.
          (قَالَتِ) المرأة (السَّابِعَةُ) واسمها حُبَّى بنت علقمة تذمُّ زوجها: (زَوْجِي غَيَايَاءُ) بالغين المعجمة والتحتيتين المفتوحتين بينهما ألف مهموز ممدود مخفف، مأخوذ من الغَيِّ _بفتح المعجمة_ الَّذي هو الخيبةُ. قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[مريم:59] أو من الغيايةِ _بتحتيتين بينهما ألف_ وهو كلُّ شيءٍ أظل الشَّخص فوق رأسهِ، فكأنَّه مغطَّى عليه من جهلهِ فلا يهتدِي إلى مسالكٍ(49)، أو أنَّه كالظِّلِّ المتكاثف الظُّلمةِ الَّذي لا إشراقَ فيه (أَوْ) قالت: (عَيَايَاءُ) / بالمهملة الَّذي لا يضربُ ولا يلقحُ من الإبل، أو هو من العِيِّ _بكسر العين(50) المهملة_ أي: الذي يعييهِ مباضعةُ النِّساءِ، والشَّكُّ من عيسى بنِ يونسَ بنِ أبي إسحاقَ السَّبيعيِّ الرَّاوي. وقال الكِرْمانيُّ: هو تنويعٌ من الزَّوجةِ القائلةِ، كما صرَّح به أبو يعلى في «روايته»‼ عن أحمد بنِ جنابٍ عنه، وللنَّسائيِّ من رواية عمر بنِ عبدِ الله: «غَيَاياء» بمعجمة من غير شكٍّ (طَبَاقَاءُ) بطاء مهملة فموحدة مفتوحتين فألف فقاف ممدود: هو الأحمقُ، أو الَّذي لا يحسن الضِّراب، أو الَّذي تنطبقُ عليه أمورهُ(51)، أو الثَّقيلُ الصَّدر عند الجماعِ، يطبق صدرهُ على صدرِ المرأةِ عند الجماعِ، فيرتفع أسفلهُ عنها فلا تستمتعُ به، وقد ذمَّت امرأةٌ امرئَ القيسِ فقالت له: ثقيلُ الصَّدرِ خفيفُ العَجُزِ، سريعُ الإراقةِ، بطيءُ الإفاقةِ (كُلُّ) ما تفرَّقَ في النَّاس من (دَاءٍ) ومعايب (لَهُ دَاءٌ) أي: موجود فيه. قال القاضي عياض: في هذا من لطيف الوحي والإشارة الغاية لأنَّه انطوى تحت هذه اللَّفظة كلامٌ كثير (شَجَّكِ) بشين معجمة وجيم مشددة مفتوحتين وكاف مكسورة(52)، أي: أصابك بشجةٍ في رأسك (أَوْ فَلَّكِ) بفاء ولام مشددة مفتوحتين وكاف مكسورة، أي: أصابك بجرحٍ في جسدك، أو كسرك، أو ذهب بمالك، أو قسرك بخصومتهِ. وزاد ابن السِّكِّيت في رواية: «أو بَجَّكِ» بموحدة وجيم مشددة مفتوحتين وكاف مكسورة، أي: طعنك في جراحتك فشقَّها، والبجُّ شقُّ القرحةِ (أَوْ جَمَعَ كُلًّا) من الشَّجِّ والفلِّ (لَكِ) وفي رواية الزُّبير: «إن حدَّثته سبَّك، وإن مازحتهُ فلَّك، وإلَّا جمع كلًّا لكَ»، فوصفته _كما قال القاضي عياض_: بالحمق والتَّناهي في سوء العشرةِ وجمع النَّقائصِ بأن يعجزَ عن قضاءِ وطرها مع الأذى، فإذا حَدَّثته سبَّها، وإذا مازحتهُ(53) شجَّها، وإذا أغضبتهُ كسر عضوًا من أعضائِها، أو شقَّ جِلدها، أو جمع كلَّ ذلك من الضَّرب والجرح وكسرِ العضوِ وموجع الكلامِ، وفي هذا القول من البديع المطابقةُ والالتزام في قولها: شجَّك، فلَّك، بجَّك، جمع كلًّا لك. والتَّقسيم وبديع الوحي والإشارة بقولها: كلُّ داءٍ له داءٌ(54). وهو من لطيف الوحي والإشارة، وهي جملة أنبأت بوجازةِ ألفاظها، وأعربتْ بلطائفِ إشاراتها عن معانٍ كثيرةٍ.
          (قَالَتِ) المرأة (الثَّامِنَةُ) وهي ياسر بنت أوس بنِ عبدٍ، تمدحُ زوجها: (زَوْجِي المَسُّ) منه (مَسُّ أَرْنَبٍ) وصفتهُ بأنَّه ناعمُ الجلد(55) كنعومة وبر الأرنبِ، أو كنَّت بذلك عن حسنِ خلقهِ، ولينِ جانبهِ (وَالرِّيحُ) منه (رِيحُ زَرْنَبٍ) أي: طيِّب العرقِ لنظافته واستعمالهِ الطِّيب والزَّرنَب: بزاي مفتوحة فراء ساكنة فنون مفتوحة فموحدة. قال في «القاموس»: طِيْبٌ أو شجرٌ طيِّبُ الرَّائحةِ والزَّعفرانِ، ويحتمل أن تكون كنَّت بذلك عن طيبِ الثَّناء عليه لجميلِ معاشرتهِ. وقال القاضي عياض: هذا من التَّشبيه بغير أداةٍ، وفيه حسن المناسبة والمقابلة بقولها: المسُّ مسُّ أرنبٍ، والالتزام في قولها: أرنبٍ وزرنبٍ، فإنَّها التزمت الراء والنون(56)، وزاد الزُّبير بن بكَّار والنَّسائيُّ من رواية عقبة: «وأَنا أَغْلِبُهُ والنَّاسَ يَغْلِبُ» فوصفته مع جميل العشرةِ لها والصَّبر‼ عليها بالشَّجاعة، وهذا كما حكاه صاحب «تحفة النفوس»: أنَّ صعصعة بنَ صوحانَ قال يومًا لمعاوية: كيف ننسبك إلى العقلِ وقد غلبكَ نصفُ إنسانٍ؟ يريد: امرأتَهُ فاختةَ بنت قَرَظَة. فقال: إنهنَّ يغلبنَ الكرام ويغلبهنَّ اللِّئام. وقال عياض: وقولها: والنَّاسَ يغلبُ، فيه نوعٌ من البديع يسمَّى التَّتميم؛ لأنَّها لو اقتصرت على قولها: وأنا أغلبهُ لَظُنَّ أنَّه جبانٌ ضعيفٌ، فلمَّا قالت: والنَّاسَ يغلب. دلَّ على أن غلْبها إيَّاه إنَّما هو من كرمِ سجاياه، فتمَّمت بهذه الكلمةِ للمبالغةِ في حُسن أوصافه.
          (قَالَتِ) المرأة (التَّاسِعَةُ) ولم تسمَّ، تمدحُ زوجها: (زَوْجِي رَفِيعُ العِمَادِ) بكسر العين المهملة، وهو العمود الَّذي يدعم به البيت؛ تعني: أنَّ البيت الَّذي يسكنُه رفيعُ العمادِ ليراه الضِّيفان وأصحابُ الحوائج فيقصدونهُ(57) كما كانت بيوت الأجواد، يعلونَها ويضربونَها في المواضع المرتفعةِ ليقصدهم الطَّارقون والطَّالبون، أو هو مجازٌ عن زيادة شرفهِ وعلوِّ ذِكْره (طَوِيلُ النِّجَادِ) بكسر النون بعدها جيم فألف فدال مهملة. قال في / «القاموس»: ككِتَاب، حمائل السَّيفِ، أي: طويل القامةِ، وفي ضمنِ كلامها: أنَّه صاحبُ سيف، فأشارت إلى شجاعتهِ (عَظِيمُ الرَّمَادِ) لأنَّ نارهُ لا تطفأُ لتهتدي الضِّيفان إليها، فيصير رمادها كثيرًا لذلك، أو كنَّت به عن كونه مضيافًا لأنَّ كثرةَ الرَّمادِ مستلزمةٌ لكثرة الطَّبخ المستلزم(58) لكثرة الأضيافِ، وهذه الكنايةُ عندهم من الكنايات البعيدةِ لأنَّ الانتقال فيها من الكِناية إلى المطلوبِ بها بواسطة، فإنَّه ينتقل من كثرة الرَّماد إلى كثرةِ إحراق الحطبِ تحت القدْر(59)، ومن كثرةِ الإحراقِ إلى كثرة الطَّبائخِ، ومنها إلى كثرةِ الآكلين، ومنها كثرةُ(60) الضِّيفان.
          وههنا فائدةٌ جليلةٌ في الفرق بين الكنايةِ والمجاز: قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين السُّبكي: ومن خطِّه نقلتُ من الفروق المشهورةِ بينهما(61): أنَّ الحقيقةَ لا يصحُّ إرادَتُها مع المجاز وتصحُّ إرادتها مع الكنايةِ، وأقول هذا صحيحٌ ولا يحصل به شفاء لأنَّ الكناية إن أريد بها معناها كانت حقيقةً، وإن أريدَ بها المكنَّى عنه كانت مجازًا، وأيضًا فإنَّ هذا إنَّما يجيءُ عند من لا يجوِّز الجمعَ بين الحقيقةِ والمجاز أمَّا من يجوِّزه فلا يمنع إرادة الحقيقةِ مع إرادةِ(62) المجاز. والجواب: أنَّ الكناية مثل قولنا(63): كثير الرَّماد. له ثلاثة أحوال:
          أحدها: أن يراد حقيقتهُ فقط من غير أن يقصدَ معنى الكرم، فهذا حقيقةٌ، لا كناية ولا مجاز بأن يريد الإخبار عن رجلٍ عنده رمادٌ كثيرٌ حاصل عنده، وإن كان بخيلًا.
          الثَّاني: أن يقصدَ بقوله: كثير الرَّمادِ، استعماله في معنى كريمٍ، ونقله إليه على وجه الاستعارةِ‼ لما بينهما من العلاقةِ، وهذا مجازٌ لأنَّه استعمال اللَّفظ في غير(64) موضوعهِ.
          الثَّالث: أن يقصدَ استعماله في معناه الحقيقيِّ ليفيد معنى الكرمِ؛ للزومهِ له غالبًا، وهذا هو الكنايةُ، فالمعنى الحقيقي مرادٌ، والمعنى المجازي مرادٌ بالدَّلالة عليه بالمعنى الحقيقيِّ، فعلى هذا ينبغي حمل قولهم: إنَّه تجتمع(65) الكنايةُ مع الحقيقة بخلاف المجازِ، ولا فرقَ بين أن يقول: يجوز الجمعُ بين الحقيقةِ والمجاز أو لا؛ لأنَّ معنى الجمع بين الحقيقةِ والمجاز(66) أنْ يريدهما بكلمةٍ واحدةٍ يستعملها فيهما، والكناية لم يستعملها فيهما، وإنَّما(67) استعملها في أحدهما للدَّلالة على الآخرِ، والتَّعريض قريبٌ من الكنايةِ، يشتركان في إرادةِ الحقيقةِ، وفي قصدِ إفادة معنى آخر، ويفترقان في أنَّ المفاد بالكناية على جهة اللُّزوم غالبًا والدَّلالة عليه قويَّة، وفي التَّعريض بخلافهِ، والله أعلم. انتهى.
          (قَرِيبُ البَيْتِ مِنَ النَّادِ) من مجلس القومِ، فإذا(68) اشتورُوا على(69) أمرٍ اعتمدوا على رأيهِ وامتثلوا أمره لشرفهِ في قومهِ، أو وَصَفتْه بقرب البيتِ لطالبِ القرى القريب، وبالجملة فقد وصفته بالسِّيادةِ والكرمِ، وحسن الخلقِ، وطيبِ المعاشرةِ، والنَّادي بالياء على الأصل، لكن المشهور في الرواية حذفها، وبه يتم السَّجع، وفي قولها من البديعِ: المناسبةُ والاستعارةُ والإردافُ والتَّتبُّع وحسنُ التَّسجيع، فناسبت ألفاظها، وقابلَتْ كلماتها بقولها: رفيع العمادِ، طويل النِّجادِ، فكلُّ لفظةٍ على وزن صاحبتِها، وفيه: الإرداف والتَّتبع في طويل النِّجاد، فطول النِّجاد من توابع الطُّول ولوازمه، وعظيم الرَّماد من توابع الكرمِ وروادفه، وكذلك قريبُ البيت من النَّاد، من التَّتبُّع البديع أيضًا؛ إذ العادةُ أنَّه لا ينزل قرب النَّادي إلا المنتصب للضِّيفان، فكان ردفًا لكرمهِ وجودهِ. وقولها: طويل النِّجادِ، أبلغُ وأكمل من قولها: طويل، فلمَّا عبَّرت عنه بما هو من توابعه بقولها: طويل النِّجاد أبلغت في طوله، وكأنَّها أظهرت طولَه للسَّامع صورةً ليراها، مع ما في هذه الصِّيغة من طلاوة اللَّفظ مع الإيجاز؛ إذ لو أرادت تحقيقَ طوله المحمود لطالَ كلامها، وتحت هذه الألفاظ الوجيزة جملٌ كثيرةٌ، أعربتْ هذه الكنايات اللَّطيفةُ عنها، وأين هي في البلاغةِ(70) من قولها لو قالت: زوجي كريمٌ، كثيرُ الضَّيفانِ، أو أكرمُ النَّاس؟ فإن واحدًا من هذه الأوصاف _على كثرة ألفاظها ومبالغةِ أوصافها_ لا ينتهي مُنتهى واحد من قولها: عظيم الرَّماد. قال القاضي عياض: إذا لمحتَ كلام هذه‼ وتأمَّلتهُ، ألفيتَها لأفانينِ البلاغةِ جامعة، وبعلم البيان وبعضِ الإيجاز والقصدِ قارعة. انتهى. /
          (قَالَتِ) المرأة (العَاشِرَةُ) واسمها كبشةُ _كاسم الخامسة(71)_ بنت الأرقم _بالراء والقاف_ تمدحُ زوجها: (زَوْجِي مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ؟!) استفهاميَّة للتَّعجُّب والتَّعظيم، أي: أيُّ شيءٍ هو مالكٌ؟! ما أعظمهُ وأكرمهُ! (مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ) بكسر الكاف(72)، زيادة في الإعظام وترفيع المكانة، وتفسير لبعض الإبهام، وإنَّه خيرٌ ممَّا أشير إليه من ثناءٍ وطيب ذكرٍ (لَهُ) أي: لزوجي (إِبِلٌ كَثِيرَاتُ المَبَارِكِ) بفتح الميم، جمع مَبْرَك، وهو موضعُ البُروك، أي: كثيرة، ومباركها(73) كذلك، أو كثيرًا ما تُثار فتُحلب، ثمَّ تُتْرك(74)، فتكثُر مباركها لذلك (قَلِيلَاتُ المَسَارِحِ) لاستعداده للضِّيفان بها لا يوجه منها إلى المرعى إلَّا قليلًا، ويترك سائرها بفنائهِ، فإن فاجأهُ ضيفٌ وجدَ عنده ما يقْرِيه به من لحومِها وألبانها (وَإِذَا سَمِعْنَ) أي: الإبل (صَوْتَ المِزْهَرِ) عند ضربهِ به فرحًا بالضِّيفان عند قدومِهم عليه (أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ) لمعرفتهنَّ بعقرهنَّ للضِّيفان لما كثرت عادته بذلك، والمِزْهَر بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الهاء بعدها راء: آلةٌ من آلاتِ اللَّهو. والحاصل: أنَّها جمعتْ في وصفها له بين الثَّروة والكرم(75) وكثرة القِرى والاستعداد له.
          (قَالَتِ) المرأة (الحَادِيَةَ عَشْرَةَ) وهي أمُّ زرع بنت أُكَيمل بن ساعدة اليمنيَّة، واسمها _فيما حكاه ابن دُرَيد_: عاتكةُ، تمدح زوجها: (زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ، فَمَا) بالفاء، ولأبي ذرٍّ: ”وما“ (أَبُو زَرْعٍ؟!) أخبرت أولًا باسمهِ، ثمَّ عظَّمت شأنه بقولها: فما أبو زرعٍ، أي: إنَّه لشيءٍ عظيم، كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:1_2] وزاد الطَّبرانيُّ: «صاحبُ نعمٍ وزرعٍ» (أَنَاسَ) بهمزة مفتوحة فنون مخففة فألف فسين مهملة، أي: حرَّك (مِنْ حُلِيٍّ) بضم الحاء المهملة وكسر اللام وتشديد التحتية، أي: ملأَ (أُذُنَيَّ) تثنية أُذن، من أقراطٍ وشُنُفٍ من ذهبٍ ولؤلؤٍ، حتَّى تدلَّى ذلك واضطربَ من كثرتهِ وثقلهِ. وفي رواية ابن السِّكِّيت: «أُذنيَّ وفَرْعيَّ» بالتَّثنية، أي: يديها؛ لأنَّهما كالفرعين من الجسدِ، تريد: حليَّ أُذنيَّ ومعصميَّ (وَمَلأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ) بتشديد التحتية، تثنية عضد. قال في «القاموس»: بالفتح وبالضم وبالكسر، وككَتِفٍ ونَدُسٍ وعُنُقٍ؛ ما بين المرفقِ إلى الكتف، وهما إذا سمنا سمنَ الجسد كلُّه. فذكرها العضدين للسَّجع ودَلالتهما على الباقي، فكأنَّها قالت: أسمنَنِي وملأ بدَنِي شحمًا (وَبَجَحَنِي) بموحدة وجيم مخففة، وفي «اليونينية» مشددة(76)، وحاء مهملة‼ مفتوحات ثم نون مكسورة، عظَّمَني (فَبَجَحَتْ) بفتحات(77) ثمَّ سكون الفوقية (إِلَيَّ) بتشديد التحتية (نَفْسِي) فعظمتْ عندي، أو فخرنِي ففخرتُ(78)، أو وَسَّع عليَّ وترَّفني، وعند النَّسائيِّ: «وبجَّحَ نفسِي فبجِحَتْ إليَّ»(79) بالتشديد، أي: فرَّحَنِي ففرحتُ (وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ) بضم الغين المعجمة وفتح النون، تصغير(80) غنم، وأنَّث على إرادة الجماعة، تقول: إنَّ أهلها كانوا ذوي غنمٍ، وليسوا أصحاب إبلٍ ولا خيلٍ (بِشِقٍّ) بموحدة ومعجمة مكسورة عند المحدِّثين، مفتوحة عند غيرهم، اسم موضعٍ، أو هو بالكسر، أي: مشقَّة من ضيقِ العيشِ والجهدِ، أو بشقِّ جبلٍ، أي: ناحيتهِ، كانوا يسكنونه لقلَّتهم وقلَّةِ غنمهم، وبالفتح شَقٌّ في الجبل كالغارِ فيه (فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ) صوت خيلٍ (و) أهل (أَطِيْطٍ) صوت إبل من ثقلِ حملِها، وزاد النَّسائيُّ: «وجاملٍ» وهو جمع: جملٍ، أو اسم فاعل لمالك الجمال، كقوله: لابِنٍ وتامِرٍ (وَ) أهلُ (دَائِسٍ) يدوسُ الزَّرعَ في بيدرهِ ليخرج الحبَّ من السُّنبل (وَمُنَقٍّ) بفتح النون في الفرع وتشديد القاف مِنْ نقَّى الطَّعام تنقيةً، أي: يزيلُ ما يختلط به من قشرٍ ونحوه، وروي بكسر النون. قال أبو عُبيد(81): ولا أعرفهُ، فإن صحَّتِ الرِّوايةُ به فهو من النَّقيقِ، وهو أصوات المواشي والأنعام، فتكونُ وَصَفَتْهُ بكثرة الأموالِ، وأنَّه نقلها من شدَّةِ العيشِ وجهدهِ إلى الثَّروة الواسعةِ من الخيل والإبل والزَّرع (فَعِنْدَهُ) أي: عند زوجِي (أَقُولُ) وفي رواية الزُّبير: «أتكلَّم» (فَلَا أُقَبَّحُ) بضم الهمزة وفتح القاف والموحدة المشددة بعدها حاء مهملة مبنيًّا للمفعول، فلا يقال لي(82): قبَّحك الله، أو لا يقبِّح قولي لكثرة إكرامهِ لي لمحبتهِ لي ورفعة مكاني عنده (وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ) بهمزة وفوقية ومهملة وموحدة مشددة مفتوحات ثم حاء مهملة، أي: أنامُ الصُّبحةَ _وهي نوم(83) أول النَّهار_ فلا / أوقظ لأنَّ لي من يكفينِي مؤونةَ بيتي ومهنةَ أهلي (وَأَشْرَبُ) الماءَ أو اللَّبن أو غيرهما (فَأَتَقَنَّحُ) بهمزة ففوقية فقاف فنون مشددة، لأبي ذرٍّ: مفتوحات، فحاء مهملة، أي: أشربُ كثيرًا حتَّى لا أجدُ مساغًا، أو لا أتقلَّل من مشروبي، ولا يقطع عليَّ حتَّى تتمَّ شهوتي منه. وفي رواية الهيثم: ”وآكلُ فأتمنَّحُ“ أي: أُطْعِم غيرِي، يقال: منحَهُ يمنحُهُ إذا أعطاهُ. وأتتْ بالألفاظ كلِّها بوزن أتفعَّل لتفيد تكرر ذلك، وملازمته مرَّةً بعد أخرى، ومطالبة نفسها أو غيرها بذلك، وقول أبي عُبيدٍ: لا أراها قالت: فَأَتَقَنَّحُ، إلَّا لعزَّةِ الماء عندهم، أي: فلذلك فخرَت بالرِّي من الماءِ. تعقِّب بأنَّ السِّياق ليس فيه ذكر الماء، فهو محتملٌ له ولغيره من الأشربةِ، قيل: إن لم تثبتْ رواية الهيثم: ”وآكلُ فأتمنَّحُ“ ففي اقتصارها على ذكر الشُّرب إشارة إلى أنَّ المراد به اللَّبن لأنَّه هو الَّذي يقومُ مقامَ الطَّعام والشَّراب، ولغير أبي ذرٍّ: ”فأتقمَّحُ“‼ بالميم بدل النون، كما ذكرها المصنف بعدُ عن بعضهم، وقال: إنَّها أصحُّ، فقول القاضي عياض: إنَّه لم يقعْ في «الصحيحين» إلَّا بالنُّون، ورواه الأكثر في غيرهما بالميم لا يخفى ما فيه. قال أبو عبيد: أتقمَّح _بالميم_، أي: أُروى حتَّى لا أشرب، مأخوذٌ من النَّاقة القامحِ، وهي الَّتي تردُ الحوضَ فلا تشربُ، وترفعُ رأسها ريًّا، أو هما بمعنى.
          (أُمُّ أَبِي زَرْعٍ) زوجي(84) (فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ؟!) ما: استفهاميَّة للتعجُّب والتَّعظيم (عُكُومُهَا) بضم العين المهملة والكاف والميم، أي: أعدَالُها وغَرائرها الَّتي تجمعُ فيها أمتعتها، أو نمطها الَّذي تجعل فيه ذَخِيرتها. ذكره في «القاموس» وغيره (رَدَاحٌ) بفتح الراء والدال المهملتين وبعد الألف حاء مهملة مرفوع، أي: عُكُومها كلُّها رداحٌ ثقيلةٌ، فوصفَها بالثِّقلِ لكثرةِ ما فيها من المتاعِ والثِّيابِ. وقال في «النهاية»: أي: ثقيلةُ الكفلِ، ويصحُّ أن يكون رداح خبر عُكوم، فيخبر عن الجمع بالجمعِ، أو خبر لمبتدأ محذوفٍ، أي: كلُّها رداحٌ كما مرَّ، على أنَّ «رداحٌ» واحد جمعه: رُدُح _بضمتين_، وقد سمع الخبرُ عن الجمعِ بالواحد، مثل: أَدْرُع دِلَاص، فيحتملُ أن يكون هذا منه، ويحتملُ أن يكون مصدرًا كطلاقٍ وكمالٍ، أي: على حذف مضاف، أي: عُكُومها ذاتُ رداحٍ (وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ) بفاء مفتوحة فسين مهملة مخففة فألف فحاء مهملة، مرفوعٌ واسعٌ كبير. والحاصل: أنَّها وصفت والدةَ زوجها بكثرة الآلاتِ والأثاث والقُماشِ وسعة المالِ، كبيرةُ المنزلِ لبرِّ ابنها أبي زرعٍ لها، وأنَّه لم يطعنْ في السِّنِّ لأنَّ ذلك هو الغالبُ ممَّن يكون له والدة.
          (ابْنُ) زوجي (أَبِي زَرْعٍ) ولم يسمَّ (فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ؟! مَضْجِعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ) بفتح الميم والسين المهملة وتشديد اللام، مصدر ميميٌّ بمعنى المسلولِ، والشَّطْبَةُ بفتح الشين المعجمة، السَّعفة الخضراء، يشقُّ منها قضبانٌ رقاقٌ، ينسج منها الحصرُ، أي: موضعه الَّذي ينام فيه في الصِّغر كمسلولِ(85) الشَّطبةِ، ويلزم منه كونه مهفهفًا، أو أرادت سيفًا سلَّ من غمدهِ، والعرب تشبه الرَّجل بالسَّيف لخشونةِ جانبهِ ومهابتهِ، أو لجماله ورونقهِ وكمالِ لألائه، أو لكمال صورته في استوائِها واعتدالِها (وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الجَفْرَةِ) بفتح الجيم وسكون الفاء بعدها راء، الأنثى من ولد المعزِ، ابنُ أربعةِ أشهرٍ، وفصل عن أمِّه، وأخذ في الرَّعي، ويقال لولد الضَّأن أيضًا إذا كان ثنيًّا. وفي «القاموس»: الجفرُ من أولادِ الشَّاء ما عظم واستكرشَ، أو بلغ أربعة أشهرٍ.
          وزاد ابن الأنباريِّ: ”وترويه فِيْقةُ اليَعْرةِ، ويميْسُ في حلَّة النَّتْرةِ“. فقولها: وترويهِ من الإرواءِ. والفِيْقَة بكسر الفاء وسكون التحتية بعدها قاف: ما يجتمع في الضَّرع بين الحلبتينِ. واليَعْرة بفتح التحتية وسكون العين المهملة بعدها راء: العناق. ويميْسُ بالسين المهملة: يتبخترُ. والنَّتْرة بالنون المفتوحة ثمَّ الفوقية الساكنة: الدِّرعُ اللَّطيفةُ، وقيل: اللَّينةُ الملمسِ(86)‼. والحاصل: أنَّها وصفتهُ بهَيْفِ القَدِّ، وأنَّه ليس ببطينٍ ولا جافٍّ، وأنَّه قليل الأكلِ والشُّرب، ملازم لآلة الحربِ، يختالُ في موضع القتال، وذلك ممَّا تتمادحُ به العرب.
          (بِنْتُ) زوجي (أَبِي زَرْعٍ، فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ؟!) في مسلم: «وما» «بالواو» بدل: «الفاء»، ولم تسمَّ البنت المذكورة (طَوْعُ أَبِيهَا، وَطَوْعُ أُمِّهَا) فلا تخرج عن أمرِهما، وصفتْها ببرِّهما، وزاد الزُّبير: «وزينُ أهلِها ونِسَائها» أي / : يتجمَّلون بها (وَمِلْءُ كِسَائِهَا) لامتلاءِ جسمِها وسمنها (وَغَيْظُ جَارَتِهَا) أي: ضرَّتها لما ترى من جمالها وأدَبِها وعفَّتها. وقول الزَّركشيِّ كغيره: في هذه الألفاظ دليلٌ لسيبويه في إجازته: مررتُ برجلٍ حسنٌٍ وجهه. خلافًا للمبرِّد والزَّجَّاج، أي: حيث أنكرا إجازة مثل ذلك لأنَّه من إضافة الشَّيء إلى مثله. تعقَّبه البدرُ الدَّمامينيُّ فقال: ما أظنُّ أنَّ سيبويه يرضَى بهذا الاستدلال؛ وذلك لأنَّ كلًّا من طوعٍ وملءٍ وغيظٍ ليس صفة مشبَّهة، ولا اسم فاعل، ولا مفعول من فعل لازم، حتَّى يجري مجرى الصِّفة المشبَّهة، وإنَّما كلٌّ منها مصدر لفعل متعدٍّ، فطوعُ أبيها بمعنى: طائعةُ أبيها، أي: مطيعةٌ ومنقادةٌ له، وملءُ كسائها، أي: مالئةٌ كساءها، وغيظُ جارتها، أي: غائظةٌ جارتها، وجواز مثل هذا في اسم الفاعلِ من الفعل المتعدِّي جائزٌ بالإجماع، لا يخالفُ فيه المبرد ولا الزَّجَّاج ولا غيرهما، وبالجملة فليس هذا من محلِّ النِّزاع في شيءٍ. انتهى.
          وعند مسلم من رواية سعيد بن سلمة: «وحَقْرِ(87) جارتِها» بفتح الحاء المهملة وسكون القاف، أي: دهشتها أو قتلتها، وللطبراني: «وحَيْن جارتها» بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية بعدها نون، أي: هلاكها. وزاد ابن السِّكِّيت: «قَبَّاءٌ، هضيمة الحشَا، جَائلَةُ الوِشَاحِ، عَكْنَاء، فَعْمَاءُ، نَجْلاء، دَعْجَاءُ، زَجَّاء، قَنْوَاء مُؤنَّقةٌ مُعنَّقةٌ». فقوله: قَبَّاء بفتح القاف وتشديد الموحدة، أي: ضامرةُ(88) البطنِ. وهضيمةُ الحشَا بمعنى ضامرة. وجائلةُ الوِشاح بالجيم، والوِشاح بكسر الواو، أي: يدورُ وشاحها لضمورِ بطنها، والوشاح قال في «القاموس»: _بالضم والكسر_ كِرْسانٌ من لؤلؤٍ وجوهرٍ منظومان يخالفُ بينهما، معطوفٌ أحدهما على الآخر، أو أديمٌ عريضٌ(89) مرصَّعٌ بالجوهر، تشدُّه المرأة بين عاتقيها وكشحَيها، وهي غَرثى الوشاحِ هيفاءُ. وعَكْنَاء بفتح العين المهملة وسكون الكاف وبالنون والمد، أي: ذاتُ عُكنٍ، وهي طيَّاتُ بطنِها، وفَعْماءُ بفتح الفاء وسكون العين المهملة وبالمد، أي:(90) ممتلئةُ الأعضاءِ، ونَجْلاء بفتح النون وسكون الجيم والمد، واسعة العين. ودَعْجَاء من الدَّعج _بالجيم_ شدَّةُ سوادِ العين في شدَّةِ بياضها. وزَجَّاء بالزاي والجيم المشددة، من الزَّجَج، وهو تقويسُ الحاجبِ مع طولٍ في أطرافهِ وامتدادهِ‼، وقيل:« بالراء» بدل: «الزاي»، أي: كبيرةُ الكِفْل ترتجُّ من عظمهِ. وقَنْواء بفتح القاف وسكون النون والمد، من القَنو، طولٌ في الأنف، ودقَّة الأرنبة مع حدبٍ في وسطهِ. ومُؤنَّقة بالنون المشددة والقاف، من الشَّيء الأنيقِ المعجبِ. ومُعنَّقة بوزنه، أي: مغذيةٌ بالعيش النَّاعم، وكلُّها كما لا يخفى أوصافٌ حسانٌ.
          (جَارِيَةُ) زوجي (أَبِي زَرْعٍ) لم تسمَّ (فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ؟! لَا تَبُثُّ) بضم الموحدة وتشديد المثلثة، لا تفشِي (حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا) مصدر من بثَّ(91) بوزن فعل بالتشديد للمبالغة، أي: بل تكتُمهُ (وَلَا تُنَقِّثُ) بضم الفوقية وفتح النون وكسر القاف المشددة بعدها مثلثة، أي: لا تخرجُ أو لا تفسدُ، أو لا تسرعُ بالخيانةِ، أو لا تذهبُ بالسَّرقةِ (مِيرَتَنَا) بكسر الميم وسكون التحتية بعدها راء، أي: زادنا (تَنْقِيثًا) مصدرٌ، وصفتْها بالأمانةِ (وَلَا تَمْلأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا) بالعين المهملة والشينين المعجمتين(92) بينهما تحتية ساكنة، أي: لا تتركُ الكناسةَ والقمامةَ في البيتِ مفرقة كعشِّ الطَّائرِ، بل هي مصلحةٌ للبيت مهتمَّةٌ بتنظيفه، وإلقاء كناستهِ وإبعادِها منه. وقيل: لا تخوننا في طعامنا فتخبؤه في زوايا البيت. وقيل: تريد عفاف فرجها وعدم فسقها، وزاد الهيثم بنُ عدي: «ضيفُ أَبي زرعٍ، فما ضيفُ أبي زرعٍ؟! في شِبَعٍ ورِيٍّ ورَتَعٍ، طهاةُ أبي زرعٍ فما طهاةُ أبي زرعٍ؟! لا تفتُر ولا تُعدَّى، تَقْدح قدرًا، وتَنْصِب أُخرى، فَتَلْحق(93) الآخرةُ بالأولى، مالُ أَبي زرعٍ، فما مالُ أَبي زرْعٍ؟! على الجَمَمِ معكُوسٌ، وعلى العُفَاةِ محبُوسٌ»، فقوله: رَتع _بفتح الراء والفوقية_ أي: تنعُّمٍ ومسَرَّةٍ. والطُّهَاة بضم الطاء المهملة، أي: الطَّبَّاخون. لا تَفْتُر _ بالفاء الساكنة ثمَّ الفوقية المضمومة_: لا تسْكُن ولا تضْعُف. ولا تُعدَّى _بضم الفوقية وتشديد الدال المهملة_ أي: لا تتركُ ذلك ولا تتجاوزُ عنه. وتَقْدح _بالقاف والحاء المهملة آخره_ أي: تغرفُ. وتَنْصب أي: ترفع قدرًا أُخرى على النَّارِ. والجَمَم _بالجيم، جمع جمَّة_ القوم يسألون في الدِّيةِ. ومعكوسٌ: أي: مردودٌ. والعُفَاة _بضم العين / المهملة وتخفيف الفاء_ السَّائلونَ. ومحبوسٌ: أي: موقوفٌ عليهم.
          (قَالَتْ) أمُّ زرعٍ: (خَرَجَ) زوجي (أَبُو زَرْعٍ) من عندي (وَالأَوْطَابُ) بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الطاء المهملة وبعد الألف موحدة. زقاق اللَّبن، واحدُها وَطْبٌ على وزن فَلْس، فجمعه على أفعال مع كونه صحيح العين نادرًا، والمعروف وطابَ في الكثرةِ، وأوطبَ في القلَّةِ، والواو للحال، أي: خرج والحال أنَّ زقاق اللَّبن (تُمْخَضُ) بالخاء والضاد المعجمتين مبنيًّا للمفعول ليؤخذ زبد اللَّبن، ويحتملُ أنَّها أرادتْ أنَّ خروجه غُدوة وعندهم الخير الكثيرُ من اللَّبنِ الغزيرِ بحيث يشربهُ صَرِيحًا ومخيضًا، ويفضل عندهم حتَّى يمخضوهُ ويستخرجوا زبدهُ، ويحتملُ أنَّها أرادتْ أنَّ الوقتَ الَّذي خرج‼ فيه كان زمنَ الخصبِ والرَّبيعِ، وكان خروجهُ إمَّا لسفرٍ أو غيره، فلم تدرِ ما يحدثُ لها بسببِ خروجهِ (فَلَقِيَ امْرَأَةً) لم أقفْ على اسمها (مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا) لم يسمَّيا (كَالفَهْدَيْنِ) وفي رواية ابن الأنباريِّ: «كالصَّقرين»، وفي رواية الكاذيِّ: «كالشِّبلين» (يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا) وسطها (بِرُمَّانَتَيْنِ) لأنَّها كانت ذات(94) كفلٍ عظيمٍ، فإذا استلقتْ على ظهرها ارتفعَ كِفْلها بها من الأرضِ، حتّى يصير تحتها فجوةٌ تجري فيها الرُّمانةُ، وحمل بعضهم الرُّمانتينِ على النَّهدين، محتجًّا بأنَّ العادةَ لم تجرِ بلعبِ الصِّبيان ورميهم الرُّمان تحت أصلابِ أُمهاتهم. قال: ولعلَّه مدرجٌ من كلام بعض الرُّواة، أورده(95) على سبيل التَّفسير الَّذي ظنَّه، فأُدرجَ في الخبر، ورجَّحه القاضي عياض، وتعقِّب بأنَّ الأصل عدمُ الإدراجِ (فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا) لِمَا رأى من نجابةِ ولديها؛ إذ كانوا يرغبونَ أن تكون أولادُهم من النِّساء المنجباتِ في الخلْقِ والخلُقِ. وفي رواية الحارث بن أبي أسامة: «فأعجبتْهُ فطلَّقنِي» (فَنَكَحْتُ) تزوجْتُ (بَعْدَهُ رَجُلًا) لم يسمَّ (سَرِيًّا) بفتح السين المهملة وكسر الراء وتشديد التحتية، أي: خيارًا (رَكِبَ) فرسًا (شَرِيًّا) بالشين المعجمة، فائقًا، يستشرِي في سيرهِ يمضِي فيه بلا فتور ولاءً (وَأَخَذَ) رُمحًا (خَطِّيًّا) بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة المكسورة والتحتية المشددتين، صفةُ موصوف محذوفٍ، والخَطُّ: موضع بنواحي البحرين تجلبُ منه الرِّماح(96) (وَأَرَاحَ) بفتح الهمزة والراء آخره حاء مهملة مِنَ الإراحة، وهي الإتيانُ إلى موضع المبيتِ بعد الزَّوال (عَلَيَّ) بتشديد التحتية (نَعَمًا) بفتح النون والعين، واحد الأنعامِ، وأكثرُ ما يقع على الإبل (ثَرِيًّا) بفتح المثلثة وكسر الراء وتشديد التحتية، أي: كثيرًا، والثروة كثرةُ العدد، وقول التَّنقيحِ _كغيره(97)_: وحقُّه أن يقول: ثريَّة، ولكن(98) وجهه أنَّ كلَّ ما ليس بحقيقيِّ التَّأنيث لك فيه(99) وجهان في إظهار علامة التَّأنيث في الفعل واسم الفاعل والصِّفة، أو تركها، تعقَّبه في «المصابيح» بأنَّ هذا إنَّما هو بالنِّسبة إلى ظاهر غير الحقيقيِّ التَّأنيث، وأمَّا بالنِّسبة إلى ضميره فبالتَّأنيث قطعًا، إلَّا في الضَّرورة مع التَّأويل، وإلَّا فمثل قولك: الشَّمسُ طلعَ أو طالعٌ ممتنعٌ، وعلى تقدير تسليم ذلك فلا يتمشَّى في هذا المحلِّ، فقد قال الفرَّاء: إنِّ النَّعم مذكَّر لا مؤنَّث، يقولون: هذا نَعَمٌ واردٌ (وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ) من كلِّ شيءٍ يأتيه من أصنافِ الأموالِ الَّتي تأتيه وقتَ الرَّواحِ (زَوْجًا) أي: اثنين، ولم يقتصرْ على الفرد من ذلك، بل ثنَّاهُ وضعَّفهُ إحسانًا إليها (وَقَالَ: كُلِي) يا (أُمَّ زَرْعٍ، وَمِيرِي أَهْلَكِ)‼ أي: صليهِم وأوسعِي عليهم بالميرةِ؛ وهي الطَّعام (قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ). وللطَّبرانيِّ: «فلو جمعتُ كلَّ شيءٍ أصبتُهُ منه فجعلتُهُ في أصغرِ وعاءٍ من أوعيَةِ أبي زرعٍ مَا ملأهُ» والظَّاهر أنَّه للمبالغةِ، وإلَّا فالإناءُ أو الوعاءُ لا يسعُ ما ذكرتْ أنَّه أعطاها من أصناف النِّعم. والحاصل: أنَّها وصفت هذا الثَّاني بالسُّؤدد في ذاته، والثَّروة والشَّجاعة والفضلِ والجود؛ بكونه(100) أباحَ لها أن تأكلَ ما شاءتْ من مالهِ، وتهدِي ما شاءتْ لأهلها مبالغةً في إكرامِها، ومع ذلك لم يقعْ عندها موقعَ أبي زرعٍ، وأنَّ كثيره دون قليلِ أبي زرعٍ، مع إساءةِ أبي زرعٍ لها أخيرًا في تطليقِها، ولكن حبَّها له بغَّض إليها الأزواجَ لأنَّه أوَّل أزواجها، فسكنتْ محبَّته في قلبها،كما قيل:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .                     مَا الحُبُّ إلَّا للحَبِيْبِ الأَوَّلِ
/
ولذا كره أولو الرَّأي تزوُّجَ امرأةٍ لها زوجٌ طلَّقها مخافة أن تميلَ نفسها(101) إليه، والحبُّ يسترُ الإساءةَ. قال القاضي عياض: في كلام أمِّ زرعٍ من الفصاحةِ والبلاغةِ ما لا مزيدَ عليه؛ فإنَّه مع كثرةِ فصولهِ وقلَّةِ فضوله مختار الكلماتِ، واضح السِّمات، نيِّر القسماتِ، قد قدِّرت ألفاظه قدرَ معانيه، وقرِّرت قواعدهُ وشيِّدت مبانيهِ، وجعلتْ لبعضهِ في البلاغةِ موضعًا، وأودعتْه من البديعِ بدعًا، وإذا لمحت كلام التَّاسعة صاحبةَ العماد والنِّجاد ألفيتَها لأفَانين البلاغةِ جامعةً، فلا شيءَ أسلسُ من كلامِها، ولا أربطَ(102) من نظامها، ولا أطبعَ من سجعِها، ولا أغربَ من طبعِها، وكأنَّما فقرَها مفرَّغةً في قالبٍ واحدٍ، ومحذوَّةً على مثالٍ واحد، وإذا اعتبرتَ كلام الأولى وجدتَه مع صدقِ تشبيههِ(103)، وصقالةِ وجوهه، قد جمع من حُسن الكلام أنواعًا، وكشفَ عن محيَّا البلاغةِ قناعًا، بل كلُّهنَّ حسان الأسجاعِ(104)، متَّفقاتُ الطِّباع، غريباتُ الإبداع.
          (قَالَتْ عَائِشَةُ) ♦ بالسَّند الأول: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ) أي: أنا لك، فكان زائدة، كقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110] وهذا فيه شيءٌ لأنَّ «كان» لا تدلُّ على الانقطاعِ ولا على الدَّوامِ، فليس في الكلامِ ما يقتضِي انقطاع هذه الصِّفة، فلا حاجةَ إلى دَعوى زيادةِ «كان»، وأنَّ المعنى: أنا لك. وزاد في رواية الهيثم بنِ عدي: «في الإلفةِ والوفاءِ لا في الفرقةِ والجلاءِ». وزاد الزُّبير: «إلَّا أنَّه طلَّقها وأنا لا أطلِّقك» فاستثنى الحالةَ المكروهة، وهي ما وقع من تطليقِ أبي زرعٍ تطيبًا لها وطمأنينةً لقلبها ودفعًا لإيهامِ عموم التَّشبيه بجملةِ أحوالِ‼ أبي زرعٍ؛ إذ لم يكن فيه ما تذمُّه النِّساء سوى ذلك، وقد أجابتْ هي عن ذلك جواب مثلها في فضلِها وعلمِها، فقالت _كما عند النَّسائيِّ والطَّبرانيِّ_: يا رسول الله، بل أنت خيرٌ من أبي زرعٍ. وفي رواية الزُّبير: «بأبِي أنت(105) وأمِّي، لأنتَ خير لي من أبي زرعٍ لأمِّ زرعٍ».
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ) البخاريُّ، وفي «اليونينية» شطب بالحمرةِ على ”قال أبو عبد الله“: (قَالَ سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ) بنِ أبي(106) الحسام، المدنيُّ الصَّدوقُ، وليس له في البخاريِّ إلَّا هذا الموضع، وصوَّبه(107) الغسانيُّ. وقال الكِرمانيُّ: إنَّه في بعض النُّسخ أنَّه: ”وقال مُوسى“ أي: ابنُ إسماعيلَ التَّبُوذكيُّ، عن سعيدِ بنِ سلمةَ (عَنْ هِشَامٍ) بن عروة؛ يعني بالإسناد، ولأبي ذرٍّ: ”قال هشام“ (وَلَا تُعَشِّشُ) بضم الفوقية وفتح العين المهملة وتشديد الشين الأولى (بَيْتَنَا تَعْشِيشًا) وضبطها في الفتح: ”تَغشش“ بالغين «المعجمة» بدل: «المهملة». قال: وهو من الغشِّ ضد الخالصِ، أي: لا تملؤهُ بالخيانةِ، بل هي ملازمةٌ للنَّصيحةِ فيما هي فيه، وقيل: كنايةٌ عن عفَّةِ فرجها، والمراد(108): أنَّها لا تملأ البيتَ وسخًا بأطفالها من الزِّنا.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ) البخاريُّ أيضًا: (وقَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَتَقَمَّحُ. بِالمِيمِ، وَهَذَا أَصَحُّ) من الرِّواية بالنون، وهو موافقٌ لقول أبي عُبيد: أتقمَّحُ، أي: أُروى حتَّى لا أحبُّ الشُّرب. قال: وأما النون فلا أعرفه، ولا أَراه محفوظًا إلَّا بالميم، وهذا يوضِّحُ أنَّ الَّذي وقع في أصل(109) روايةِ البخاريِّ بالنون.
          وهذا الحديث قد شرحَه في «جزء مفرد» إسماعيلُ بن أبي أويسٍ شيخ المؤلِّف، وثابتُ بنُ قاسمٍ، والزُّبير بن بكَّارٍ، وأبو عُبيد القاسم بن سلامٍ في «غريب الحديث»، وأبو محمد بنُ قتيبةَ، وابنُ الأنباريِّ، وإسحاق الكاذيُّ، وأبو القاسم عبدُ الحليم بن حيَّانَ المصريُّ(110)، ثمَّ الزَّمخشريُّ في «الفائق»، ثمَّ القاضي عياض وهو أجمعُها وأوسعُها. ذكرهُ الحافظ أبو الفضل ابن حجرٍ ☼ ، وسيِّدي عليٌّ الوفويُّ على طريق القومِ وأهل الإشارات.
          وأخرجه مسلم في «الفضائلِ»، و«النَّسائيُّ»، وأخرجه التِّرمذيُّ في «الشمائل».


[1] في (د) زيادة: «مع أم زرع».
[2] في (م) و(د): «بسند».
[3] في (د): «موقوفًا».
[4] في (د): «حسان».
[5] في (م) و(د): «أو».
[6] في (د): «ابن نافع».
[7] في (ب) و(س): «وعث». هكذا بالمهملة وهو الصحيح، لكن المصنف ضبطها بالمعجمة في هذا الموضع وكل ما يأتي.
[8] هكذا في الأصول، وفي (ب) و(س): «المهملة».
[9] «كأصله»: ليست في (ص).
[10] في (د): «ابن».
[11] في (د): «لتشبيه».
[12] في (ب) و(س): «تممت».
[13] في (ص) و(م) زيادة: «به».
[14] في (د): «إن».
[15] في (ص): «منية».
[16] في (م): «عن».
[17] في (د): «للجلاوة»، وفي الهامش: في نسخة: «للجلا».
[18] في (ص): «أحسن».
[19] في (ب) و(س): «إلى».
[20] في (م) و(ص) و(د): «يصل».
[21] في (ص): «بقلته».
[22] في (د): «وفرقته».
[23] كذا في الأصول، والذي في بغية الرائد: «الخفي بالجلي»، ولعله أولى.
[24] في (د): «المؤانسة».
[25] في (م) و(ص): «اللذين».
[26] في (م) و(ص): «إن».
[27] كذا في الأصول، وفي بغية الرائد: «اللفظة».
[28] قوله: «بقولها ولا» ليس في (ص).
[29] في (د): «تقديم».
[30] في (م) و(د): «تركها له».
[31] «حد»: ليس في (م).
[32] «له»: ليس في (د).
[33] في (ص): «ولا يستثقلني».
[34] في (م): «جماعه».
[35] في (م): «فريسته».
[36] في (د): «ينثني».
[37] قوله: «قوَّة وثوبه، وإما من كثرة نومه. قال: ويحتمل أن يكون من جهة كثرة» ليس في (ص).
[38] في (س) و(ص): «فيهما».
[39] في الأصول كلها: «عن جميع ذلك بكلمة وكلمة»، والتصويب من «بغية الرائد» للقاضي عياض، مخطوطة أحمد فاضل (256).
[40] في (س) و(ص): «مناسبتهما».
[41] في (س) و(ص): «سهولتهما».
[42] «المراد»: ليست في (ص) و(م).
[43] «المراد من»: ليست في (د).
[44] في (ب) و(د) و(م): «على عدم».
[45] في (ب): «كأنه».
[46] في (م): «عليه».
[47] في (ب): «فمنهم».
[48] قوله: «ومنهن من ذمته في جميع أموره» ليس في (ص).
[49] في (د): «مسلك».
[50] «العين»: ليس في (د) و(ص) و(م).
[51] في (د): «أمره».
[52] في (ص): «بكسر الكاف».
[53] في (م) زيادة: «في».
[54] في (م): «دواء».
[55] في (ب) و(م) و(د): «الجسد».
[56] في (ص): «الروايتين».
[57] في (ب): «فيقصدوه».
[58] في (س): «المستلزمة».
[59] في (ب) و(س): «القدور».
[60] في (د): «إلى كثرة».
[61] في (م): «بينها».
[62] في (د): «عدم إرادة».
[63] في (ب) و(ص): «قولها».
[64] في (م): «بغير».
[65] في (ص): «مجتمع».
[66] قوله: «أو لا لأن معنى الجمع بين الحقيقة والمجاز»: ليست في (ص).
[67] في (م) و(د): «إن».
[68] في (م): «فإن».
[69] في (م) و(د): «في».
[70] في (ص): «التلاؤم».
[71] في (ص): «كالخامسة».
[72] «بكسر الكاف»: ليس في (د).
[73] في (ص) زيادة: «كثيرة».
[74] في (ب) و(س): «تبرك».
[75] «والكرم»: ليست في (م) و(د).
[76] قوله: «وفي اليونينية مشددة» ليس في (د).
[77] جاء في «فتح الباري» (1/84): بجَّحني بتشديد الجيم وحكي تخفيفها، قوله: فبجَـِحت بفتح الجيم وبكسرها، وضعَّف الجوهري الفتح.
[78] «ففخرت»: ليست في (د).
[79] في (د) زيادة: «نفسي». وقوله: «وبجح نفسي فبجحت إلي» ليس في (ص).
[80] في (د): «مصغرًا».
[81] في (د): «عبيدة».
[82] في (ب) و(س): «فلا يقول».
[83] قوله: «الصبحة وهي نوم» ليس في (د).
[84] «زوجي»: ليست في (د).
[85] في (م) و(د): «كسلول».
[86] في (م): «اللمس».
[87] هكذا في كل النسخ، والذي في مسلم من طريق سعيد بن سلمة (2448) (92): «عَقْر»، وهكذا ضبطها القاضي في «إكمال المعلم» (7/467).
[88] في (د): «ضمارة».
[89] «عريض»: ليس في (ب).
[90] قوله: «ذات عكن؛ وهي طيَّات بطنها، وفَعماء بفتح الفاء، وسكون العين المهملة، وبالمدِّ؛ أي»: ليس في (د).
[91] في (ب): «بنث».
[92] في (م) و(د): «الشين المعجمة».
[93] في (د): «وتلحق».
[94] في (م) و(د): «صاحبة».
[95] «أورده»: ليست في (ص).
[96] في (ص): «الرماح».
[97] في (د): «وغيره».
[98] «ولكن»: ليست في (ص).
[99] في (م) و(د): «يكون فيه لك».
[100] في (ص): «لكونه».
[101] قوله: «تميل نفسها» ليس في (ص). وفي (م) و(د): «يميل قلبها».
[102] في (م) و(ص) و(د): «أرطب».
[103] في (م) و(د): «اللهجة».
[104] في (م) و(ص): «الأشجاع».
[105] «أنت»: ليست في (س).
[106] لفظه: «أبي» مستدركة من كتب الرجال.
[107] في (ص): «صوب».
[108] في (ص): «المعنى».
[109] «أصل»: ليست في (ص).
[110] في (ب): «البصري».