إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي

          5101- وبه قال: (حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ) قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو: ابنُ أبي حمزةَ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بنِ مسلم ابنِ شهابٍ أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوَّام (أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ) ولأبي ذرٍّ: ”بنتَ“ (أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ) رملة (بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حربٍ (أَخْبَرَتْهَا: أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، انْكِحْ) بكسر الهمزة لأنَّه من نكحَ ينكحُ، فثالث المضارع مكسورٌ، ومتى كُسِر ثالثه أو فتح كسر الأمرُ منه، ومتى ضم ثالثه ضم الأمر منه، كقَتَلَ يَقتلُ، الأمر منه اُقتُل بضم الهمزة، أي: تزوَّج (أُخْتِي) ولمسلم: «أُختي عزَّة». وعند أبي موسى في «الدلائل»: «دُرَّة». وعند الطَّبرانيِّ: «قلت: يا رسولَ الله، هل لك في حَمْنَة؟» (بِنْتَ) ولأبي ذرٍّ: ”ابنةَ“(1) (أَبِي سُفْيَانَ) وجزم المنذريُّ / بأن اسمها حمْنَة، وقال القاضي عياضٌ: لا نعلمُ لعزَّة ذكرًا في بنات أبي سفيان، إلَّا في رواية يزيد بن أبي حبيبٍ. وقال أبو موسى: الأشهرُ أنَّها(2) عزَّة (فَقَالَ) ╕ : (أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ؟!) الهمزة للاستفهام، والواو عاطفةٌ على ما قبل الهمزةِ عند سيبويه، وعلى مقدَّرٍ عند الزَّمخشريِّ وموافقيه، فعلى مذهبِ سيبويه معطوفٌ على «انكِح أختي»، وعلى مذهبِ الزَّمخشريِّ «أأنكحُها» و«تحبِّين ذلك»، وهو استفهام تعجُّب من كونها تطلبُ أن يتزوَّج غيرها مع‼ ما طُبع عليه النِّساءُ من الغيرةِ (فَقُلْتُ: نَعَمْ) حرف جوابٍ مقرِّرٌ(3) لما سبقَ نفيًا أو إثباتًا (لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ) بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر اللام، والباء زائدة في النفي، أي: لست خاليةً من ضرَّةِ غيرِي. قال في «النهاية»: المخلِيَة الَّتي تخلُو بزوجِها وتنفردُ به، أي: لست لك بمتروكةٍ لدوامِ الخلوةِ به، وهذا البناءُ إنما يكون من أخليْتُ، ويقال: أخلَتِ المرأةُ، فهي مخلِيَةٌ، فأمَّا من خلوت فلا، وقد جاءَ أخليْتُ بمعنى: أخلوتُ. وقال ابنُ الأثيرِ _في موضعٍ آخر_: أي: لم أجدْكَ خاليًا من الزَّوجات غيري، وليس من قولهم: امرأةٌ مخلِيَة إذا خلَت من الزَّوج (وَأَحَبُّ) بفتح الهمزة والمهملة (مَنْ شَارَكَنِي) بألف بعد الشين (فِي خَيْرٍ أُخْتِي) «أحبُّ» مبتدأ، وهو أفعلُ تفضيل مضافٌ إلى «مَن»، و«مَن»: نكرةٌ موصوفةٌ، أي: وأحبُّ شخصٍ شَارَكني، فجملةُ «شاركني» في محلِّ جرٍّ(4) صفةٌ لـ «مَن»، ويحتملُ أن تكون موصولة والجملةُ صلتُها، والتَّقديرُ: أحبُّ المشاركينَ لي في خيرٍ أختي. و«في خيرٍ» يتعلَّقُ(5) بـ «شاركني»، و«أختي» الخبر، ويجوز أن تكونَ «أختي» المبتدأ، و«أحبُّ» خبرٌ مقدَّم لأنَّ أُختي معرفةٌ بالإضافةِ، وأفعلُ لا يتعرَّفُ بها في المعروف(6). قيل: والمرادُ بالخير صحبةُ النَّبيِّ صلعم المتضمِّنة لسعادَةِ(7) الدَّارينِ، السَّاترةُ لما لعلَّه يعرض من الغيرةِ الَّتي جرت بها العادةُ بين الزَّوجاتِ. وفي رواية هشامٍ الآتية إن شاء الله تعالى: «وأحبُّ من شَرَكني فيكَ أُختي» [خ¦5106].
          قال في «الفتح»: فعرفَ(8) أنَّ المرادَ بالخيرِ ذاتُه صلعم .
          (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : إِنَّ ذَلِكِ) بكسر الكاف خطابٌ لمؤنَّث (لَا يَحِلُّ لِي) لأنَّ فيه الجمع بين الأختينِ (قُلْتُ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ) بضم النون وفتح الحاء والدال (أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ) دُرَّة _بضم الدال المهملة وتشديد الراء_ (قَالَ) ╕ : (بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟) مفعولٌ بفعلٍ مقدرٌ، أي: أأنكِح(9) بنت أمِّ سلمةَ، أو: تعنينَ (قُلْتُ: نَعَمْ) وعدل عن قوله: أبي سلمةَ إلى قوله: أمِّ سلمةَ توطئةً لقوله: (فَقَالَ: لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَـِجْرِي) بفتح الحاء وقد تكسر، واسم كان ضميرُ بنت أمِّ سلمةَ، و«ربيبتِي» خبرُهَا، وربيبةٌ فعيلةٌ بمعنى مفعول لأنَّ زوجَ الأمِّ يَرُبُّها(10). وقال القاضي عياض: الرَّبيبةُ مشتقَّةٌ من الرَّبِّ _وهو الإصلاحُ_ لأنَّه يَرُبُّها ويقومُ بأمورِها وإصلاحِ حالها، ومن ظنَّ من الفقهاءِ أنَّه مشتقٌّ من التَّربيةِ فقد غلطَ لأنَّ شرطَ الاشتقاقِ الاتِّفاق في الحروفِ الأصليَّةِ(11) والاشتراكُ فيها، فإنَّ آخر رَبَّ باء موحدة، وآخر ربي ياء مثنَّاة تحتيَّة، وجواب «لو» قوله: (مَا حَلَّتْ لِي) يعني: لو كان بها مانعٌ واحدٌ لكفى في التَّحريمِ، فكيف وبها مانعانِ؟! وقوله: «في حجرِي» تأكيدٌ، وراعى فيه لفظ الآية‼، ولا مفهومَ له عند الجمهورِ بل خرجَ مخرجَ الغالبِ، وقد تمسَّك بظاهرهِ داود الظَّاهري فأحلَّ الرَّبيبَةَ البعيدَة الَّتي لم تكن في الحجرِ (إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ) اللام في قوله: «لابنة» هي الداخلةُ في خبر «إنَّ» (أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ) بضم المثلثة وفتح الواو وبعد التحتية الساكنة موحَّدة، والجملةُ مفسِّرة لا محلَّ لها من الإعراب، ولا يجوزُ أن تكون بدلًا من خبر إنَّ، ولا خبرًا بعد الخبرِ لعدم الضَّميرِ. وأبا(12) سلمة: معطوفٌ على المفعولِ، أو مفعول معه (فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ) بتشديد الياء (بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ) لا: ناهيةٌ، وتعرضْنَ: فعل مضارعٌ، والنون الخفيفة نون جماعة النِّسوة، والفعلُ معها مبنيٌّ، ومع أختيها الشَّديدة والخفيفة، وشرطَ ابن مالك أن تكون مباشرةً مثل {لَيُنبَذَنَّ}[الهمزة:4] فإن لم تكن مباشرةً نحو: {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ}[يونس:89] {فَإِمَّا تَرَيِنَّ}[مريم:26] و{لَيَسْجُنُنَّهُ}[يوسف:35] فهو مُعربٌ، والأكثرون على أنَّ المؤكَّد بالنون مبنيٌّ مطلقًا، باشرتهُ النون أمْ لم تباشرهُ(13)، وزعمَ آخرون(14) / أنَّه معربٌ مطلقًا، باشرتهُ أم لم تباشرهُ، والصَّحيح التَّفصيل الذي اختاره ابن مالك من جهةِ القياسِ. و«تَعْرِضْنَ» بفتح الفوقية وسكون العين والضاد المعجمة بينهما راء مكسورة وآخره نون خفيفة، كذا في الفرع بناء على أنَّه لم يتصل به نونُ تأكيدٍ، وإنَّما اتصل بالفعل نون جماعة المؤنَّث، فإن روي: فلا تعرضُن _بضم الضاد_ فالخطاب(15) للمذكرين لأنَّهُ لو كانَ لمؤنثات لكان: فلا تعرضنَانِّ؛ لأنه يجتمعُ ثلاثُ نونات فيفرَّقُ بينهنَّ(16) بالألفِ، ومتى قدِّرَ أنَّه اتصلَ به ضميرُ جماعة المذكَّرين فتغليبًا لهم في الخطابِ على المؤنَّثات الحاضراتِ(17)، فأصلهُ: لا تعرضونَنَّ، فاستثقلَ اجتماع ثلاث نوناتٍ، فحذف نون الرفع فالتقى ساكنان، فحذفت الواو لاعتلالها، وبقي النون المشدَّدة لصحَّتها(18)، وإن كان الخطابُ لأم حبيبةَ وحدها فبكسر الضاد وتشديد النون. وقال القرطبيُّ: جاء بلفظ الجمع، وإن كانتِ القصَّةُ لاثنتين وهما أمُّ حبيبة وأمُّ سلمة رَدعًا وزَجرًا أن تعودَ واحدةٌ منهما أو غيرهما إلى مثل هذا.
          و(قَالَ عُرْوَةُ) بن الزُّبير _بالإسناد السَّابق_: (وَثُوَيْبَةُ) المذكورة (مَوْلَاةٌ لأَبِي لَهَبٍ) واختلفَ في إسلامِها. قال أبو نُعيم: لا نعلمُ أحدًا ذكر إسلامَها غير ابن مَنْده (كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ صلعم ) معطوف على «أعتقها»، وظاهرهُ أنَّ عتقهُ لها كان قبل إرضاعَها، والَّذي في السِّير: أنَّ أبا لهب أعتقها قبيلَ الهجرةِ، وذلك بعد الإرضاعِ بدهرٍ طويلٍ (فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ) في المنامِ. قيل: هو العباس (بِشَرِّ حِيْبَةٍ) بكسر الحاء المهملة وبعد التحتية الساكنة موحدة، والباء في «بِشَرِّ» باء المصاحبةِ، وهي باء الحال، أي: متلبِّسًا بسوءِ حالٍ أو كائنًا(19) به، وهذه الرؤيةُ‼ حلميَّةٌ فتتعدَّى إلى مفعولين كالعلميَّة عند ابن مالكٍ وموافقيه، فبعض المرفوع قائم(20) مقام المفعول الأول، والثاني المتَّصل به. وقيل: يتعدَّى لواحدٍ، فيكون تعدِّيه هنا إلى اثنين بالنَّقل بالهمزة، ولا بدَّ من تقدير: في المنام، وحُذفَ للعلمِ به، والجملةُ معترضةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ، وعند المُستملي _كما قال في «الفتح»_: ”خَيبة“ بفتح الخاء المعجمة، أي: في حالةٍ خائبةٍ من كلِّ خيرٍ، وعزاها في الفرع _كأصله(21)_ لغير الحَمُّويي والمُستملي: (قَالَ) ولأبي ذرٍّ: ”فقالَ“ (لَهُ) الرَّائي: (مَاذَا لَقِيتَ) بعد الموتِ: (قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ خيرًا) كذا في الفرع بإثبات المفعول. وقال في «الفتح»: إنَّه بحذفه في الأصول. قلتُ: والذي في «اليونينية» هو الحذفُ(22). وقال ابن بطَّال: سقط المفعولُ من رواية البخاريِّ، ولا يستقيمُ الكلامُ إلَّا به، وفي رواية الإسماعيليِّ: «لم ألقَ بعدَكم رخاءً» ولعبد الرَّزَّاق عن معمرٍ، عن الزُهريِّ: «لم ألقَ بعدكُم راحةً» (غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ) بضم السين مبنيًّا للمفعول (فِي هَذِهِ) زاد عبد الرَّزَّاق: «وأشارَ إلى النُّقرةِ التي تحتَ إبهامه» و«غيرَ»: نصب على الاستثناء (بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ) بفتح العين مصدر عَتق، يقال: عَتق يعتِقُ _بالكسر_ عِتْقًا وعَتَاقًا وعَتَاقةً، والمصدر هنا مضافٌ إلى الفاعل، و«ثويبةَ» مفعولٌ للمصدرِ، وفي رواية عبد الرَّزَّاق: «بعِتقِي». قال في «الفتح»: وهو أوجهُ، والوجه أن يقولَ: بإعتاقِي؛ لأنَّ المراد التخلُّص من الرقِّ. انتهى. وتعقَّبه العينيُّ فقال: هذا أخذه من كلام الكِرْمانيِّ؛ فإنَّه قال: معناهُ التَّخلص من الرِّقِّيَّة، فالصَّحيح أن يقالَ: بإعتاقِي. قال: وكلٌّ منهما لم يحرِّر كلامهُ، فإنَّ العتقَ والعَتَاقةَ والعَتَاق كلَّها مصادر من عَتَقَ العبد. وقوله: «وهو أوجه» غيرُ موجَّهٍ لأنَّ العتقَ والعَتَاقة واحدٌ في المعنى، فكيف يقول: العتقُ أوجه؟ ثمَّ قولهُ: «والوجه أن يقول: بإعتاقِي» لأنَّ المراد التخلُّص من الرِّقِّ، كلامُ من ليس له وقوفٌ على كلام القومِ، فإنَّ صاحبَ «المغرب» قال: العتقُ الخروجُ من المملوكيَّةِ، وهو التَّخلُّص من الرِّقيَّةِ، وقد تقدَّم أن العتقَ يقوم مقامَ الإعتاقِ الَّذي هو مصدرُ أعتقهُ مولاه. انتهى. واستُدل بهذا على أنَّ الكافرَ قد ينفعهُ العملُ الصَّالح في الآخرةِ، وهو مردوٌد بظاهر قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا}[الفرقان:23] لاسيَّما والخبرُ مرسل، أرسله عروةُ ولم يذكر من حدَّثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولًا فلا يحتجُّ به إذ هو رؤيا منامٍ لا يثبتُ به حكمٌ شرعيٌّ، لكن يحتملُ أن يكون ما يتعلَّق بالنَّبيِّ صلعم مخصوصًا‼ من ذلك بدليل التَّخفيفِ عن أبي / طالبٍ المروي في الصَّحيح، والله أعلم.


[1] قوله: «ولأبي ذرٍّ: ابنة»: ليس في (د).
[2] في (د): «فيها».
[3] في (م) و(د): «مقدر».
[4] في (م) و(ص): «رفع».
[5] في (ب) و(س): «متعلق».
[6] في (م): «المعرفة».
[7] في (ص): «لصحبة».
[8] في (م) و(د): «فعلم».
[9] في (د): «أنكح».
[10] في (م): «يربيها».
[11] «الأصلية»: ليست في (د).
[12] في (م): «أم».
[13] في (د): «مبني مطلقًا لكثرة النون المباشرة».
[14] في (د): «وزعم ابن خروف».
[15] في (د) زيادة: «به».
[16] في (ب) و(س): «بينها».
[17] «الحاضرات»: ليست في (د).
[18] في (د) و(م): «لفتحها».
[19] في (د): «أو كان كائنًا».
[20] في (د) و(م): «نائب الفاعل القائم»، وفي (ص): «المفعول القائم».
[21] «كأصله»: ليس في (د).
[22] قوله: «قلت والذي في اليونينيَّة هو الحذف»: ليس في (د).