إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب ذكر الله بالأمر وذكر العباد بالدعاء والتضرع

          ░39▒ (بابُ ذِكْرِ اللهِ) تعالى لعباده يكون (بِالأَمْرِ) لهم والإنعام عليهم إذا أطاعوه، أو بعذابه إذا عصوه (وَذِكْرِ العِبَادِ) له تعالى (بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالإِبْلَاغِ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”والبلاغ“ لغيرهم من الخلق ما وصل إليهم من العلوم (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}[البقرة:152]) الذِّكر يكون بالقلب والجوارح، فذكر اللِّسان: الحمد والتَّسبيح والتَّمجيد(1) وقراءة القرآن، وذكر القلب: التَّفكُّر في الدَّلائل الدَّالَّة على ذاته وصفاته، والتَّفكُّر في الجواب عن الشُّبه العارضة في تلك الدَّلائل، والتفكُّر في الدَّلائل(2) الدَّالَّة على كيفيَّة تكاليفه من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده، فإذا عرفوا كيفيَّة التَّكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي التَّرك من الوعيد سَهُل فعله عليهم والتَّفكُّر في أسرار مخلوقاته تعالى، وأمَّا الذِّكر بالجوارح فهو عبارةٌ عن كون الجوارح مستغرقةً في الأعمال التي أُمِروا بها، وخاليةً عن الأعمال التي نُهوا عنها، فقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي} تضمَّن جميع الطَّاعات، ولهذا قال سعيد بن جبيرٍ: «اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي» فأجملَه حتَّى يُدخِل الكلَّ فيه، وقال ابن عبَّاسٍ(3) فيما ذكره السَّفاقسيُّ: «ما من عبدٍ يذكر الله تعالى إلَّا ذكره الله تعالى، لا يذكره مؤمنٌ إلَّا ذكره برحمته، ولا يذكره كافرٌ إلَّا ذكره بعذابه»، وقيل: المراد ذكره باللِّسان وذكره بالقلب عندما يهمُّ العبد بالسَّيِّئة، فيذكر مقام ربِّه، وقال قومٌ: إنَّ هذا الذِّكر أفضل، وليس كذلك، بل ذكره بلسانه وقوله: «لا إله إلَّا الله» مخلصًا من قلبه أعظم من ذكره بالقلب(4) دون اللِّسان، وذكر البدر الدَّمامينيُّ أنَّه سمع شيخه وليَّ الدِّين بن خلدون يذكر أنَّه كان بمجلس شيخه ابن عبد السَّلام شارح ابن الحاجب الفرعيِّ وهو يتكلَّم على آيةٍ وقع فيها الأمر بذكر الله، ورجَّح أن يكون المراد بالذِّكر فيها: الذِّكر اللِّسانيَّ لا القلبيَّ، فقال له الشَّريف التِّلمسانيُّ: قد عُلِم أنَّ الذِّكر ضدُّ النِّسيان، وتقرَّر في محلِّه أنَّ الضِّدَّ إذا تعلَّق بمحلٍّ وجب تعلُّق ذلك الضَّدِّ الآخر بعين‼ ذلك(5) المحلِّ، ولا نزاع في أنَّ النِّسيان محلُّه القلب، فليكن الذِّكر كذلك عملًا بهذه القاعدة، فقال له ابن عبد السَّلام على الفور: يمكن أن يُعارَض هذا بمثله فيُقال: قد عُلِم أنَّ الذِّكر ضدُّ الصَّمت، ومحلُّ الصَّمت اللِّسان، فليكن الذِّكر كذلك عملًا بهذه القاعدة. انتهى.
          وقوله تعالى: ({وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ}) أي: خبره مع قومه(6) ({إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ}) عظم وشقَّ(7) ({عَلَيْكُم مَّقَامِي}) مكاني، يعني نفسه، أو قيامي ومكثي بين أظهركم ألف سنةٍ إلَّا خمسين عامًا، وهو من باب الإسناد المجازيِّ كقولهم: ثقل عليَّ ظلُّه ({وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ}) لأنَّهم كانوا إذا / وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم؛ ليكون مكانهم بيِّنًا وكلامهم مسموعًا ({فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ}) جواب الشَّرط، وتاليه عطفٌ عليه وهو قوله: ({فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ}) أي: مع شركائكم ({ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً}) فُسِّر بالسُّترة، من غمَّه إذا ستره، والمعنى حينئذٍ: ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورًا عليكم، وليكن مكشوفًا مشهورًا تجاهرونني به ({ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ}) ذلك الأمر الذي تريدون بي ({وَلاَ تُنظِرُونِ}) ولا تمهلونِ ({فَإِن تَوَلَّيْتُمْ}) فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي ({فَمَا سَأَلْتُكُم (8)مِّنْ أَجْرٍ}) فأوجب التَّولِّي ({إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ}) وهو الثَّواب الذي يثيبني به في الآخرة، أي: ما نصحتكم إلَّا لله لا لغرضٍ من أغراض الدُّنيا ({وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس:71_72]) أي: من المستسلمين لأوامره ونواهيه، وسقط لأبي ذرٍّ من قوله «{وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ}...» إلى آخره، وقال: ”إلى قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}“.
          وقوله: ({غُمَّةً}) فسَّره بقوله: (هَمٌّ وَضِيقٌ) وقال في «اللُّباب»: يُقال: غمٌّ وغمَّةٌ نحو كَرْبٍ وكُربةٍ، قال أبو الهيثم: غُمَّ علينا الهلال فهو مغمومٌ إذا التُمِس فلم يُرَ، قال طرفة بن العبد:
لعمرك(9) ما أمري عليَّ بغُمَّةٍ                     نهاري، ولا ليلي عليَّ بسـرمدي
          وقال اللَّيث: هو في غمَّةٍ من أمره إذا لم يتبيَّن له.
          (قَالَ مُجَاهِدٌ) المفسِّر فيما وصله الفريابيُّ في «تفسيره» عن ورقاء عن ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ في قوله تعالى: ({اقْضُواْ إِلَيَّ}[يونس:71]) أي: (مَا فِي(10) أَنْفُسِكُمْ) وقال غير مجاهدٍ: (يُقَالُ: افْرُقِ) أي: (اقْضِ).
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصله الفريابيُّ أيضا بالسَّند السَّابق: ({وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ}[التوبة:6] إِنْسَانٌ) من المشركين (يَأْتِيهِ) صلعم (فَيَسْتَمِعُ(11) مَا يَقُولُ) من كلام الله (وَمَا أُنْزِلَ) بضمِّ الهمزة وكسر الزَّاي، ولأبي ذرٍّ: ”وما(12) يُـَنزَِل♣“ (عَلَيْهِ) بتحتيَّةٍ بدل الهمزة مضمومةً(13) مع فتح الزَّاي أو مفتوحةً مع كسرها (فَهْوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ) ╕ (فَيَسْمَعَ) منه(14) (كَلَامَ اللهِ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”حين يأتيه فيسمعُ‼ كلام الله“ (وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ(15) حَيْثُ جَاءَ) يعني: إن أراد مشركٌ سماع كلام الله فاعْرِض عليه القرآن وبلِّغه إليه وأمِّنه عند السَّماع، فإن أسلم فذاك، وإلَّا فردَّه إلى مأمنه من حيث أتاك.
          وقال مجاهدٌ أيضًا فيما وصله الفريابيُّ أيضًا: ({النَّبَإِ الْعَظِيمِ}[النبأ:2]) هو (القُرْآنُ) وقوله: ({صَوَابًا}[النبأ:38]) أي: قال: (حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ) فإنَّه يُؤذَن له يوم القيامة بالتَّكلُّم وللأَصيليِّ: ”وعملًا“ بدل قوله: ”وعملٌ“ واستطرد المصنِّف بذكره هنا على عادته في المناسبة، والمقصود من ذكر هذه الآية في هذا الباب: أنَّه صلعم مذكورٌ بأنَّه أُمِر بالتِّلاوة على الأمَّة والتَّبليغ إليهم، وأنَّ نوحًا كان يذكِّرهم بآيات الله وأحكامه كما أنَّ المقصود بالباب في هذا الكتاب بيان كونه تعالى ذاكرًا ومذكورًا بمعنى الأمر والدُّعاء، ولم(16) يذكر المصنِّف في هذا الباب حديثًا مرفوعًا، ولعلَّه كان بيَّض له فأدمجه النُّسَّاخ كغيره ممَّا بيَّضه(17).


[1] في (د): «والتَّحميد».
[2] قوله: «والتَّفكُّر في الدَّلائل»: سقط من (د).
[3] في تفسير الطبري والثعلبي والقرطبي هذا قول السدي.
[4] في (د): «من قلبه»، وفي (ع): «بقلبه».
[5] في (ص): «الآخر بذلك».
[6] في (د): «قوله» وهو تحريفٌ.
[7] «وشقَّ»: مثبتٌ من (د).
[8] زيد في (د): «عليه».
[9] في (د): «لعمري».
[10] «في»: ليس في (ل).
[11] في (د): «فيسمع».
[12] «وما»: مثبتٌ من (د) و(س).
[13] في (ع): «المضمومة».
[14] «منه»: مثبتٌ من (د) و(س).
[15] زيد في (ص) و(ع): «منه».
[16] في (ص): «وثمَّ»، وهو تحريفٌ.
[17] قوله: «ولم يذكر المصنِّف في هذا... النُّسَّاخ كغيره ممَّا بيَّضه» جاء في (ع) بعد قوله سابقًا: «في المناسبة».