إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب في المشيئة و الإرادة

          ░31▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين (فِي المَشِيئَةِ وَالإِرَادَةِ) فلا فرق بين المشيئة والإرادة إلَّا عند الكرَّاميَّة حيث جعلوا المشيئة صفةً واحدةً أزليَّةً تتناول ما يشاء(1) الله تعالى بها من حيث يحدث، والإرادة حادثةً متعدِّدةً بعدد المرادات، ويدلُّ لأهل السُّنَّة قوله تعالى‼: ({وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ}[الإنسان:30]) قال إمامنا الشَّافعيُّ _فيما رواه البيهقيُّ عن الرَّبيع بن سليمان عنه_ المشيئة إرادة الله، وقد أعلم الله خلقه أنَّ المشيئة له دونهم فقال: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ} فليست للخلق مشيئةٌ إلَّا أن يشاء الله تعالى(2). انتهى. وقد دلَّت الآية على أنَّه تعالى خالقٌ أفعال العباد، وأنَّهم لا يفعلون إلَّا ما يشاء، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ}[البقرة:253] ثمَّ أكَّد ذلك بقوله تعالى: {وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فدلَّ على أنَّه(3) فعل اقتتالهم الواقع بينهم(4)؛ لكونه مريدًا له، وإذا كان هو الفاعل لاقتتالهم فهو المريد لمشيئتهم والفاعل، فثبت بذلك أنَّ كسب العباد إنَّما هو بمشيئة الله وإرادته، ولو لم يرد وقوعه ما وقع، وقسم بعضهم الإرادة إلى(5) قسمين: إرادة أمرٍ وتشريعٍ، وإرادة قضاءٍ وتقديرٍ، فالأولى تتعلَّق بالطَّاعة والمعصية سواءٌ وقعت أم لا، والثَّانية: شاملةٌ لجميع الكائنات، محيطةٌ بجميع الحادثات طاعةً ومعصيةً، وإلى الأوَّل(6) الإشارة بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185] وإلى الثَّاني(7) بقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام:125].
          (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على المجرور السَّابق، وسقط الباب وتاليه لغير أبي ذرٍّ، فقوله: ”وقول الله تعالى(8)“ رفعٌ: ({تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء}[آل عمران:26]) وقوله تعالى: ({وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ}[الكهف:23-24]) وقوله(9) تعالى: ({إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}[القصص:56]) يخلق(10) فعل الاهتداء فيمن يشاء، فدلَّت هذه الآيات على إثبات الإرادة والمشيئة لله تعالى، وأنَّ العباد لا يريدون شيئًا إلَّا وقد سبقت إرادة الله تعالى له(11)، وأنَّه الخالق لأعمالهم طاعةً أو معصيةً.
          (قَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: عَنْ أَبِيهِ: نَزَلَتْ) آية: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص:56] (فِي أَبِي طَالِبٍ) وقد أجمع المفسِّرون على أنَّها نزلت فيه كما قاله الزَّجَّاج، وهذا التَّعليق وصله في «تفسير سورة القصص» [خ¦4772].
          وقوله تعالى: ({يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]) تمسَّك به المعتزلة بأنَّه لا يريد المعصية، وأجيب بأنَّ معنى إرادة اليسر التَّخيير بين الصَّوم في السَّفر ومع المرض والإفطار بشرطه، وإرادة العسر المنفيَّة الإلزام بالصَّوم في السَّفر في جميع الحالات، فالإلزام هو الذي لا يقع؛ لأنَّه لا يريده، وقد تكرَّر ذكر الإرادة في القرآن، واتَّفق أهل السُّنَّة على أنَّه لا يقع إلَّا ما يريده الله تعالى، وأنَّه مريدٌ لجميع الكائنات وإن لم يكن آمرًا بها، وقالت المعتزلة: لا يريد الشَّرَّ؛ لأنَّه لو أراده لطلبه، وشنَّعوا على أهل السُّنَّة(12) أنَّه يلزمهم أنَّ يقولوا: إن الفحشاء‼ مرادةٌ لله تعالى / وينبغي أن يُنزَّه عنها، وأجاب أهل السُّنَّة بأنَّ الله تعالى قد يريد الشَّيء ولا يرضاه؛ ليعاقب عليه، ولثبوت أنَّه خلق الجنَّة والنَّار وخلق لكلٍّ أهلًا، وألزموا المعتزلة بأنَّهم جعلوا أنَّه يقع في ملكه ما لا يريده(13).


[1] في (ص): «شاء».
[2] في (ص) و(ع): «به».
[3] في (د): «أنَّ».
[4] في (ص): «منهم».
[5] في (ع): «على».
[6] في (د): «الأولى».
[7] في (د): «الثَّانية».
[8] «تعالى»: ليس في (د).
[9] في (ع): «وقول الله».
[10] في (ع): «يحقِّق».
[11] «له»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[12] «أهل السُّنَّة»: مثبتٌ من (د).
[13] في (ص): «يريد».