إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما

          7444- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) العمِّيُّ (عَنْ أَبِي عِمْرَانَ) عبد الملك بن حبيبٍ الجونيِّ، من علماء البصرة (عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن قيسٍ أبي موسى الأشعريِّ ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: جَنَّتَانِ) مبتدأٌ (مِنْ فِضَّةٍ) خبرُ قولِه: (آنِيَتُهُمَا) والجملة خبر المبتدأ الأوَّل، ومتعلَّق «من فضَّةٍ» محذوفٌ، أي: آنيتهما كائنةٌ من فضَّةٍ (وَمَا فِيهِمَا) عطفٌ على «آنيتهما» وكذا قوله: (وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا) وفي رواية حمَّاد بن سلمة عن ثابتٍ البُنانيِّ، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال: قال(1) حمَّادٌ: لا أعلمه إلَّا قد رفعه، قال: «جنَّتان من ذهبٍ للمقرَّبين، ومن دونهما جنَّتان من وَرِقٍ لأصحاب اليمين» رواه الطَّبريُّ(2) وابن أبي حاتمٍ ورجاله ثقاتٌ، واستُشكِل ظاهره، إذ مقتضاه أنَّ الجنَّتين من فضَّةٍ لا ذَهَبَ فيهما وبالعكس بحديث أبي هريرة ☺ : قلنا / : يا رسول الله حدِّثنا عن الجنَّة ما بناؤها؟ قال: «لَبِنةٌ من ذهبٍ ولَبِنةٌ من فضَّةٍ» رواه أحمد والتِّرمذيُّ وصحَّحه ابن حبَّان، وأُجيب بأنَّ الأوَّل: صفةُ ما في كلِّ جنةٍ من آنيةٍ وغيرها، والثَّاني: صفة حوائط الجنان كلِّها (وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِ) بكسر الكاف وسكون الموحَّدة، وفي نسخةٍ: ”الكبرياء“ (عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ) أي: جنَّة إقامةٍ، وهو ظرفٌ لـ «القوم» لا لله(3) تعالى؛ إذ لا تحويه الأمكنة، وقال القرطبيُّ: متعلِّقٌ بمحذوفٍ‼ في موضع الحال من القوم، مثل كائنين في جنَّة عدنٍ، وقال في «شرح المشكاة»: «على وجهه» حالٌ من «رداء الكبرياء» والعامل معنى «ليس» وقوله: «في الجنَّة» متعلِّقٌ بمعنى الاستقرار في الظَّرف، فيفيد بالمفهوم(4) انتفاء هذا الحصر في غير الجنَّة، وإليه أشار الشَّيخ التُّوربشتيُّ بقوله: يريد أنَّ العبد المؤمن إذا تبوَّأ مقعده من الجنَّة تبوَّأ والحجب مرتفعةٌ، والموانع التي تحجبه عن النَّظر إلى ربِّه مضمحلَّةٌ إلَّا ما يصدُّهم من هيبة الجلال، وسبحات الجمال، وأبَّهة الكبرياء، فلا يرتفع ذلك منهم(5) إلَّا برأفته ورحمته تفضُّلًا منه على عباده، قال الطِّيبيُّ: وأنشد في المعنى:
أشتاقه فإذا بدا                     أطرقت من إجلاله
لا خيفةً بل هيبةً                     وصيانةً لجماله
وأصدُّ عنه تجلُّدًا                     وأروم طيف خياله
انتهى.
          والحديث من المتشابه؛ إذ لا وجه حقيقةً ولا رداءٌ، فإمَّا أن يُفوَّض أو يُؤوَّل؛ كأن يُقال: استعار لعظيم سلطان الله وكبريائه وعظمته وجلاله المانع إدراك أبصار البشر مع ضعفها(6) لذلك رداء الكبرياء، فإذا شاء تقوية أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم حجاب هيبته وموانع عظمته، وقال أبو العبَّاس القرطبيُّ: الرِّداء استعارةٌ كنَّى بها عن العظمة كما في الحديث الآخر: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» وليس المراد الثِّياب المحسوسة، لكنَّ المناسبة أنَّ الرِّداء والإزار لمَّا كانا ملازمين للمخاطب من العرب عبَّر عن العظمة والكبرياء بهما. انتهى. واستُشكِل في «الكواكب» ظاهر الحديث: بأنَّه يقتضي أنَّ رؤية الله غير واقعةٍ، وأجاب بأنَّ مفهومه بيان قرب النَّظر؛ إذ رداء الكبرياء لا يكون مانعًا من الرُّؤية، فعبَّر عن زوال المانع عن الأبصار بإزالة الرِّداء، قال الحافظ ابن حجرٍ: وحاصله أنَّ رداء الكبرياء مانعٌ من الرُّؤية، فكأنَّ في الكلام حذفًا تقديره بعد قوله: «إلَّا رداء الكبرياء» فإنَّه يمنُّ عليهم برفعه، فيحصل لهم الفوز بالنَّظر إليه، فكأنَّ المراد أنَّ المؤمنين إذا تبوَّؤوا مقاعدهم من الجنَّة لولا ما عندهم من هيبة الجلال لما حال بينهم وبين الرُّؤية حائلٌ، فإذا أراد إكرامهم حفَّهم برأفته، وتفضَّل عليهم بتقويتهم على النَّظر إليه سبحانه وتعالى. انتهى. وهو معنى قول التُّوربشتيِّ السَّابق، والحاصل: أنَّ رؤية الله تعالى واقعةٌ يوم القيامة في الموقف لكلِّ أحدٍ من(7) الرِّجال والنِّساء، وقال قومٌ من أهل السُّنَّة: تقع أيضًا للمنافقين، وقال آخرون: وللكافرين أيضًا، ثمَّ يُحجَبون بعد ذلك لتكون عليهم(8) حسرةً، وأمَّا الرُّؤية في الجنَّة فأجمع أهل السُّنَّة على أنَّها حاصلةٌ للأنبياء والرُّسل والصِّدِّيقين من كلِّ أمَّةٍ ورجال المؤمنين من البشر‼ من هذه الأمَّة، واختُلِف في نساء هذه الأمَّة فقيل: لا يرين؛ لأنَّهنَّ مقصوراتٌ في الخيام، ولم يَرِد في أحاديث الرُّؤية تصريحٌ برؤيتهنَّ، وقيل: يرين؛ أخذًا من عمومات النُّصوص الواردة في الرُّؤية، أو يرين في مثل أيَّام الأعياد لأهل الجنَّة تجلِّيًّا عامًّا، فيرينه لحديث أنسٍ عند الدَّارقطنيِّ مرفوعًا: «إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربَّهم ╡، فأحدثهم / عهدًا بالنَّظر إليه في كلِّ جمعةٍ، ويراه المؤمنات يوم الفطر ويوم النَّحر» وذهب الشَّيخ عزُّ الدِّين بن عبد السَّلام إلى أنَّ الملائكة لا يرون ربَّهم؛ لأنَّهم لم يثبت لهم ذلك كما ثبت للمؤمنين من البشر، وقد قال تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[الأنعام:103] خرج منه مؤمنو البشر بالأدلَّة الثَّابتة، فبقي على عمومه في الملائكة، ولأنَّ للبشر طاعاتٍ لم يثبت مثلها للملائكة كالجهاد والصَّبر على البلايا والمحن وتحمُّل المشاقِّ في العبادات لأجل الله، وقد ثبت أنَّهم يرون ربَّهم ويسلِّم عليهم ويبشِّرهم بإحلال رضوانه عليهم أبدًا، ولم يثبت مثل هذا(9) للملائكة. انتهى.
          وقد نقله عنه جماعةٌ ولم يتعقَّبوه بنكيرٍ، منهم: العزُّ ابنُ جماعةٍ، ولكنَّ الأقوى أنَّهم يرونه كما نصَّ عليه أبو الحسن الأشعريُّ في كتابه «الإبانة» فقال: أفضل لذَّات الجنَّة رؤية الله تعالى، ثمَّ رؤية نبيِّه صلعم ، فلذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسلين وملائكته المقرَّبين وجماعة المؤمنين والصِّدِّيقين النَّظر إلى وجهه الكريم، ووافقه على ذلك البيهقيُّ وابن القيِّم والجلال البلقينيُّ.
          والحديث سبق في تفسير «سورة الرَّحمن» [خ¦4878].


[1] «قال»: ليس في (د).
[2] في غير (د) و(س): «الطَّبرانيُّ»، والمثبت موافقٌ لما في «الفتح» (13/441)، وهو في تفسير الطبري (23/57).
[3] في (د) و(ع): «إلى الله».
[4] في غير (د) و(ع): «المفهوم».
[5] في (د): «عنهم».
[6] إلى هنا انتهى السَّقط في (ص). وقد بدأ قبل الحديث(7369).
[7] «من»: ليس في (د).
[8] «عليهم»: ليس في (ب) و(ص).
[9] في (د) و(ص): «ذلك».