إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادًا}

          ░40▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ(1) تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً}[البقرة:22]) أي: اعبدوا ربَّكم فلا تجعلوا له أندادًا(2)؛ لأنَّ أصل العبادة وأساسها التَّوحيد، وألَّا يُجعَل لله ندٌّ ولا شريكٌ، والنِّدُّ: المثل، ولا يُقال إلَّا للمثل المخالف المناوئ.
          (وَقَولِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا}) شركاء وأشباهًا ({ذَلِكَ}) الذي خلق ما سبق ({رَبُّ الْعَالَمِينَ}[فصلت:9]) خالق جميع الموجودات لتكون منافع.
          (وَقَولِهِ) تعالى: ({وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ}[الفرقان:68]) أي: لا يشركون.
          ({وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ}) من الأنبياء ‰ ({لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}) وحَّد {أَشْرَكْتَ} والموحَى إليهم جماعةٌ؛ لأنَّ المعنى أوحى إليك لئن أشركت ليحبطنَّ عملك وإلى الذين من قبلك مثله، واللَّام الأولى موطِئةٌ للقَسَم المحذوف، والثَّانية لام الجواب، وهذا الجواب سادٌّ مسدَّ الجوابين، أعني: جوابَي القَسَم والشَّرط، وإنَّما صحَّ هذا الكلام مع علمه تعالى بأنَّ رسله لا يشركون به(3) لأنَّ الخطاب للنَّبيِّ صلعم والمراد به غيره، أو لأنَّه على سبيل الفرض، والمحالات يصحُّ فرضها، والغرض تشديد الوعيد على من أشرك، وأنَّ للإنسان عملًا يُثاب عليه إذا سلم من الشِّرك، ويبطل ثوابه إذا أشرك ({بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ}) ردٌّ لما أَمروه به من عبادة آلهتهم ({وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:65_66]) على ما أنعم به عليك، وسقط قوله «{وَلَتَكُونَنَّ}...» إلى آخره لأبي ذرٍّ، وقال: ”إلى قوله: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}“.
          (وَقَالَ عِكْرِمَةُ) مولى ابن عبَّاسٍ فيما وصله الطَّبريُّ: ({وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}. {وَلَئِن سَأَلْتَهُم})‼ وللأَصيليِّ / : ”لئن تسألهم“ ولأبي ذرٍّ: ”قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم}“ ({مَّنْ خَلَقَهُمْ} وَمَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ {لَيَقُولُنَّ اللهُ}[الزخرف:87]) بتشديد النُّون، ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ: ”فيقولون(4)“ بالتَّخفيف وزيادة واوٍ وفاءٍ بدل اللَّام(5) (فَذَلِكَ) القول (إِيمَانُهُمْ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ) تعالى من الأصنام ونحوها.
          (وَ) بابُ (مَا ذُكِرَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَاد) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”أعمال العباد“ (وَاَكْتِسَابِهِمْ(6) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}) أي: أحدث كلَّ شيءٍ وحده ({فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2]) فهيَّأهُ لما يصلح له بلا خللٍ فيه، وهو يدلُّ على أنَّه تعالى خلق الأعمال من وجهين أحدهما: أنَّ قوله: {كُلَّ شَيْءٍ} يتناول جميع الأشياء، ومن جملتها أفعال العباد، وثانيها: أنَّه تعالى نفى الشَّريك فكأنَّ قائلًا قال(7): هنا أقوامٌ معترفون بنفي الشُّركاء والأنداد، ومع ذلك يقولون: بخلق أفعال أنفسهم، فذكر الله هذه الآية ردًّا عليهم، ولا شبهة فيها لمن لا يقول: الله شيءٌ، ولا لمن يقول بخلق القرآن؛ لأنَّ الفاعل بجميع صفاته لا يكون مفعوله.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) المفسِّر فيما وصله الفريابيُّ في قوله تعالى: ({مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ ِّ}[الحجر:8]) أي: (بِالرِّسَالَةِ وَالعَذَابِ) وقال في «الكواكب»: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ} بالنُّون ونصب {الْمَلائِكَةَ} استشهادٌ لكون نزول الملائكة بخلق الله، وبالتَّاء المفتوحة والرَّفع لكون نزولهم بكسبهم.
          ({لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ}[الأحزاب:8]) أي: (المُبَلِّغِينَ المُؤَدِّينَ) بكسر اللَّام والدَّال المشدَّدتين فيهما (مِنَ الرُّسُلِ) أي: الأنبياء المبلِّغين المؤدِّين الرِّسالة عن تبليغهم، والتَّفسير بهم إنَّما هو بقرينة السَّابق عليه(8) وهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}[الأحزاب:7] وهو لبيان الكسب حيث أسند الصِّدق إليهم والميثاق ونحوه.
          (وَإِنَّا لَهُ حَافِظُونَ) ولأبوي الوقت وذرٍّ: ”{لَحَافِظُونَ}“[الحجر:9] (عِنْدَنَا) هو أيضًا من قول مجاهدٍ أخرجه الفريابيُّ، وقال مجاهدٌ(9) أيضًا ممَّا وصله الطَّبريُّ: ({وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ}[الزمر:33]) هو (القُرْآنُ {وَصَدَّقَ بِهِ}) هو (المُؤْمِنُ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ) وهو أيضًا للكسب إذا أُضيف التَّصديق(10) إلى المؤمن لا سيَّما وأضاف العمل أيضًا إلى نفسه حيث قال: «عملت» والكسب له جهتان فأثبتهما بالآيات، وقد اجتمعا(11) في كثيرٍ من الآيات نحو: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة:15] قاله في «الكواكب» قال ابن بطَّالٍ: غرض البخاريِّ في هذا الباب: نسبة الأفعال كلِّها لله تعالى، سواءٌ كانت من المخلوقين خيرًا أو شرًّا، فهي لله خلقٌ وللعباد كسبٌ، ولا يُنسَب شيءٌ من الخلق لغير الله تعالى، فيكون شريكًا وندًّا ومساويًا له في نسبة الفعل إليه، وقد نبَّه الله تعالى‼ عباده على ذلك بالآيات المذكورة وغيرها المصرِّحة بنفي الأنداد والآلهة المدعوَّة معه، فتضمَّنت الرَّدَّ على من يزعم أنَّه يخلق أفعاله، وفيه الرَّدُّ على الجهميَّة حيث قالوا: لا قدرة للعبد أصلًا، وعلى المعتزلة حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله فيها(12)؛ إذ المذهب الحقُّ لا جبر ولا قدر، ولكن أمرٌ بين أمرين، أي: بخلق الله وكسب العبد، وهو قول الأشعريَّة، وللعبد قدرةٌ فلا جبر، وبها يُفرَّق(13) بين النَّازل من المنارة والسَّاقط منها، ولكن لا تأثير لها، بل الفعل واقعٌ بقدرة الله، وتأثير قدرته فيه بعد تأثير قدرة العبد عليه، وهذا هو المسمَّى بالكسب.


[1] في (ع): «قوله».
[2] في (د): «ندًّا».
[3] «به»: مثبتٌ من (د).
[4] في (د) و(ص): «ليقولون».
[5] «وفاءٍ بدل اللَّام»: سقط من (د).
[6] في (د): «وأكسابهم»، وكذا في «اليونينيَّة».
[7] في (ع): «يقول».
[8] في (ب) و(س): «عليهم».
[9] قوله: «أخرجه الفريابيُّ، وقال مجاهدٌ»: سقط من غير (د) و(س).
[10] «التَّصديق»: مثبتٌ من (د).
[11] في (ب) و(س): «اجتمعتا»، وفي (د): «اجتمع».
[12] زيد في (ع): «أصلًا».
[13] في (ع): «نفرِّق».