إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: {وكان الله سميعًا بصيرًا}

          ░9▒ (بابٌ) بالتَّنوين ({وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:134]) ولغير أبي ذرٍّ: ”قولُ /  الله تعالى“ بالرَّفع: ”{وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}“ وقد عُلِم بالضَّرورة من الدِّين وثبت في الكتاب والسُّنَّة بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله: أنَّ الباري تعالى حيٌ سميعٌ بصيرٌ، وانعقد إجماع أهل الأديان بل جميع العقلاء على ذلك، وقد يُستَدلُّ على الحياة بأنَّه عالمٌ قادرٌ، وكلُّ عالمٍ قادرٍ حيٌّ بالضَّرورة، وعلى السَّمع والبصر بأنَّ كلَّ حيٌّ يصحُّ كونه سميعًا بصيرًا، وكلُّ ما يصحُّ للواجب من الكمالات يثبت بالعقل(1)؛ لبراءته عن أن يكون له ذلك بالقوَّة والإمكان، وعلى الكلِّ بأنَّها صفات كمالٍ قطعًا، والخلوُّ عن صفات الكمال في حقِّ من يصحُّ اتِّصافه بها نقصٌ، وهو على الله تعالى مُحالٌ، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}[الأنعام:83] وقد ألزم ◙ أباه الحجَّة بقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ}[مريم:42] فأفاد أنَّ عدمهما نقصٌ لا يليق بالمعبود، ولا يلزم من قدمهما قدم المسموعات والمبصَرات، كما لا يلزم من قدم العلم قدم المعلومات؛ لأنَّها صفاتٌ قديمةٌ يحدث لها تعلُّقات بالحوادث، ولا يقال: إنَّ معنى: سميعٌ وبصيرٌ: عليمٌ؛ لأنَّه يلزم منه _كما قال ابن بطَّال_ التَّسوية بين الأعمى الذي يعلم أنَّ السَّماء خضراء ولا يراها، والأصمِّ الذي يعلم أنَّ في النَّاس أصواتًا ولا يسمعها، فقد صحَّ أنَّ كونه سميعًا بصيرًا يفيد قدرًا زائدًا على كونه عليمًا، وكونه سميعًا بصيرًا يتضمَّن أنَّه يَسْمَعُ بِسَمْعٍ ويُبصر ببصرٍ، كما تضمَّن كونه عليمًا أنَّه يعلم بعلمٍ، وقد أطلق تعالى على نفسه الكريمة‼ هذه الأسماء خطابًا لمن هو من أهل اللُّغة، والمفهوم في اللُّغة من «عليم»: ذاتٌ له علمٌ، بل يستحيل عندهم «عليمٌ» بلا علمٍ كاستحالته بلا معلومٍ، فلا يجوز صرفه عنه إلَّا لقاطعٍ عقليٍّ يوجب نفيه، وقد أُجيب عن قول المعتزليِّ: بأنَّ السَّمع ينشأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصِّماخ، والله منزَّهٌ عن الجوارح، بأنَّ ذلك عادةٌ أجراها الله تعالى فيمن يكون حيًّا، فيخلقه الله تعالى عند وصول الهواء إلى المحلِّ المذكور، والله تعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط، وكذا يرى المرئيَّات بدون المقابلة وخروج الشُّعاع، فذاته تعالى مع كونه حيًّا موجودًا لا تشبه الذَّوات، فكذلك صفات ذاته لا تشبه الصِّفات، فيسمع ويبصر بلا جارحةِ حدقةٍ وأذنٍ، بمرأًى منه خفاء الهواجس، وبمسمعٍ(2) منه صوت أرجل النَّمل على الصَّخرة الملساء، وحظُّ العبد من هذين الاسمين أن يتحقَّق أنَّه بمسمعٍ من الله ومرأًى منه، فلا يستهين باطِّلاعه عليه ونظره إليه، ويراقب مجامع أحواله من مقاله وأفعاله. قيل: إذا عصيت مولاك فاعْصِ في موضع لا يراك.
          (وَقَالَ الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، فيما وصله أحمد والنَّسائيُّ: (عَنْ تَمِيمٍ) أي: ابن سلمة الكوفيِّ (عَنْ عُرْوَةَ) بن الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ) ♦ أنَّها (قَالَتِ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ) أي: أدرك سمعه الأصوات، وليس المراد من الوسع ما يفهم من ظاهره؛ لأنَّ الوصف بذلك يؤدِّي إلى القول بالتَّجسيم، فيجب صرفه عن ظاهره إلى ما يقتضي الدَّليل صحَّته (فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صلعم : {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}[المجادلة:1]) كذا اختصره، وتمامه كما عند أحمد بعد قوله: الأصوات: «لقد جاءت المجادِلة إلى رسول الله صلعم تكلِّمه في جانب البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله الآية» وعند ابن ماجه وابن أبي حاتمٍ أنَّ عائشة قالت: «تبارك الذي أوعى سمعه كلَّ شيءٍ، إنّي أسمع كلام خولة ويخفى عليَّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلعم وهي تقول(3): يا رسول الله؛ أَكَلَ شبابي ونَثَرْتُ له بطني، حتَّى إذا كبرت سنِّي وانقطع ولدي ظاهَرَ منِّي، اللهمَّ إنِّي أشكو إليك، قالت: فما برحت حتَّى نزل جبريل بهذه الآية».


[1] في (د): «بالفعل».
[2] في (د): «ويسمع»، ولعلَّه تحريفٌ.
[3] زيد في غير (د): «له».