إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوًا

          7439- وبه قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) هو يحيى بن عبد الله بن بُكيرٍ، بضمِّ الموحَّدة وفتح الكاف قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الإمامُ، وثبت: «ابن سعدٍ» لأبي ذرٍّ (عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ) الجُمحيِّ(1) (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ) اللَّيثيِّ مولاهم (عَنْ زَيْدٍ) هو ابن أسلم مولى عمر بن الخطَّاب (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بالتَّحتيَّة والمهملة المخفَّفة (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالكٍ (الخُدْرِيِّ) ☺ أنَّه(2) (قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ) ╕ : (هَلْ تُضَارُّونَ) بضمِّ أوّله وتشديد الرَّاء (فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ)؟ وسقط قوله «والقمر» لأبي ذرٍّ، ويروى: ”تضارون“ بالتَّخفيف (إِذَا كَانَتْ) أي: السَّماء (صَحْوًا؟) أي: ذات صحوٍ، أي: انقشع عنها الغيم (قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَا تُضَارُّونَ) لا تُخالفون أحدًا ولا تُنازعونه(3) (فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا) أي: الشَّمس والقمر، ولأبي ذرٍّ: ”في رؤيتها“ أي: الشَّمس، والتَّشبيه المذكور هنا(4) إنَّما هو في الوضوح وزوال الشَّكِّ، لا في المقابلة والجهة، وسائر الأمور العاديَّة عند رؤية المُحْدَثات، وقال في «المصابيح»: هذا مِن باب(5) تأكيد المدح بما يشبه الذَّمَّ، وهو مِن أفضل ضَرْبيه؛ وذلك أنَّه استثنى من صفة ذمٍّ منفيَّةٍ عن الشَّيء صفةَ مَدْحٍ لذلك الشَّيء بتقدير دخولها فيها، أي: إلَّا كما تضارُّون في رؤية الشَّمس في حال صحو السَّماء‼ أي: إن كان ذلك ضيرًا، فأثبت شيئًا من العيب على تقدير كون رؤية الشَّمس في وقت الصَّحو من العيب، وهذا التَّقدير المفروضُ محالٌ؛ لأنَّه من كمال التَّمكُّن من الرُّؤية دون ضررٍ يلحق الرَّائي، فهو في المعنى تعليقٌ بالمحال، فالتَّأكيد فيه من جهة أنَّه كدعوى الشَّيء ببيِّنةٍ؛ لأنَّه علَّق نقيض المدَّعى وهو إثبات شيءٍ من العيب بالمحال، والمعلَّق بالمحال محالٌ، فعدم العيب مُحقَّقٌ، ومن جهة أنَّ الأصل في مُطلق الاستثناء الاتِّصال، أي: كون المستثنى منه بحيث يدخُل فيه المستثنى على تقدير السُّكوت عنه، وذلك لِمَا تقرَّر في موضعه من أنَّ الاستثناء المنقطع مجازٌ، وإذا كان الأصل في الاستثناء الاتِّصال فَذِكْرُ أداته قبل ذكر ما بعدها يُوهِم إخراج الشَّيء ممَّا قبله، فإذا وليها صفةَ مدحٍ وتحوَّل الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع جاء(6) التَّأكيد لِمَا فيه من المدح على المدح، والإشعار بأنَّه لم يجد صفة ذمِّ يستثنيها، فاضطُرَّ إلى استثناء صفة مدحٍ، وتحوَّل الاستثناء إلى الانقطاع (ثُمَّ قَالَ: يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ) النَّصارى (مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ) المشركون (مَعَ أَوْثَانِهِمْ) بالمثلَّثة فيهما (وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”مع إِلههم“ بكسر الهمزة وإسقاط / الفوقيَّة بلفظ الإفراد (حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ) ╡ (مِنْ بَرٍّ) _بفتح الموحَّدة وتشديد الرَّاء_ مُطيعٍ لربِّه (أَوْ فَاجِرٍ) مُنهمكٍ في المعاصي والفجور (وَغُبَّرَاتٌٍ) بضمِّ الغين المعجمة وتشديد الموحَّدة بعدها راءٌ فألفٌ ففوقيَّةٌ، والجرِّ عطفًا على المجرور، أو مرفوع عطفًا على مرفوع «يبقى» أي: بقايا (مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ) بضمِّ الفوقيَّة وفتح الرَّاء (كَأَنَّهَا سَرَابٌ) بالسِّين المهملة، وهو ما يتراءى وسط النَّهار في الحرِّ الشَّديد يلمع كالماء، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”السَّراب“ بالتَّعريف (فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ(7) ابْنَ اللهِ) قال الجوهريُّ: منصرفٌ لخفَّته وإن كان أعجميًا، مثل نوحٍ ولوطٍ؛ لأنَّه تصغير عزر (فَيُقَالُ) لهم: (كَذَبْتُمْ) في كون عزيرٍ ابن الله (لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ) قال الكِرمانيُّ: فإن قلت: إنَّهم كانوا صادقين في عبادة عُزير، قلت: كذبوا في كونه ابنَ الله، فإن قلت: المرجع هو الحُكم الموقَع لا الحكم المُشار إليه، فالصِّدق والكذب راجعان إلى الحكم بالعبادة، لا إلى الحكم بكونه ابنًا، قلت: إنَّ الكذب راجعٌ إلى الحكم بالعبادة المقيَّدة، وهي مُنتفيةٌ في الواقع باعتبار انتفاء قيدها، أو هو في حكم القضيَّتين كأنَّهم قالوا: عزيرٌ هو ابن الله، ونحن كنَّا نعبده، فكذبهم في القضيَّة الأولى. انتهى. وقال البدر الدَّمامينيُّ: صرَّح أهل البيان بأنَّ مورد الصِّدق والكذب هو النِّسبة التي يتضمَّنُها(8) الخبر، فإذا قُلت: زيدُ بن عمرٍو قائمٌ؛ فالصِّدق والكذب راجعان إلى القيام لا إلى بنوَّة زيدٍ، وهذا الحديث يردُّ عليهم، وحاول‼ بعض المتأخِّرين الجواب بأن قال(9): يراد كَذبتُم في عبادتكم لعُزيرٍ أو مسيحٍ(10) موصوفٍ بهذه الصِّفة (فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ) لهم: (اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ(11) فِي جَهَنَّمَ) وفي «تفسير سورة النِّساء» [خ¦4581] «فماذا تبغون؟ فقالوا: عَطِشْنَا ربَّنا فاسقنا، فيشار ألا تَرِدون، فيُحشرون إلى النَّار كأنَّها سرابٌ يحطم بعضُها بعضًا، فيتساقطون في النَّار» (ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ المَسِيحَ ابْنَ اللهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ) في كون المسيح ابنَ الله (لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ) زاد أبو ذرٍّ: ”في جهنَّم“ (حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ) ╡ (مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: ما يَحْبِسُكُمْ) عنِ الذَّهاب، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ما يُجلِسُكم“ بالجيم واللَّام (وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ) أي: النَّاس الَّذي زاغوا عن الطَّاعة في الدُّنيا (وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ اليَوْمَ) قال البِرماويُّ والعينيُّ كالكِرمانيِّ: أي: فارقنا النَّاس في الدنيا، وكنَّا في ذلك الوقت أحوج إليهم منَّا في هذا اليوم، فكلُّ واحدٍ هو المفضَّل والمفضَّل عليه، لكن باعتبار زمانين، أي: نحن فارقنا أقاربنا وأصحابنا ممَّن كانوا يُحتاج إليهم في المعاش لزومًا لطاعتك، ومقاطعةً لأعدائك أعداء الدِّين، وغَرضُهُم فيه التَّضرع إلى الله تعالى في كشف هذه الشِّدَّة خوفًا من المصاحَبَة في النَّار، يعني: كما لم نكن مصاحبين لهم في الدنيا؛ لا نكون مصاحبين لهم في الآخرة (وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَلْحَقْ) بالجزم على الأمر (كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا) زاد في «النِّساء»(12) [خ¦4581] «الَّذي كنَّا نعبدُ» (قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الجَبَّارُ) تعالى إتيانًا منزَّهًا عن الحركة وسمات الحدوث (فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّل مَرَّةٍ) وقوله(13): «في صورةٍ» أي: علامة وَضَعَها لهم دليلًا على معرفته، أو في صفةٍ، أو هي(14) صورة الاعتقاد، أو خرج على وجه المشاكلة، وقوله: «غير صورته» قيل: يُشير به إلى ما عرفوه حين أخذ ذرِّيَّة آدم من صلبه، ثمَّ أنساهم ذلك في الدُّنيا، ثمَّ يذكِّرهم بها في الآخرة (فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا؟ فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الأَنْبِيَاءُ / فَيَقُولُ) ولأبي ذرٍّ: ”فيقال“: (هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ) علامةٌ (تَعْرِفُونَهُ) بها؟ (فَيَقُولُونَ: السَّاقُ) بالسِّين المهملة والقاف، ويَحتمل أنَّ الله عرَّفهم على ألسنة الرُّسل(15) من الأنبياء أو الملائكة أنَّ الله جعل لهم علامةَ تجلِّيه(16): السَّاق، وهو كما قال ابن عبَّاسٍ في تفسير: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}[القلم:42] الشِّدَّة من الأمر، والعرب تقول: قامت الحرب على ساقٍ إذا اشتدَّت، أو هو النُّور العظيم كما رُوِيَ عن أبي موسى الأشعريِّ، أو ما يتجدَّد للمؤمنين من الفوائد والألطاف كما قال ابن فورك، أو رحمةٌ للمؤمنين نقمةٌ لغيرهم قاله المهلَّب (فَيَكْشِفُ) تعالى (عَنْ سَاقِهِ) وقيل: «السَّاق» يأتي بمعنى النَّفس، أي: تتجلَّى لهم ذاته المقدَّسة(17) (فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ‼ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِله رِيَاءً) ليراه النَّاس (وَسُمْعَةً) ليسمعهم (فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ) قال العينيُّ: «كي» هنا بمنزلة لام التَّعليل في المعنى والعمل، دخلت على «ما» المصدريَّة، بعدها «أن» مضمرةٌ، تقديره يذهب لأجل السُّجود، قال النَّوويُّ: وهذا السُّجود امتحانٌ من الله تعالى لعباده (فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا) كالصَّحيفة(18) فلا يَقْدِر على السُّجود (ثُمَّ يُؤْتَى بِالجَـِسْرِ؟) بكسر الجيم في الفرع وتفتح، والفتح هو الذي في «اليونينيَّة» (فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ) بفتح الظَّاء المعجمة وسكون(19) الهاء والياء(20) (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الجَسْرُ)؟ بفتح الجيم في الفرع كأصله (قَالَ) ╕ : (مَدْحَضَةٌ) بفتح الميم وسكون الدَّال وفتح الحاء المهملتين والضَّاد المعجمة المفتوحة (مَزَِلَّةٌ) بفتح الميم وكسر الزَّاي ويجوز فتحها، وتشديد اللَّام، و«الدَّحض» ما يكون عند الزَّلَق، و«المزلَّة» موضع زَلَلِ الأقدام، وفي رواية الكُشْمِيهَنيِّ: ”الدَّحض هو الزَّلق ليُدحِضُوا“ بضمِّ التَّحتيَّة، أي: ليُزلِقُوا زَلَقًا لا يَثبُتُ قدمٌ (عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ) جمع «خُطَّاف» بضمِّ الخاء المعجمة، الحديدة المعوجَّة كالكلُّوب، يُختَطَفُ بها الشَّيء (وَكَلَالِيبُ) جمع «كلُّوب» (وَحَسَكَةٌ) بالحاء والسِّين المهملتين وفتحاتٍ: نباتٌ مغروسٌ(21) في الأرض ذو شوكٍ ينشبك(22) فيه كلُّ مَن مرَّ به، وربَّما اتُّخِذ مثلُه مِن حديدٍ، وهو مِن آلات الحرب (مُفَلْطَحَةٌ) بضمِّ الميم وفتح الفاء وسكون اللَّام وفتح الطَّاء والحاء المهملتين فهاء تأنيثٍ، فيها عَرْضٌ واتِّساعٌ، وقال الأصمعيُّ: واسعةُ الأعلى دقيقةُ الأسفل، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”مُطَحْلَفَةٌ“ بتقديم الطَّاء والحاء على اللَّام وتأخير الفاء بعد اللَّام (لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ) بضمِّ العين المهملة وفتح القاف والفاء، بينهما تحتيَّةٌ ساكنةٌ، مهموزٌ ممدودٌ: مُعْوَجَّةٌ، ولأبوي الوقت وذرٍّ: ”عَقِيْفَةٌ“ بفتح العين وكسر القاف وسكون التَّحتيَّة وفتح الفاء بعدها هاء تأنيث، بوزن كَريْمِةٌ (تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ) يمرُّ (المُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ) بفتح الطَّاء وسكون الرَّاء، أي: كلمح البصر (وَكَالبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ) جمع «أجواد» و«أجواد» جمع «جواد» وهي الفرس السَّابق الجيِّد (وَالرِّكَابِ) بكسر الرَّاء: الإبل واحدتها «الرَّاحلة» من غير لفظها (فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ) بفتح اللَّام المشدَّدة (وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة آخره شين معجمةٌ، مخموش مُمَزَّقٌ (وَمَكْدُوسٌ) بميمٍ مفتوحةٍ فكافٍ ساكنةٍ فدالٍ مهملةٍ مضمومةٍ بعدها واوٌ ساكنةٌ فسينٌ مهملةٌ، مصروعٌ (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) والحاصل أنَّهم ثلاثة أقسامٍ: قسمٌ مسلَّمٌ لا يناله شيءٌ أصلًا، وقسمٌ يُخدَشُ ثمَّ يَسْلمَ ويخلُص، وقسمٌ يسقط في جهنَّم (حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ) أي: آخر النَّاجين (يُسْحَبُ) بضمِّ أوَّله وفتح ثالثه (سَحْبًا، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ) خبر «ما» والخطاب للمؤمنين (لِي مُنَاشَدَةً) نصبٌ على التَّمييز، أي: مُطالبةً (فِي الحَقِّ) ظرفٌ له (قَدْ‼ تَبَيَّنَ لَكُمْ) جملةٌ حاليَّةٌ من «أشدَّ» وقوله (23): (مِنَ المُؤْمِنِ) صلة «أشدَّ» (يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ) متعلِّقٌ بـ «مناشدةً» (وَإِذَا) بالواو، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ / ”فإذا“ (رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ) متعلِّقٌ أيضًا بـ «مناشدة» كـ «الجبار» قال في «الكواكب»: أي: ليس طلبكُم منِّي في الدُّنيا في شأن حقٍّ يكون ظاهرًا لكم أشدَّ من طلب المؤمنين من الله في الآخرة من شأن نجاة إخوانهم من النَّار، والغرضُ شدَّة اعتناء المؤمنين بالشَّفاعة لإخوانهم، وجَمع الضَّمير والمؤمن مفردٌ باعتبار الجمع المراد من لفظ الجنس، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”وبقي إخوانهم“ قال الكِرمانيُّ: وظاهر السِّياق يقتضي أن يكون قوله: «وإذا رأَوا» بدون الواو، ولكن قوله: «في إخوانهم» مقدَّمٌ(24) عليه حُكمًا، وهذا خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: وذلك إذا رأَوا نجاة أنفُسِهِم، وما بعده استئناف كلامٍ، وهو قوله: (يَقُولُونَ) وقال العينيُّ: الذي يظهر من حَلِّ التَّركيب أنَّ «يقولون» جوابُ(25) «إذا» أي: إذا رأَوا نجاة أنفسهم يقولون: (رَبَّنَا إِخْوَانُنَا الَّذينَ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا)(26) وقال الطِّيبيُّ: هذا بيانٌ لمناشدتهم في الآخرة (فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ) بقطع الهمزة من «النَّار» (وَيُحَرِّمُ اللهُ) ╡ (صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تكريمًا لها للسُّجود (فَيَأْتُونَهُمْ) سقطت «فيأتونهم» لأبي ذرٍّ (وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ(27) وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ(28)، فَيُخْرِجُونَ) بضمِّ التَّحتيَّة وكسر الرَّاء (مَنْ عَرَفُوا) مِنَ النَّار (ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ) الله تعالى لهم(29): (اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ) _فيه أنَّ الإيمان يزيد وينقص_ (فَأَخْرِجُوهُ) منها(30) (فَيُخْرِجُونَ) منها (مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ) تعالى لهم: (اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ) بفتح الذَّال المعجمة وتشديد الرَّاء، قيل: إنَّ مئة نملةٍ وزنُ حبَّة، والذَّرَّةُ واحدةٌ منها، وقيل: الذَّرَّةُ ليس لها وزنٌ، ويراد بها ما يرى في شعاع الشَّمس (فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا) منها (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) الخدريِّ ☺ : (فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُوا) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”فإذا لم تصدقوني“ (فَاقْرَؤُوْا {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}[النساء:40]) يُضاعِف ثوابَها، وأنَّث ضمير المثقال لكونه مضافًا إلى مؤنَّثٍ، والتَّجزؤ المذكور هنا، شيءٌ زائدٌ على مجرَّد الإيمان الَّذي هو التَّصديق الَّذي لا يتجزَّأ، فالزَّائد عليه يكون بعمَلٍ صالحٍ كذِكرٍ خفيٍّ، أو عمل ٍمن أعمال القلوب، من شفقةٍ على مسكينٍ، أو خوفٍ منه تعالى، أو نيَّةٍ صالحةٍ، أو غير ذلك (فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالمَلَائِكَةُ وَالمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الجَبَّارُ) تعالى، قال الحافظ ابن حجرٍ: قرأت في «تنقيح الزَّركشيِّ»: إنَّ قوله: «فيقول الله(31)» زيادةٌ ضعيفةٌ؛ لأنَّها غير متَّصلةٍ، قال: وهذا غلطٌ منه؛ فإنَّها متَّصِلَةٌ هنا، ثمَّ إنَّ لفظ حديث أبي سعيدٍ هنا ليس كما ساقه الزَّركشيُّ، وإنَّما فيه: «فيقول الجبَّار»: (بَقِيَتْ شَفَاعَتِي‼ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ) تعالى (أَقْوَامًا) وهم الذين معهم مجرَّد الإيمان، ولم يأذن فيهم بالشَّفاعة حال كونهم (قَدِ امْتُحِشُوا) بضمِّ الفوقيَّة وكسر الحاء(32) المهملة بعدها معجمةٌ: احترقوا (فَيُلْقَوْنَ) بضمِّ التَّحتيَّة وسكون اللَّام وفتح القاف (فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الجَنَّةِ) جمع «فُوَّهَة» بضمِّ الفاء وتشديد الواو المفتوحة، سُمِعَ من العرب على غير قياسٍ، وأفواه الأزقَّةٍ والأنهار: أوائلُها، والمراد هنا مُفْتَتَح مسالك قُصور الجنَّة (يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الحَيَاةِ) وسقط لأبي ذرٍّ لفظ «ماء» (فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ) تثنية «حافة» بتخفيف الفاء، أي: جانبي النَّهر (كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ) بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحَّدة: اسمٌ جامعٌ لحبوب البقول(33) (فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) ما يحمله من نحو طين، فإذا اتفقت فيه الحبَّة واستقرت على شطِّ مجرى السَّيل نبتت في يومٍ وليلةٍ، فشُبِّه به؛ لسرعة نباته وحُسنِه (قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ إِلَى) ولأبي ذرٍّ: ”وإلى“ (جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى) / جهة (الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى) جهة (الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ) بياضًا ونَضارةً (فَيُجْعَلُ) بضمِّ التَّحتيَّة وفتح العين (فِي رِقَابِهِمُ الخَوَاتِيمُ): شيءٌ من ذهبٍ أو غيره علامةً يُعرفون بها (فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ) في الدُّنيا (وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ) فيها بل برحمته تعالى ومجرَّد الإيمان، دون أمرٍ زائدٍ من عملٍ صالحٍ (فَيُقَالُ لَهُمْ) إذا نظروا في الجنَّة إلى أشياء ينتهي إليها بصرهم: (لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ).
          وفيه: أنَّ جماعةً من مذنبي هذه الأمَّة يعذَّبون بالنَّار، ثمَّ يخرجون بالشَّفاعة والرَّحمة، خلافًا لمن نفى ذلك عن هذه الأمَّة، وتأوَّل ما ورد بضروبٍ متكلَّفةٍ، والنُّصوص الصَّريحة متضافرةٌ متظاهرةٌ بثبوت ذلك، وإنَّ تعذيب الموحِّدين بخلاف تعذيب الكفَّار؛ لاختلاف مراتبهم: من أخذ النَّار بعضهم إلى السَّاق، وأنَّها لا تأكل أثر السُّجود، وأنَّهم يموتون على ما ورد في حديث أبي سعيدٍ بلفظ: «يموتون فيها إماتةً» فيكون عذابهم فيها إحراقهم وحبسهم عن دخول الجنَّة سريعًا كالمسجونين، بخلاف الكفَّار الذين لا يموتون أصلًا ليذوقوا العذاب، ولا يحيون حياةً يستريحون بها، على أنَّ بعض أهل العلم أَوَّلَ حديث أبي سعيدٍ بأنَّه ليس المراد أنَّه يحصل لهم الموت حقيقةً، وإنَّما هو كنايةٌ عن غَيبةِ إحساسهم، وذلك للرِّفق(34)، أو كنَّى عن النَّوم بالموت، وقد سَمَّى اللهُ النَّوم: وفاةً.
          والحديث سبق في «تفسير سورة النِّساء» [خ¦4581] لكن باختصارٍ في آخره. قال البخاريُّ بالسَّند إليه:


[1] في (س): «الجمعي»، وليس بصحيحٍ.
[2] «أنه»: ليس في (د).
[3] في (د): «فلا تنازعوه».
[4] «هنا»: ليس في (د).
[5] «باب»: ليس في (د).
[6] في (ع): «جاز».
[7] غير مصروف في اليونينية.
[8] في (د) و(ع): «تضمَّنها».
[9] زيد في (د): «إما أن».
[10] «أو مسيح»: ليس في (د).
[11] في (ل): «فيسقطون».
[12] في (ع): «النَّسائيِّ».
[13] قوله: «غير صورته الَّتي رأوه فيها أوَّل مرَّةٍ وقوله» جاء في (د) و(ع) بعد قوله: «على وجه المشاكلة، وقوله».
[14] في (د): «في».
[15] في (ع): «المرسل».
[16] في (د): «عليه».
[17] «المقدسة»: ليس في (د).
[18] في (د) و(ع): «كالصفيحة».
[19] في (ع): «بسكون».
[20] «والياء»: مثبتٌ من (د).
[21] في (ع): «مفروش».
[22] في (د): «يتشبَّك»، وفي الهامش من نسخة: «يتشوك».
[23] في (ع): «أشدَّ، أو قوله».
[24] في (ع): «تقدَّم».
[25] في (د) و(ع): «يقول» خبر.
[26] «ويعملون معنا»: سقط من (ع).
[27] في (د): «قدميه».
[28] زيد في (د): «تثنية ساق».
[29] «لهم»: مثبتٌ من (د).
[30] في (د): «من النار»، وفي الهامش من نسخة كالمثبت.
[31] لم يرد اسم الجلالة في (د) و(ع).
[32] «الحاء»: مثبتٌ من (د).
[33] في (ع): «لحبات البقولة».
[34] في (ع): «المرفق».