إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج

          5065- وبه قال: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) قال (حَدَّثَنَا أَبِي) حفصُ بن غياثٍ قال: (حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) سليمانُ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (إِبْرَاهِيمُ) النَّخعيُّ (عَنْ عَلْقَمَةَ) بن قيسٍ، أنَّه (قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ) بن مسعودٍ (فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، فَقَالَ) عثمانُ له: (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) وهي كنيةُ ابن مسعودٍ (إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَيَا) بالياء، وللأَصيليِّ _كما في «الفتح» و«اليونينية»(1)_ ”فَخَلَوا“ بالواو بدل الياء، كَدَعَوَا، وصوَّبها ابنُ التِّين لأنَّه واويٌّ، يعني: من الخلوَةِ، أي: دخَلا في موضعٍ خالٍ (فَقَالَ عُثْمَانُ) له: (هَلْ لَكَ _يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ_ فِي أَنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ) من نشاطِكَ وقوَّةِ شبابِكَ؟ (فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللهِ) بن مسعودٍ (أَنْ لَيْسَ لَهُ) لنفسِهِ (حَاجَةٌ إِلَى هَذَا) الَّذي ذكره عثمان من التَّزويجِ، ولأبوي الوقتِ وذرٍّ عن الحَمُّويي(2) والمُستملي: ”أو ليسَ لهُ“ أي: لعثمانَ ”حاجةٌ إلَّا هذا“ بتشديد اللَّام بدل إلى الجارَّةِ، أي: الترغيب في النِّكاحِ (أَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهْوَ) أي: والحالُ أنَّ ابن مسعود (يَقُولُ: أَمَا) بالتَّخفيف (لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلعم : يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ) جمع شابٍّ، وهو من بلغَ إلى أن يكملَ ثلاثين عند الشَّافعيَّة. وفي «الجواهر» لابن شَاسٍ من المالكيَّة: إلى الأربعين(3)، أي: يا(4) طائفةَ الشَّبابِ (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ) أي: الجماعَ، فهو محمولٌ على المعنى الأعمِّ بقدرتهِ على مؤنِ النِّكاحِ (فَلْيَتَزَوَّجْ) جواب الشَّرط، وعند النَّسائي من طريق أبي معشرٍ عن إبراهيمَ النَّخعيِّ: «مَن كانَ ذا طولٍ فلينكِح» (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي: الجماعَ لعجزِهِ عن مؤنهِ (فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ). قال أبو عُبيد: فعليهِ بالصَّومِ إغراءٌ لغائبٍ، ولا تكادُ العربُ تغري إلَّا لشاهدٍ، تقول: عليكَ زيدًا، ولا تقولُ: عليه زيدًا. وأُجيب بأنَّ الخطابَ للحاضرين الَّذين خاطبهُم أوَّلًا بقولهِ: «فَمَن استطاعَ منكُم» فالهاء في فعليهِ(5) ليستْ لغائبٍ(6) بل هي للحاضرِ المبهَمِ، إذ لا يصحُّ خطابه بالكاف، وهذا كما يقول الرَّجلُ: من قام الآنَ / منكم فله درهمٌ، فهذه الهاءُ لمن قامَ من الحاضرينَ لا لغائبٍ (فَإِنَّهُ) أي: الصَّومُ (لَهُ وِجَاءٌ) بكسر الواو وبالجيم ممدودًا. وقيل بفتح الواو مع القصرِ، بوزن عَصَا، أي: التَّعبُ والجفاءُ، وذلك بعيدٌ إلَّا أن يرادَ منه(7) معنَى الفتورِ؛ لأنَّه مِنْ وَجَى إذا فترَ عن المشي، فشبَّهَ الصَّوم في باب النِّكاح بالتَّعبِ في باب المشي، أي: قاطعٌ لشهوتِهِ، وأصله: رضُّ الأُنثيينِ لتذهبَ شهوةُ الجِماعِ، وإطلاقُ الصَّومِ على الوِجاءِ من مجازِ المشابهة لأنَّ الوجاءَ قطعُ النَّسلِ(8)، وقطعُ الشَّهوة إعدامٌ له أيضًا، وخصَّ الشَّباب بالخطابِ‼ لأنَّهم مَظِنَّةُ قوَّةِ الشَّهوةِ غالبًا بخلافِ الشُّيوخِ، وإن كان المعنَى معتبرًا إذا وجد السَّببَ في الكهولِ والشُّيوخِ أيضًا.
          واستدل بالحديثِ على أنَّ من لم يستطعِ الجماع فالمطلوبُ منه ترك التَّزويج لأنَّه أرشدهُ إلى ما ينافيهِ ويضعفُ دواعيهِ، والأمرُ في قوله: فليتزوج، وفي قوله: {فَانكِحُواْ} وإن كان ظاهرُهُما الوجوبُ إلَّا أنَّ المراد بهما الإباحة.
          قال في «الأم» بعد أن قال: قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ}... إلى قوله: {يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ}[النور:32] الأمرُ في الكتاب والسُّنَّة يحتملُ معانِي، أحدها(9): أن يكونَ اللهُ حرَّمَ شيئًا ثمَّ أباحهُ وكان(10) أمرُهُ إحلالَ ما حرَّمَ. كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ}[المائدة:2] وكقوله(11): {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} الاية[الجمعة:10] وذلك أنَّه حرَّمَ الصَّيدَ على المحرمِ، ونهى عن البيعِ عند النِّداءِ، ثمَّ أباحَهُما في وقتٍ غير الَّذي حرَّمهما فيه، كقوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} إلى قوله: {مَّرِيئًا}[النساء:4]. وقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ}[الحج:36] قال: وأشباهُ ذلك كثيرٌ في كتابِ الله وسنَّة رسولهِ صلعم ، ليسَ حتمًا أن يصطادُوا إذا حلُّوا، ولا ينتشرُوا لطلبِ التِّجارة إذا صلُّوا، ولا يأكلُ من صداقِ امرأتِهِ إذا طابَتْ به عنهُ نفسًا، ولا يأكلُ من بدنتهِ إذا نحرَهَا. قال: ويحتملُ أن يكون دلَّهم على ما فيه رشدهُم بالنِّكاح كقوله(12): {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ}[النور:32] يدلُّ على ما فيه سببُ الغنَى والنِّكاح،كقوله صلعم : «سافِرُوا تَصحُّوا». انتهى.
          وقد قسَّم بعضهم النِّكاحَ إلى الأحكامِ الخمسةِ: الوجوب، والنَّدب، والتَّحريم، والإباحة، والكراهة. فالوجوبُ فيما إذا خافَ العنتَ وقدرَ على النِّكاحِ، إلَّا أنَّه لا يتعيَّنُ واجبًا بل(13) إمَّا هو وإما التسرِّي، فإن تعذَّرَ (14) التَّسرِّي تعيَّن النِّكاحُ حينئذٍ للوجوب لا لأصلِ(15) الشَّريعةِ. والنَّدبُ لتائقٍ يجدُ أهبتهُ. والكراهةُ لعِنِّينٍ وممسوحٍ وزمنٍ، ولو كانوا واجدين مؤنه، وعاجزٍ عن مؤنهِ غير تائقٍ له لانتفاءِ حاجتهم إليه، مع التزامِ العاجزِ ما لا يقدرُ عليه، وخطر القيام به فيمَن عداهُ. والتَّحريمُ إمَّا أن يكونَ لعينهِ كالسَّبعِ المذكوراتِ في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء:23] أو غير ذلك ممَّا هو مذكورٌ في محلِّهِ.


[1] «واليونينية»: ليست في (م) و(د).
[2] قوله: «عن الحَمُّويي»: ليس في (ص).
[3] في (س): «أربعين».
[4] «يا»: ليست في (د).
[5] في (د): «عليه».
[6] في (م): «للغائب».
[7] في (س): «فيه» وقد سقطت من (م).
[8] في (س): «الفعل».
[9] في (م): «أحدهما».
[10] في (ب) و(س): «فكان».
[11] في (ب): «قوله».
[12] في (م) و(د): «لقوله تعالى».
[13] «بل»: ليست في (ص).
[14] في (م) و(د): «فقد».
[15] في (د): «الأصل».