إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: هو عليها صدقة ولنا هدية

          5097- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) المشهور بربيعة الرَّأي (عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أي: ابن أبي بكر الصِّدِّيق (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) أنَّها (قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ) بفتح الموحدة وكسر الراء الأولى، عتيقةُ عائشة(1) (ثَلَاثُ سُنَنٍ) بضم السين وفتح النون الأولى، أي: طرق، جمعُ سُنَّة، وهي الطَّريقةُ، وإذا أطلقَتْ في الشَّرعِ فالمراد بها: ما أمرَ به النَّبيُّ صلعم ونهى عنهُ وندبَ إليه قولًا وفعلًا، ممَّا لم ينطِقْ به الكتابُ العزيزُ، ولذا(2) يقال في أدلَّة الشَّرع: الكتاب والسُّنَّة.
          إحداها: أنَّها (عَتَقَتْ) بفتحات، عتقتها(3) عائشة (فَخُيِّرَتْ) بضم الخاء المعجمة مبنيًّا للمفعول، خيَّرها صلعم في فسخِ نكاحِها من زوجِهَا مغيث وبين المقامِ معه _وكان عبدًا_ فاختارَتْ نفسَها. وفي مرسل عامرٍ الشَّعبيِّ عند ابنِ سعدٍ في «طبقاته»: أنَّه صلعم قال لها لما أعتقَتْ: «قد عتقَ بضعُكِ معكِ فاختارِي» وهذا مذهبُ المالكيَّة والشَّافعيَّة لتضرُّرها بالمُقَام تحتَه من جهةِ أنَّها تتعيَّر(4) به، وأنَّ لسيدِهِ منعهُ عنها، وأنَّه(5) لا ولايةَ له على ولدِهِ، وغير ذلك، وهذا بخلافِ ما إذا عتقَتْ تحت حرٍّ لأنَّ الكمالَ الحادِثَ لها حاصلٌ له، فأشبه ما إذا أسلمَتْ كتابيةٌ تحت مسلمٍ، ولو عتقَ بعضُها فلا خيارَ لبقاءِ النُّقصانِ وأحكام الرِّقِّ، ويُستثنى من ذلك ما إذا أعتقَهَا مريضٌ قبل الدُّخولِ، وهي(6) لا تخرُجُ من ثلثه إلَّا بالصَّداق(7) فلا خيارَ لها لأنَّها لو فسخَت سقطَ مهرُها، وهو من جملةِ المالِ، فيضيقُ الثُّلث عن الوفاءِ بها، فلا تعتقُ كلُّها، فلا يثبتُ‼ الخيارُ، وكلُّ ما أدَّى ثبوتهُ إلى عدمِه استحال ثبوتهُ، وهذهِ من صورِ الدَّورِ الحكميِّ(8)، وليس في هذا الحديثِ التَّصريح بكون زوجِ بريرةَ عبدًا ولا حرًّا، لكنَّ صنيعَ البخاريِّ يدلُّ على أنَّه يميلُ إلى أنَّه كان حين عتقتْ عبدًا، وعنده في «الطَّلاقِ» من حديث عكرمةَ عن ابن عبَّاس: أنَّه كان عبدًا [خ¦5282] وعند أبي داود والتِّرمذيِّ والنَّسائيِّ وابن ماجه من حديث الأسود عن عائشةَ: أنَّه كان حرًّا، وحملهُ بعض الحنفيَّةِ على أنَّهُ كان حُرًّا عندما خيِّرت، وعبدًا قبل. قال: الحريَّة تعقب الرِّقَّ، ولا ينعكسُ، فمن أخبرَ بعبوديَّته لم يعلَم بحريَّته، ولم يخيِّرها صلعم لأنَّه كان عبدًا ولا لأنَّه كان حرًّا، وإنَّما خيَّرها للعتقِ لأنَّ الأمةَ إذا أعتقَتْ لها الخيارُ في نفسِها، سواءٌ كان زوجُها حرًّا أم عبدًا. وقد(9) أفرد ابن جريرٍ الطَّبريُّ وابنُ خزيمة مؤلَّفًا في الاختلاف: هل كان مغيثٌ حرًّا أم عبدًا؟
          وبقيَّةُ مباحثِ هذا يأتي إن شاء الله تعالى في «الطَّلاق» [خ¦5279].
          (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) في شأنِ بريرةَ، لما أرادَتْ عائشة أن تشتريَها وتُعتقها، وشرط مواليها أن يكون الولاءُ لهم: (الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) الجار والمجرور خبر المبتدأ الَّذي هو الولاءُ، أي: كائنٌ أو مستقرٌّ لمن أعتقَ؛ وبه يتعلَّق حرف الجرِّ، و«مَن»: موصول، و«أعتقَ»: في موضع الصِّلة، والعائد ضميرُ الفاعل.
          وسبق في «العتقِ» [خ¦2560] ما في الحديث من المباحث.
          (وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ) بضم الموحدة وسكون الراء. قال ابن الأثيرِ: هي القِدْرُ مطلقًا، وجمعها: بِرام، وهي في الأصل المتَّخذةُ من الحجرِ المعروفِ بالحجازِ، والواو في قوله: «وبرمةٌ» للحالِ (فَقُرِّبَ إِلَيْهِ) بضم القاف وتشديد الراء المكسورة (خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ البَيْتِ) جمع إدام؛ كإزارٍ وأُزر، وهو ما يؤكلُ مع الخبزِ أيَّ شيءٍ كان، والإضافةُ إضافة تخصيصٍ (فَقَالَ) صلعم : (لَمْ) وللأربعة: ”ألم“ (أَرَ البُرْمَةَ) أي: على النَّارِ فيها لحمٌ؟ والهمزة للتقرير، والفعلُ مجزومٌ بحذف الألف المنقلبة عن الياء (فَقِيلَ) له ╕ : هوَ (لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ) بضم التاء والصاد وكسر الدال المشددة مبنيًّا لما لم يُسمَّ فاعله، جملةٌ في محلِّ رفع صفةٍ لـ «اللحْم»، وسقط لغير أبي ذرٍّ لفظ «بِه» (وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) لحرمتها عليك(10) (قَالَ) ╕ : (هُوَ) أي: اللَّحمُ (عَلَيْهَا) أي / : على بريرةَ، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”لَها“ (صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) والفرقُ بينهما أنَّ الصَّدقةَ إعطاءٌ للثَّوابِ، والهديَّةَ للإكرامِ.
          وهذا الحديث أخرجه المؤلِّف أيضًا في «الطلاق» [خ¦5279]‼ و«الأطعمة» [خ¦5430]، وأخرجه مسلمٌ في «الزَّكاة» و«العتق»، والنَّسائيُّ في «الطَّلاق».


[1] قوله: «عتيقة عائشة»: ليست في (س).
[2] في (م) و(د): «كذا».
[3] في (ب) و(س): «أعتقتها».
[4] في (ب): «تعير».
[5] في (د) و(م): «لأنه».
[6] في (د) و(م): «ومهرها».
[7] في (د) و(م): «ثلث ماله فقط».
[8] في (د): «الحكمية».
[9] في (د) و(م): «لذا».
[10] في (ب): «عليه».