إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: {وكان عرشه على الماء}

          ░22▒ (بَابٌ) قوله تعالى: ({وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء}[هود:7]) أي: فوقه، أي: ما كان تحته خلقٌ قبل خلق السَّموات والأرض إلَّا الماء، وفيه دليلٌ على أنَّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السَّموات والأرض، وروى الحافظ محمَّد بن عثمان ابن أبي شيبة في «كتاب صفة العرش» عن بعض السَّلف: أنَّ العرش مخلوقٌ / من ياقوتةٍ حمراءَ بُعْدُ ما بين قُطْرَيه ألف سنةٍ، واتِّساعه خمسون ألفَ سنةٍ، إنَّه أبعد ما بين العرش إلى الأرض السَّابعة مسيرة خمسين ألف سنةٍ، وقيل _ممَّا ذكره في «المدارك»_: إنَّ الله خلق ياقوتةً خضراء، فنظر إليها بالهيبة، فصارت ماءً، ثمَّ خلق ريحًا، فأقرَّ الماء على متنه، ثمَّ وضع عرشه على الماء، وفي وقوف العرش على الماء أعظم اعتبارٍ لأهل الأفكار.
          ({وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة:129]) روى ابن مردويه في «تفسيره» مرفوعًا: «إنَّ السَّموات السَّبع والأرضين السَّبع عند الكرسيِّ كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ، وإنَّ فضل العرش على الكرسيِّ كفضل الفلاة على تلك الحلقة».
          (قَالَ أَبُو العَالِيَةِ) رُفيع بن مهران الرِّياحيُّ في قوله تعالى: ({اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء}) معناه: (ارْتَفَعَ) وهذا وصله الطَّبريُّ، وقال أبو العالية أيضًا في قوله تعالى: ({فَسَوَّاهُنَّ}[البقرة:29]) أي: (خَلَقَهُنَّ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”فسوَّى“ أي: ”خَلَقَ“.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) المفسِّر في قوله تعالى: ({اسْتَوَى}) {عَلَى الْعَرْشِ}[الأعراف:54] أي: (عَلَا عَلَى العَرْشِ) وهذا وصله الفِريابيُّ عن ورقاء، عن ابن أبي نَجيح عنه، قال ابن بطَّال: وهذا صحيحٌ، وهو المذهب الحقُّ، وقولُ أهل السُّنَّة؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالعلي، وقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهي صفة من صفات الذات، قال في «المصابيح»: وما قاله مجاهد مِن أنَّه بمعنى علا، ارتضاه غير واحد من أئمَّة أهل السُّنَّة، ودفعوا اعتراض مَن قال: علا بمعنى ارتفع من غير فَرْق، وقد أبطلتموه؛ لِمَا في ظاهره مِنَ الانتقال مِنْ سُفْل إلى علْوٍ، وهو محالٌ على الله، فليكن علا كذلك؟ ووجه الدفع أنَّ الله تعالى وصف نفسه بالعلوِّ، ولم يصف نفسه بالارتفاع. وقال المعتزلة معناه: الاستيلاء بالقهر والغلبة‼ ورُدَّ: بأنَّه تعالى لم يزل قاهرًا غالبًا مستوليًا، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، ولازم تأويلهم أنَّه كان مغالَبًا فيه، فاستولى عليه بقهرِ مَن غالبه، وهذا منتفٍ عن الله، وقالت(1) المجسِّمة معناه: الاستقرار، ودُفع: بأنَّ الاستقرار من صفات الأجسام ويَلزمُ منه الحُلُولُ، وهو محالٌ في حقِّه تعالى، وعند أبي القاسم اللَّالكائيِّ في «كتاب السنة» من طريق الحسن البصريِّ عن أمِّه عن أمِّ سلمة أنَّها قالت: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر»، ومن طريق ربيعةَ بن أبي عبد الرَّحمن أنَّه سُئِلَ: كيف استوى على العرش؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ فيما وصله ابن أبي حاتم في «تفسيره»: ({الْمَجِيدُ}) من قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}[البروج:15] أي: (الكَرِيمُ) والمجد النهاية في الكرم(و{الْوَدُودُ}) أي: من(2) قوله تعالى: {الْغَفُورُ الْوَدُودُ}[البروج:14] أي: (الحَبِيبُ) قال في «اللباب»: و{الْوَدُودُ} مبالغةٌ في الودِّ. وقال ابن عبَّاسٍ: هو المتودِّد لعباده بالعفو(3)، وقال في «الفتح»: وقدَّم المصنِّف {الْمَجِيدُ} على {الْوَدُودُ} لأنَّ غرضَه تفسير لفظ {الْمَجِيدُ} الواقع في قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} فلمَّا فسَّره استطرد لتفسير(4) الاسم الذي قبله إشارةً إلى أنَّه قرئ مرفوعًا اتِّفاقًا، و{ذُو الْعَرْشِ} بالرَّفع صفةٌ له، واختلف القرَّاء في {الْمَجِيدُ} فبالرفع يكون من صفات الله، وبالجرِّ من صفات العرش.
          (يُقَالُ: حَمِيدٌ مَجِيدٌ، كَأَنَّهُ فَعِيلٌ) أي: كأنَّ «مجيدًا» على وزن «فعيل» أُخذ (مِنْ مَاجِدٍ) و(مَحْمُودٌ) أُخذ (مِنْ حَمِيدٍ) وللكشميهنيِّ: ”مِن حَمِدَ“ بغير ياء فعلًا ماضيًا، كذا في الفرع، وقال في «الفتح»: كذا لهم بغير ياء، ولغير أبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”محمودٌ من حميد“ وأصل هذا قول أبي عُبيدة في «المجاز» في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ}[هود:73] أي: محمودٌ ماجد، وقال الكِرمانيُّ: غرضه منه أنَّ مَجِيدًا فعيل بمعنى فاعل كقدير بمعنى قادر، وحميدًا فعيل بمعنى مفعول(5)، فلذلك قال: مجيد من ماجد، وحميد من محمود، قال / : وفي بعض النسخ: ”محمود من حميد“ وفي أخرى: ”محمود من حمِدَ“ مبنيًّا للفاعل والمفعول أيضًا، وإنَّما قال: كأنَّه لاحتمال أن يكون حميد بمعنى حامد، ومجيد بمعنى ممجَّد، ثم قال: وفي عبارة البخاريِّ تعقيدٌ، قال في «الفتح»: التعقيد هو في قوله: «محمود من حَمِدَ»، وقد اختلف الرّواة فيه، والأَولى فيه ما وُجِدَ في أصله، وهو كلام أبي عبيدة. انتهى. قال العينيُّ: قوله: التعقيد في قوله: «محمود من حَمِدَ»، هو كلام مَن لم يَذُقْ مِن علم التصريف شيئًا، بل لفظ محمود مشتقٌّ من حَمِدَ، والتعقيد الذي ذكره الكِرمانيُّ ونسبه إلى البخاريِّ هو قوله‼: «ومحمودٌ أُخذ من حميد» لأنَّ محمودًا لم يؤخذ من حميد(6)، وإنَّما كلاهما أخذ(7) من «حَمِدَ» الماضي. انتهى.


[1] في (د): «وقال».
[2] في (د): «في».
[3] في (د) و(ع): «بالمغفرة».
[4] في (د) و(س): «التفسير»، وفي (ع): «تفسير».
[5] في (ع): «محمود»، والمثبت موافق للفتح.
[6] في غير (د) و(ع): «لا أن محمودًا من حمد».
[7] في غير (د): «أخذا».