إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق}

          ░8▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى) وسقط «باب» لغير أبي ذرٍّ ({وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}[الأنعام:73]) أي: بكلمة الحق، وهي قول: كن، وقال ابن عادلٍ في «لبابه»: قيل: الباء بمعنى اللَّام، أي: إظهارًا للحقِّ؛ لأنَّه جعل صنعه(1) دليلًا على وحدانيته، فهو نظير قوله تعالى: {مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}[آل عمران:191]‼. انتهى. وهذا نقله السَّفاقسيُّ عن الدَّاوديِّ، وتُعقِّب: بأنَّ النُّحاة ذكروا للباء أربعة عشر معنًى، ليس منها أنَّها تأتي بمعنى اللَّام، و«الحقُّ» في الأسماء الحسنى معناه _كما قاله أبو الحكم عبد السَّلام بن برجان_: الواجب الوجود بالبقاء الدَّائم والدَّوام المتوالي، الجامع للخير، والمجد، والمحامد كلِّها، والثَّناء الحسن، والأسماء الحسنى، والصفات العُلى، قال: ومعنى قولنا: «واجب الوجود»: أنَّه اضطرَّ جميع الموجودات إلى معرفة وجوده، وألزمها إيجاده إيَّاها، قال تعالى _وقد ذكر دلائله_ واستشهاده ببيِّناته: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الحج:6] فأوجب عن واجب / وجوده أنَّه يحيي الموتى، وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّ وجود كلِّ ذي وجودٍ(2) عن وجوده، ثمَّ قال: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[الحج:62] أي: لا وجود له؛ إذ ليس له(3) في الوجود وجود ألبتَّة، فاستحال لذلك وجوده، فالموجودات من حيث إنَّها ممكنةٌ لا وجود لها في حدِّ ذاتها ولا ثبوت لها من قبل أنفسها، وإيَّاه عنى الشَّاعر بقوله:
ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطل                     وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائل(4)
ولمَّا أظهر جملة المخلوقات التي خلقها بالحقِّ وللحقِّ قال: {خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}[العنكبوت:44] فظهر الحقُّ بعضه لبعضٍ ودلَّ عليه به، فالله تعالى هو الحقُّ المبين، وجوده الحقُّ، وقوله الحقُّ، وقدرته الحقُّ، وعلمه الحقُّ، وإرادته الحقُّ، وصفاته العلى الحقُّ، وأسماؤه كلُّها الحقُّ، وأَوْجَد فعله الحقَّ بكلمته الحقِّ، فالحقُّ بوجوب(5) وجوده وعموم حقيقته قد ملأ أركان الوجود كلَّها، وشمل نواحي(6) العلم، وأطبق على أقطار التَّفكير، فلم يكن للباطل من الوجود نصيبٌ.


[1] في (ع): «صنيعه».
[2] زيد في (د): «وجوب».
[3] «له»: ليس في (د).
[4] قوله: «وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائل» ليس في (د) و(ع).
[5] في (د): «بوجود»، ولعلَّه تحريفٌ.
[6] في (د) و(ع): «بنواحي».