إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله

          5063- وبه قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو سعيدُ بنُ الحكمِ بنِ محمد بنُ أبي مريمَ الجُمَحيُّ مولاهم البصريُّ قال: (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أي: ابن أبي كثيرٍ المدنيُّ قال: (أَخْبَرَنَا) ولأبي الوقتِ: ”أَخْبرني“ بالإفراد (حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ) اختُلِف في اسم أبيه على نحو عشرةِ أقوالٍ (أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ☺ يَقُولُ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ) اسم جمع لا واحد له من لفظه، والثَّلاثةُ: عليُّ بن أبي طالبٍ، وعبدُ الله بن عَمرو بن العاصِ، وعثمانُ بن مظعونٍ كما في مرسل سعيدِ بن المسيَّب عند عبد الرَّزَّاقِ (إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلعم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلعم ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا) بضم الهمزة وكسر الموحدة مبنيًّا للمفعول، بذلك (كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا) بتشديد اللام المضمومة، عدُّوها قليلةً (فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلعم ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ) بضم الغين، ولابنِ عساكرٍ وأبوي الوقتِ وذرٍّ عن المُستملي: ”قد غفرَ اللهُ لهُ“ (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ) ولأبوي الوقتِ وذرٍّ: ”فقالَ“ (أَحَدُهُمْ: أَمَّا) بفتح الهمزة‼ وتشديد الميم، للتفصيلِ (أَنَا فَإِنِّي) ولأبي ذرٍّ عن المُستملي والكُشمِيهنيِّ: ”فأنَا“ (أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا) قيدٌ «للَّيل» لا لقولهِ: «أصلِّي» (وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ) بالنَّهار، سوى العيدينِ وأيَّام التَّشريقِ، ولذا لم يقيِّدهُ بالتَّأبيد (وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) زاد الأربعةُ لفظ: ”إليهِم“ (فَقَالَ) لهم: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا. أَمَا) بفتح الهمزة وتخفيف الميم، حرفُ تنبيه (وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ) قال في «الفتح»: فيه إشارةٌ إلى ردِّ ما بنوا عليه أمرهُم من أنَّ المغفورَ له لا يحتاجُ إلى مزيدٍ في العبادةِ بخلاف غيره، فأعلمهُم أنَّه مع كونه لا(1) يبالِغُ في التَّشديدِ في العبادةِ أخشَى للهِ وأتقَى من الَّذين يشدِّدون، وإنَّما كان كذلك لأنَّ المشدِّدَ لا يأمنُ من المللِ، بخلاف المقتصدِ فإنَّه أمكن لاستمرارِه / ، وخير العمل ما داومَ عليه صاحبهُ. انتهى.
          فالنَّبيُّ صلعم وإن أُعطِي قُوى الخلقِ في العباداتِ، لكن قصدهُ التَّشريعُ وتعليم أمَّته الطَّريق الَّتي لا يملُّ بها صاحبُها. وقال ابنُ المنيِّرِ: إنَّ هؤلاء بنوا على أنَّ الخوفَ الباعثَ على العبادةِ ينحصرُ في خوفِ العقوبةِ، فلمَّا علموا أنَّه صلعم مغفورٌ له ظنُّوا أن لا خوفَ، وحملوا قلَّةَ العبادةِ على ذلك، فردَّ ╕ عليهم ذلك، وبيَّن أنَّ خوفَ الإجلالِ أعظمُ من الإكثارِ المتحقَّقِ الانقطاع لأنَّ الدَّائمَ وإن قلَّ أكثرُ من الكثيرِ إذا انقطعَ، وفيه دليلٌ على صحَّةِ مذهبِ القاضي _وغيره(2)_ حيث قالَ: لو أوجبَ الله شيئًا لوجبَ وإن لم يتوعَّد بعقوبةٍ على تركِه، وهو مقامُ الرَّسول صلعم التَّعبُّدُ على الشُّكرِ وعلى الإجلالِ، لا على خوفِ العقوبةِ، فإنَّه منهُ في عصمةٍ.
          (لَكِنِّي) استدراكٌ من شيء(3) محذوفٌ دلَّ عليه السِّياقُ، تقديره: أنا وأنتُم بالنِّسبةِ إلى العبوديَّةِ سواءٌ، لكن أنا (أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ) أعرضَ (عَنْ سُنَّتِي) طريقتِي وتَركها (فَلَيْسَ مِنِّي) إذا كان غير معتقدٍ لها، والسُّنَّةُ مفردٌ مضافٌ يعمُّ على الأرجحِ فيشمل الشَّهادتين وسائر أركانِ الإسلامِ، فيكون المعرضُ عن ذلك مرتدًّا، وكذا إن كان الإعراضُ تنطُّعًا يفضِي إلى اعتقادِ أرجحيَّةِ عملهِ، وأمَّا إن كان ذلك بضربٍ من التَّأويلِ كالورعِ لقيامِ شبهةٍ في ذلك الوقتِ، أو عجزٍ عن القيامِ بذلك، أو لمقصودٍ صحيحٍ فيعذر صاحبهُ‼.
          وفيه: التَّرغيب في النِّكاح، وقد اختلفَ هل هوَ من العباداتِ أو المباحاتِ(4)، فقال الحنفيَّة: هو سُّنَّةٌ مؤكَّدةٌ على الأصحِّ. وقال الشافعيَّةُ: من المباحاتِ. قال القَمُوليُّ في «شرح الوسيط» المسمى بـ «البحر» في «باب النِّكاحِ»: فرعٌ: نصَّ الإمامُ على أنَّ النِّكاحَ من الشَّهواتِ لا من القُرباتِ، وإليه أشار الشَّافعيُّ في «الأمِّ» حيثُ قال: قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء}[آل عمران:14] وقال ╕ : «حبِّبَ إليَّ من دُنياكُم(5) الطِّيبُ والنِّساءُ»، وابتغاءُ النَّسلِ به أمرٌ مظنونٌ، ثمَّ لا يدرى أصالحٌ أم طالحٌ(6). انتهى.
          وقال النَّوويُّ: إن قصدَ به طاعةً كاتِّباع السُّنَّةِ، أو تحصيل ولدٍ صالحٍ، أو عفَّة فرجهِ أو عينهِ فهو من أعمالِ الآخرةِ يثابُ عليه، وهو للتَّائقِ _أي: المحتاج إليه(7) ولو خصِيًّا_ القادرِ على مؤنهِ أفضلُ من التخلِّي للعبادةِ تحصِينًا للدِّين، ولما فيه من إبقاءِ النَّسلِ، والعاجزُ عن مؤنهِ يصومُ، والقادرُ غير التَّائقِ إن تخلَّى للعبادةِ فهو أفضلُ من النِّكاحِ، وإلا فالنِّكاحُ أفضلُ له من تركهِ لئلَّا تُفضي به البطالةُ إلى الفواحِش. انتهى.
          وقد تعقَّبَ الشَّيخ كمال الدِّين ابنُ الهُمَام قولَهم: التَّخلِّي للعبادةِ أفضلُ، فقال: حقيقة «أفضل» تنفِي كونَه مُباحًا إذ لا فضلَ في المباحِ، والحقُّ أنَّه إن اقترن بنيَّةٍ كان ذا فضلٍ، والتَّجرُّد عند الشَّافعيِّ أفضلُ لقوله تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا}[آل عمران:39] مدح يحيى ◙ بعدمِ إتيانِ النِّساءِ مع القدرةِ عليهِ لأنَّ هذا معنَى الحَصورِ، وحينئذٍ فإذا استدلَّ عليه(8) بمثل قولهِ ╕ : «أربَعٌ من سننِ المرسلينَ: الحياءُ، والتَّعطُّر، والسِّواك، والنِّكاح» رواه التِّرمذيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ. فله(9) أن يقول في الجوابِ: لا أنكِرُ الفضيلةَ مع حسن النيَّةِ، وإنَّما أقول: التَّخلِّي للعبادةِ أفضلُ، فالأولى في جوابهِ التَّمسكُ بحاله ╕ في نفسهِ، وردُّهُ على من أرادَ من أمَّتهِ التَّخلِّي للعبادةِ فإنَّه صريحٌ في عين المتنازعِ فيه، يعني: حديث هذا الباب، فإنَّه ╕ ردَّ هذا الحال ردًّا مؤكَّدًا حتى تبرَّأ منه، وبالجملةِ فالأفضليَّةُ في الاتِّباعِ لا فيما يُخيَّل للنَّفسِ أنَّه أفضلُ نظرًا إلى ظاهر(10) عبادةٍ أو توجُّهٍ، ولم يكن الله ╡ يرضَى لأشرفِ أنبيائهِ إلَّا بأشرفِ الأحوالِ، وكان حالهُ إلى الوفاةِ النِّكاحَ، فيستحيل أن يقرَّهُ على تركِ الأفضلِ مدَّةَ حياته، وحالُ يحيى ◙ كان أفضل في تلكَ الشَّريعةِ، وقد نُسخَتِ‼ الرَّهبانيَّةُ في ملَّتِنا، ولو تعارضَا قدِّمَ التَّمسُّك بحالِ نبينا ╕ ، ومن(11) تأمَّل ما يشتملُ عليه النِّكاحُ من تهذيبِ الأخلاق، وتربيةِ الولدِ، والقيام بمصالحِ المسلمِ العاجزِ عن القيامِ بها، وإعفافِ الحُرَمِ ونفسهِ، ودفع الفتنةِ عنه وعنهنَّ إلى غير ذلك من الفرائضِ / الكثيرةِ لم يكدْ يقف عن(12) الجزمِ بأنَّه أفضلُ من التَّخلِّي بخلافِ ما إذا عارضهُ خوفُ جورٍ، إذ الكلامُ ليس فيه بل في الاعتدالِ مع أداءِ الفرائضِ والسُّنن، وذكرنا أنَّه إذا لم تقترن به نيَّةٌ كان مباحًا لأنَّ المقصودَ منه حينئذٍ مجرَّدُ قضاءِ الشَّهوةِ، ومبنى العبادة على خلافهِ. ثمَّ قال: وأقولُ: بل فيه فضلٌ من جهةِ أنَّه كان متمكِّنًا من قضائِها بغيرِ الطَّريقِ المشروعِ، فالعدولُ إليهِ _مع ما يعلمهُ من أنَّه قد يستلزمُ أثقالًا_ فيه قصد تركِ المعصيةِ، وعليه يثابُ. انتهى.


[1] «لا»: ليست في (م) و(ص) و(د).
[2] «وغيره»: ليست في (ص) و(س).
[3] قوله: «من شيء» سقط من الأصول واستُدرك من فتح الباري.
[4] في (م): «الحاجات».
[5] في (ب) زيادة: «ثلاث».
[6] في (م) و(د): «غير صالح».
[7] في (س): «له».
[8] «عليه»: ليست في (م).
[9] في (م) و(ص) و(د): «له».
[10] في (س): «ظاهرة».
[11] في (د): «وإن».
[12] في (م) و(د): «على».