إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: اذهب فاطلب ولو خاتمًا من حديد

          5149- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عيينةَ قال: (سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ) سلمة بن دينار (يَقُولُ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ) ☺ (يَقُولُ: إِنِّي لَفِي القَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم إِذْ قَامَتِ امْرَأَةٌ) لم يقف الحافظ ابنُ حجر على اسمها. قال: وقولُ ابن القطَّاع في «الأحكام» إنَّها خولةُ بنت حكيمٍ أو أمُّ شريك. نقلٌ من اسم الواهبةِ الواردةِ في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}[الأحزاب:50] وفي رواية فضيلِ بن سليمان: «كنَّا عند النَّبيِّ صلعم جلوسًا، فجاءتهُ امرأةٌ» [خ¦5132] فليس المراد من قوله: «إذ قامَت امرأةٌ» أنَّها كانت جالسةً في المجلسِ فقامت. وعند الإسماعيليِّ: أنَّه كانَ في المسجدِ (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ) أي: أَمْرَ نفسها أو نحو ذلك، وإلَّا فالحقيقةُ غير مرادةٍ لأنَّ رقبةَ الحرِّ لا تملكُ، فكأنَّها قالت: أتزوَّجُكَ بغير صداقٍ، وكان الأصلُ أن يقال: إنِّي وهبتُ نفسي لك، لكنَّه عن طريق الالتفاتِ، وفيه: أنَّ الهبةَ في النِّكاح من الخصائصِ لقولها ذلك، وسكوته ╕ عليه، فدلَّ جوازهُ له خاصَّةً لقول الرَّجل بعدُ: «زوِّجنيها» ولم يقُل: هَبها لي، مع قوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب:5] (فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ) براء مفتوحة بغير همز، أمر على وزن «فَ» لأنَّ عين الفعل ولامه حذفا لأنَّ أصله ارأى على وزن افعل، حذفت لام الفعل للجزمِ؛ لأنَّ الأمر مجزومٌ، ثمَّ نقلت حركة الهمزة إلى الراء للتَّخفيف، فاستغني عن همزة الوصل، فحذفتْ فبقيَ على وزن «فَ» ولبعضهم بالهمزة السَّاكنة بعد الراء، وكلٌّ سائغٍ‼ (فَلَمْ يُجِبْهَا) صلعم (شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ) أي: الثَّانيةَ (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ، فَلَمْ يُجِبْهَا) ╕ (شَيْئًا، ثُمَّ قَامَت الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ) سقط للحَمُّويي من قوله «فَلم يُجِبها الثَّانية...» إلى هنا، وسكوتهُ ╕ إمَّا حياءً أو انتظارًا للوحي (فَقَامَ رَجُلٌ) من الأنصارِ لم يقفْ الحافظ ابن حجر على تسميتهِ. وفي حديث ابن مسعود عند الدَّارقطنيِّ: فقال رسول الله صلعم : «من ينكِحُ هذه؟» فقام رجلٌ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْكِحْنِيهَا). وعند النَّسائيِّ من حديث أبي هريرة: جاءَت امرأةٌ إلى رسولِ الله صلعم فعرضَتْ نفسها عليه، فقال لها: «اجلِسِي» فجلست ساعةً ثمَّ قامت، فقال: «اجلِسِي بارَكَ اللهُ فيكِ، أمَّا نحنُ فلا حاجةَ لنا فيكِ، ولكن تُملِّكينِي أمركِ؟» قالت: نعم، فنظرَ في وجوهِ القومِ فدعَا رجلًا فقال: «إنِّي أريدُ أن أزوِّجكِ هذا(1) إن رضيتِ» قالت: ما رضيتَ لي فقد رضيتُ. (قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ) تصدقها؟ فيه: أنَّ النِّكاح لابدَّ فيه من الصَّداقِ، وقد اتُّفق على أنَّه لا يجوزُ لأحدٍ أن يطأَ فرجًا وُهب له دون الرَّقبةِ بغير صداقٍ، وفيه أيضًا: أنَّ الأولى ذكر الصَّداق في العقدِ لأنَّه أقطعُ للنِّزاعِ وأنفعُ للمرأةِ؛ لأنَّه(2) يثبتُ لها نصف المسمَّى إن طلِّقت قبل الدُّخول (قَالَ: لَا) زاد في رواية هشام بن سعدٍ: قال: «فلا بدَّ لها من شيءٍ» (قَالَ) ╕ : (اذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) قال عياض: «لو» تقليليةٌ، ووهم من زعمَ خلافَ ذلك. قال: والإجماعُ على أنَّ مثلَ الشَّيءِ الَّذي لا يتموَّلُ ولا له قيمةٌ لا يكونُ صداقًا، ولا يحلُّ به النِّكاحُ. قال في «الفتح»: فإن ثبتَ هذا فقدْ خرقَ هذا الإجماع ابنُ حزمٍ حيث قال: يجوزُ بكلِّ ما يُسمَّى شيئًا ولو كان حبةَ شعيرٍ، ويؤيِّد ما ذهبَ إليه الكافَّة قوله صلعم : «ولو خَاتمًا من حديدٍ» لأنَّه أورده مورد التَّقليل(3) بالنِّسبة لما فوقه، وفيه: أنَّه لا حدَّ لأقل المهر، وردَّ على من قال: إنَّ أقلَّه عشرةُ دراهم، ومن قال ربعَ دينارٍ لأنَّ خاتَم الحديدِ لا يساوِي ذلك، قاله ابنُ / المنذر(4). (فَذَهَبَ فَطَلَبَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) زاد في رواية أبي غسان هنا: «فجلسَ الرَّجلُ حتَّى إذا طالَ مجلسهُ قامَ، فرآه النَّبيُّ صلعم فدعاهُ أو دُعيَ له» [خ¦5121] (فَقَالَ) ╕ له، ولأبي ذرٍّ: ”قالَ“: (هَلْ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟) تحفظهُ عن ظهرِ قلبٍ (قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا) وفي حديث أبي هريرة أنَّه قال: «سورةُ البقرةِ، أو الَّتي تليها». كذا بـ «أو»‼ في رواية أبي داود والنَّسائيِّ. وفي حديث ابن مسعود: «سورةُ البقرةِ، وسورةُ المفصَّل». (قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ).
          وفي حديث ابن عبَّاس عند أبي عُمر بن حَيَّويه(5) في «فوائده» قال: «هل تقرأُ من القُرآنِ شَيئًا؟» قال: نعم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1]. قال: «أصدقها إيَّاها» والظَّاهر أنَّ بعض الرُّواة حفظ ما لم يحفظْهُ(6) الآخرُ أو القصَّةُ متعدِّدةٌ. وفي حديث ابنِ مسعودٍ: «قد أنكَحتُها على أن تُقْرِئها وتُعَلِّمها، وإذا رزقَكَ اللهُ عوَّضْتَها» فتزوَّجها الرَّجلُ على ذلك.
          وفيه: أنَّ كلَّ عملٍ يُستأجرُ عليه كتعليمِ قرآنٍ وخياطةٍ وخدمةٍ صداقٌ(7)، فإنْ أَصْدَقها تعليمَ سورٍ من القرآن، أو جزء منه بنفسهِ اشتُرطَ تعيينه، واشْتُرطَ علمُ الزَّوجِ والوليِّ بالمشروطِ تعليمُه بأن يَعْلَما(8) عينَهُ وسهولتَهُ أو صعوبتَهُ، وإلَّا وكَّلا أو أحدهما مَن يعلمهُ، ولا يشترطُ تعيين الحرفِ الَّذي يعلِّمه لها(9)، كقراءةِ نافعٍ أو أبي عمرٍو مثلًا، فيعلِّمها ما شاءَ، فإن عيَّنهُ كلٌّ منهما كحرف نافعٍ تعيَّن عملًا بالشَّرط، فلو خالف وعلَّمها حرف أبي عمرو فمتطوِّعٌ به، ويلزمهُ تعليم الحرف المُعَيَّن عملًا بالشَّرطِ، فلو لم يحسن الزَّوجُ التَّعليمَ لما شرطَ تعليمهُ لم يصح(10) إصداقهُ إلَّا في الذِّمَّةِ لعجزهِ في الأوَّل دون الثَّاني، فيأمرُ فيه غيرَه بتعليمِها، أو يتعلَّم هو ثمَّ يعلِّمها، وإذا تعذَّر التَّعليم لبلادَةٍ نادرةٍ أو ماتَت أو ماتَ والشَّرط أن يعلِّمَ بنفسهِ وجبَ مهرُ المثلِ، فإن طلَّقها بعد أن علَّمها أو(11) قبل الدُّخولِ رجعَ عليها بنصفِ الأجرةِ.
          وقال الحنفيَّة: الباء في قوله: «بما معكَ من القرآنِ» للسببيَّة، كما وهبَت نفسها منه صلعم وهبت صداقَها لذلك الرَّجل.
          وقال ابن المنيِّر: لما تحقَّق صلعم عجزَ الرَّجلُ سأله: «هل معكَ من القرآنِ من(12) شيءٍ؟» لأنَّ القرآنَ هو الغنَى الأكبرُ، فلمَّا ثبتَ له حظٌّ منه ثبتَ له حظٌّ من النَّبيِّ صلعم فزوَّجه، وليس في الحديث إسقاط الصَّداقِ، فلعلَّه زوَّجهُ إيَّاها بصداقٍ وجدت مظنَّتهُ وإن لم توجد حقيقتهُ، وإذا وجدَتْ مظنَّتهُ أَوْشَكَ أن يحصلَ بفضلِ الله، وإنَّما استفسرهُ عن جهدهِ نصحًا للمرأةِ فلمَّا أخبرهُ أنَّه يحفظُ شيئًا من القرآنِ علمَ أنَّ الله لا يضيِّعهما. قال: ولو فرضْنَا امرأةً فوَّضت أمرَها في التَّزويجِ(13) لرجلٍ، فخَطبها منه من لا مالَ له ولكنَّه حاملٌ للقرآنِ، فزوَّجها منه ثقةً بوعد الله لحاملِ كتابه بالغِنى، واقتداءً بهذا الحديث لكان جديرًا بالصَّواب، ويجعلُ الصَّداق في ذمَّتهِ ويكونُ‼ تفويضًا، ولا معنى للتَّفويضِ إلَّا ما وقعَ في الحديث. انتهى.


[1] «هذا»: ليست في (د) و(م). وفي سنن النسائي: «هذه إن رضيتَ».
[2] في (د): «لأنَّها».
[3] في (م): «التعليل».
[4] في (ب) و(س): «المنير».
[5] في (د): «حيوة».
[6] في (د) و(م): «يحفظ».
[7] في (د): «وخدمه يجوز جعله صداقًا».
[8] في (م): «يعلمها».
[9] في (م) و(د): «إياها».
[10] في (س): «يجز».
[11] في (ص): «و».
[12] «من»: ليست في (م) و(د).
[13] في (م): «التزوج».