إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}

          ░46▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}) ناداه بأشرف الصِّفات البشريَّة وقوله: {بَلِّغْ}(1) وهو قد بلَّغ(2) فأجاب في «الكشَّاف» بأنَّ المعنى: جميع ما أُنزِل إليك، أي: أيَّ شيءٍ أُنزِل غير مراقبٍ في تبليغه أحدًا، ولا خائفٍ أن ينالك مكروهٌ، وقوله: {مَا} يحتمل أن تكون بمعنى «الذي»، ولا يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً؛ لأنَّه مأمورٌ بتبليغ الجميع كما مرَّ، والنَّكرة لا تفي بذلك فإنَّ تقديرها: بلِّغ شيئًا أُنزِل‼ إليك، وفي {أُنزِلَ} ضميرٌ مرفوعٌ يعود على ما قام مقام الفاعل ({وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67]) بلفظ الجمع، وهي قراءة نافعٍ وابن عامرٍ وأبي بكرٍ(3)، أي: إن لم تفعل التَّبليغ، فحذف المفعول، ثمَّ إنَّ الجواب لا بدَّ وأن يكون مغايرًا للشَّرط لتحصل(4) الفائدة، ومتَّى اتَّحدا اختلَّ الكلام ولم تحصل منه فائدةٌ، وكلام البلغاء يُصان عن ذلك(5)، فلو قلت: إن أتى زيدٌ فقد جاء، لم يجز، وظاهر قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ} اتِّحاد الشَّرط والجزاء، فإنَّ المعنى يؤول ظاهرًا إلى(6) «وإن لم تفعل لم تفعل» ولا معنى له(7)، وأجاب النَّاس عن ذلك بأجوبةٍ، فقيل: هو أمرٌ بتبليغ الرِّسالة في المستقبل، أي: بلِّغ ما أُنزِل إليك من ربِّك في المستقبل، وإن لم تفعل _أي: وإن لم تبلِّغ الرِّسالة في المستقبل_ فكأنَّك لم تبلِّغ الرِّسالة أصلًا، أو بلِّغ ما أُنزِل إليك من ربِّك الآن ولا تنتظر به كثرة الشَّوكة والعدَّة، فإن لم تبلِّغ كنت كمن لم(8)يبلِّغ أصلًا، أو بلِّغ غير خائفٍ أحدًا، فإن لم تبلِّغ على هذا الوصف فكأنَّك لم تبلِّغ الرِّسالة أصلًا، ثمَّ قال مشجِّعًا له في التَّبليغ: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67] وقال البدر الدَّمامينيُّ في «مصابيحه»: وجه التَّغاير بين الشَّرط والجزاء: أنَّ الجزاء ممَّا أُقيم فيه السَّبب مقام المسبِّب؛ إذ عدُم التَّبليغ سببٌ لتوجيه العتب، وهذا المسبَّب(9) في الحقيقة هو الجزاء، فالتَّغاير حاصلٌ، لكنَّ نكتة العدول عنه إلى ذكر السَّبب / إجلالُ النَّبيِّ صلعم وترفيع محلِّه عن أن يُواجَه بعتبٍ أو بشيءٍ(10) ممَّا يتأثَّر منه ولو على سبيل الفرض، فتأمَّله. انتهى.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلمٍ: (مِنَ اللهِ) ╡ (الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِ اللهِ) وللأَصيليِّ: ”وعلى رسوله“ ( صلعم البَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ) فلا بدَّ في الرِّسالة من ثلاثة أمورٍ: المرسِل والرَّسول والمرسَل إليه، ولكلٍّ منهم شأنٌ، فللمرسِل الإرسال، وللرَّسول التَّبليغ، وللمرسَل إليه القبول والتَّسليم، وهذا وقع في قصَّةٍ أخرجها الحميديُّ في «النَّوادر» ومن طريقه الخطيب.
          (وَقَالَ: {لِيَعْلَمَ}) ولأبي ذرٍّ: ”وقال الله(11) تعالى: ليعلم“ أي: الله تعالى ({أَن قَدْ أَبْلَغُوا}) أي: الرُّسل ({رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ}[الجن:28]) كاملةً بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ إلى المرسَل إليهم، أي: ليعلم الله ذلك موجودًا حال وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنَّه يوجده، وقيل: ليعلم محمَّدٌ صلعم أنَّ الرُّسل قبله قد بلَّغوا الرِّسالة، وقال القرطبيُّ: فيه حذفٌ يتعلَّق به الكلام، أي: اخترنا لحفظنا الوحي(12) ليعلم أنَّ الرُّسل قبله كانوا على مثل(13) حالته من التَّبليغ بالحقِّ والصِّدق، وقيل: ليعلم إبليس أنَّ الرُّسل قد أبلغوا رسالات ربِّهم(14) سليمةً من تخليطه واستراق أصحابه. (وَقَالَ) تعالى: ({أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي}[الأعراف:62]) أي: ما أُوحِي إليَّ في الأوقات المتطاولة(15)، أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنَّواهي والبشائر والنَّذائر والتَّبليغ‼ فعلٌ، فإذا بلَّغ فقد فعل ما أُمِر به.
          (وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ) الأنصاريُّ (حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) في غزوة تبوك ممَّا سبق بطوله في «سورة التَّوبة» [خ¦4677] ({وَسَيَرَى اللّهُ}) وللأبوين(16): ”{فَسَيَرَى اللّهُ}“ ({عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}[التوبة:94]) ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ: ”والمؤمنون“ يشير إلى قوله في القصَّة، قال الله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ (17)} ... الآية، ومراد البخاريِّ تسمية ذلك كلِّه عملًا.
          (وَقَالَتْ عَائِشَةُ) ♦ : (إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلِ: {اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التوبة:105] وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ) بالخاء المعجمة وتشديد الفاء والنُّون، أي: لا يستخفنَّك أحدٌ(18) بعمله فتسارع إلى مدحه وظنِّ الخير به، لكن تثبَّت حتَّى تراه عاملًا بما يرضاه الله ورسوله والمؤمنون، وصله البخاريُّ في «خلق أفعال العباد» مُطوَّلًا، وفيه ما كان من شأن عثمان حين نجم القرَّاء الذين طعنوا فيه، وقالوا قولًا لا يُحسَن مثله، وقرؤوا قراءةً لا يُحسَن مثلها، وصلَّوا صلاةً لا يُصلَّى مثلها... الحديث بطوله، والمراد: أنَّها سمَّت ذلك كلَّه عملًا.
          (وَقَالَ مَعْمَرٌ) بفتح الميمين، بينهما عينٌ مهملةٌ ساكنةٌ، هو أبو عبيدة بن المثنَّى اللُّغويُّ في «كتاب مجاز القرآن» له: ({ذَلِكَ الْكِتَابُ}) أي: (هَذَا القُرْآنُ) قال: وقد يخاطب(19) العرب(20) الشَّاهد بمخاطبة الغائب، وقال في «المصابيح»: قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}: هذا(21) القرآن، يعني: أنَّ الإشارةَ إلى الكتاب المرادُ به القرآن، وليس ببعيدٍ، فكان مقتضى الظَّاهر أن يُشار إليه بـ «هذا» لكن أتى «بذلك» الذي يُشار به إلى البعيد؛ لأنَّ القصد فيه إلى تعظيم المشار إليه وبُعْد درجته، قال: وفي كلام الزَّركشيِّ في «التَّنقيح» هنا خبطٌ. وقال تعالى: ({هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]) أي: (بَيَانٌ وَدِلَالَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ}[الممتحنة:10] هَذَا حُكْمُ اللهِ) يعني: أنَّ «ذلك» بمعنى: «هذا» ({لاَّ رَيْبَ}) زاد أبوا ذرٍّ والوقت: ”فيه“ أي: (لَا شَكَّ).
          ({تِلْكَ آيَاتُ (22)}[البقرة:252] يَعْنِي: هَذِهِ أَعْلَامُ القُرْآنِ) فاستعمل {تِلْكَ} التي للبعيد في موضع «هذه» التي للقريب (وَمِثْلُهُ) في الاستعمال قوله تعالى: ({حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم}[يونس:22] يَعْنِي بِكُمْ) فلمَّا شاع استعمال ما هو للبعيد للقريب جاز استعمال ما هو للغائب للحاضر.
          (وَقَالَ أَنَسٌ) ☺ : (بَعَثَ النَّبِيُّ صلعم خَالَهُ) وفي نسخةٍ ”خالي“ (حَرَامًا) أي: ابن ملحان أخا أمِّ سُلَيمٍ إلى بني عامرٍ(23) (إِلَى قَوْمِه) بني عامرٍ، ولأبي ذرٍّ: ”إلى قومٍ“ (وَقَالَ) لهم حرامٌ: (أَتُؤْمِنُونِي) بسكون الهمزة وكسر الميم، أي: أتجعلوني آمنًا (أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلعم ) فأمَّنوه (فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ)‼ عن النَّبيِّ صلعم ؛ إذ أومؤوا إلى رجلٍ منهم فطعنه فقال: فزت وربِّ الكعبة.
          وهذا وصله في «الجهاد» [خ¦2801] و«المغازي»(24) [خ¦4091].


[1] قوله: «وقوله: {بَلِّغْ}»: ليس في (ص).
[2] «وهو قد بلَّغ»: ليس في (ع).
[3] في (ل): «وأبو بكر».
[4] في (ع): «لتحصيل».
[5] قوله: «ولم تحصل منه فائدةٌ، وكلام البلغاء يُصان عن ذلك» مثبتٌ من (د).
[6] «إلى»: مثبتٌ من (د).
[7] قوله: «ولا معنى له»: مثبتٌ من (د).
[8] في (ص) و(ع): «لا».
[9] في (د) و(س) و(ص): «السَّبب»، والمثبت موافقٌ لما في «مصابيح الجامع» (10/264).
[10] في (د): «شيءٍ».
[11] اسم الجلالة: مثبتٌ من (د) و(س)، وكذا هي رواية أبي ذرٍّ.
[12] هكذا في كل الأصول، والذي في تفسير القرطبي: «أي: أخبرناه بحفظنا الوحي....». ونبَّه لهذا التحريف الشيخ قطة ☼ .
[13] «مثل»: مثبتٌ من (ص) و(ع).
[14] «ربِّهم»: ليس في (ع).
[15] في (ع): «المتطاولات».
[16] في (د) و(ع): «وللأصيليِّ».
[17] زيد في النُّسخ: «والمؤمنون»، وليس بصحيحٍ.
[18] «أحدٌ»: مثبتٌ من (د).
[19] في (س): «تخاطب».
[20] في (د): «القريب».
[21] في (د): «هو».
[22] زيد في (س): «{اللهِ}» وليس في «اليونينيَّة».
[23] «إلى بني عامرٍ» ليس في (د).
[24] «والمغازي» مثبت من (د) و(س).