إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا تشتري ولا تعد في صدقتك

          1490- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ‼ قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) الإمام، وسقط لأبي ذرٍّ «ابن أنسٍ» (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدويِّ المدنيِّ (عَنْ أَبِيهِ) أسلم المخضرم، مولى عمر، المُتوفَّى سنة ستِّين، وهو ابن أربع عشرة(1) ومئة سنةٍ (قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ) بن الخطَّاب ( ☺ يَقُولُ: حَمَلْتُ) رجلًا (عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي: جعلته حمولةَ من لم تكن له حمولةٌ من المجاهدين(2)، ملَّكه إيَّاه، وكان اسم الفرس فيما ذكره ابن سعدٍ في «الطَّبقات»: الورد، وكان لتميمٍ الدَّاريِّ، فأهداه للنَّبيِّ صلعم فأعطاه لعمر، ولم يعرف الحافظ ابن حجرٍ اسم الرَّجل (فَأَضَاعَهُ) الرَّجل (الَّذِي / كَانَ عِنْدَهُ) بترك القيام عليه بالخدمة والعلف والسَّقي وإرساله للرَّعي حتَّى صار كالشَّيء الهالك (فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، فظَنَنْتُ) وفي نسخةٍ: ”وظننت“ بالواو بدل الفاء (أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلعم ) عن ذلك (فَقَالَ: لَا تَشْتَرِ) بحذف ضمير(3) المفعول، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: ”لا تشتره“ بإثباته، ولابن عساكر: ”لا تشتريه“ بإشباع كسرة الرَّاء والياء، وظاهر النَّهي التَّحريمُ، لكنَّ الجمهور على أنَّه للتَّنزيه، فيُكرَه لمن تصدَّق بشيءٍ أو أخرجه في زكاةٍ أو كفَّارةٍ أو نذرٍ و(4) نحو ذلك من القربات أن يشتريه ممَّن دفعه هو إليه أو يتَّهبه أو يتملَّكه باختياره منه، فأمَّا إذا ورثه منه فلا كراهة فيه، وكذا لو انتقل إلى ثالثٍ ثمَّ اشتراه منه المتصدِّق فلا كراهة، وحكى الحافظ العراقيُّ في «شرح التِّرمذيِّ»: كراهة شرائه من ثالثٍ انتقل إليه من المُتصدِّق به عليه عن بعضهم؛ لرجوعه فيما تركه لله، كما حَرُم على المهاجرين سكنى مكَّة بعد هجرتهم منها لله تعالى، وأشار ╕ إلى العلَّة في نهيه عن الابتياع بقوله: (وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ) أي: لا تَعُدْ في صدقتك بطريق الابتياع ولا غيره، فهو من عطف العامِّ على الخاصِّ (وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ) متعلِّقٌ بقوله: «لا تشتره» أي: لا ترغب فيه(5) ألبتَّة، ولا تنظر إلى رخصه، ولكن انظر إلى أنَّه صدقتك، وقد أورد ابن المُنيِّر هنا سؤالًا، وهو أن الإغياء في النَّهي عادته أن يكون بالأخفِّ أو الأدنى، كقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ}[الإسراء:23] ولا خفاء بأنَّ(6) إعطاءه إيَّاه بدرهمٍ أقرب إلى الرُّجوع في الصَّدقة ممَّا إذا باعه بقيمته، وكلام الرَّسول صلعم هو الحجَّة في الفصاحة، وأجاب بأنَّ المراد: لا تغلِّب(7) الدُّنيا على الآخرة وإن وفَّرها معطيها، فإذا زهد فيها وهي مُوفَّرةٌ، فلأن(8) يزهد فيها وهي مُقتَّرةٌ أَحْرى وأَوْلى، فهذا على وفق القاعدة(9). انتهى. (فَإِنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) الفاء للتَّعليل، أي: كما يقبح أن يقيء ثمَّ يأكل كذلك يقبح أن يتصدَّق بشيءٍ، ثمَّ يجرَّه إلى نفسه بوجهٍ من الوجوه، وفي روايةٍ للشَّيخين(10): «كالكلب يعود في قيئه» [خ¦2623] فشُبِّه بأخسِّ الحيوان في أخسِّ أحواله تصويرًا للتَّهجين وتنفيرًا منه، قال في «المصابيح»: وفي ذلك دليلٌ على المنع من الرُّجوع في الصَّدقة؛ لما اشتمل عليه من التَّنفير الشَّديد؛ من حيث شبَّه الرَّاجع بالكلب، والمرجوع فيه‼ بالقيء، والرُّجوع في الصَّدقة برجوع الكلب في قيئه. انتهى. وجزم بعضهم بالحرمة، قال قتادة: لا نعلم القيء إلَّا حرامًا(11)، والصَّحيح أنَّه للتَّنزيه؛ لأنَّ فعل الكلب لا يُوصَف بتحريمٍ؛ إذ لا تكليف عليه، فالمراد: التَّنفيرُ من العَوْد بتشبيهه(12) بهذا المستقذر(13).


[1] زيد في (د): «سنة».
[2] قوله: «جعلته حمولةَ من لم تكن له حمولةٌ من المجاهدين»، ليس في (م).
[3] «ضمير»: ليس في (د).
[4] في (ب) و(س): «أو».
[5] في (م): «إليه».
[6] في (د) و(م): «أنَّ».
[7] في (م): «يغلِّب».
[8] في (د): «فلا»، وهو تحريفٌ.
[9] في (م): «العادة»، وكذا في مصابيح الجامع.
[10] في (د): «الشَّيخين».
[11] في (د): «محرَّمًا».
[12] في (د): «بتشبُّهه».
[13] في (د): «المُتقذَّر».