إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه}

          ░15▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}[آل عمران:28]) مفعولٌ ثانٍ لـ «يحذِّر»(1)؛ لأنَّه في الأصل متعدٍّ لواحدٍ، فازداد بالتَّضعيف آخر، وقدَّر بعضهم حذف مضافٍ، أي: عقاب نفسه، وصرَّح بعضهم بعدم الاحتياج إليه، كذا نقله أبو البقاء، قال في «الدُّرِّ»: وليس بشيءٍ؛ إذ لا بدَّ من تقدير هذا المضاف لصحَّة المعنى، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه، نحو قولك: حذَّرتك نفس زيد، أنَّه لا بدَّ من شيءٍ يُحذَّر منه كالعقاب والسَّطوة؛ لأنَّ الذَّوات لا يُتَصوَّر الحذر منها نفسها، إنَّما يُتصَوَّر من أفعالها وما يصدر عنها، وقال أبو مسلمٍ: المعنى ويحذِّركم الله نفسه أن تعصوه فتستحقُّوا عقابه، وعبَّر هنا بالنَّفس عن الذَّات جريًا على عادة العرب، كما قال الأعشى:
يومًا بأجود نائلًا منه إذا                     نفسُ الجبانِ تحمَّدت سُؤَّالها
          وقال بعضهم: الهاء في {نَفْسَهُ} تعود على المصدر المفهوم من قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ}(2) أي: ويحذِّركم الله نفس الاتِّخاذ، والنَّفس عبارةٌ عن وجود الشَّيء وذاته، وقال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ النَّفس في القرآن بمعنى العلم بالشَّيء والشَّهادة كقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}[آل عمران:28] يعني: علمه فيكم وشهادته عليكم، وبمعنى البدن، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران:185] وبمعنى الهوى، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}[يوسف:53] يعني الهوى، وبمعنى: الرُّوح، قال تعالى: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ}[الأنعام :93] أي: أرواحكم. انتهى. والفائدة في ذكر النَّفس أنَّه لو قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ} كان لا يفيد أنَّ الذي أُرِيد التَّحذير منه هو عقابٌ يصدر من الله(3) تعالى أو من غيره، فلمَّا ذكر النَّفس زال ذلك، ومعلومٌ‼ أنَّ العقاب الصَّادر عنه يكون أعظم العقاب؛ لكونه قادرًا على ما لا نهاية له.
          (وَقَوْلِهِ) ولأبي ذرٍّ: ”وقول الله“ (جَلَّ ذِكْرُهُ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}) ذاتي ({وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}[المائدة:116]) ذاتك، فنفس الشَّيء ذاته وهويته، والمعنى تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وقال في «اللُّباب»: لا يجوز أن تكون {تَعْلَمُ}(4) عرفانيَّةً؛ لأنَّ العرفان يستدعي سبق جهلٍ، أو يُقتصر به على معرفة الذَّات دون أحوالها، فالمفعول الثَّاني محذوفٌ، أي: تعلم ما في نفسي كائنًا وموجودًا على حقيقته لا يخفى عليك منه شيءٌ، وقوله: {وَلاَ أَعْلَمُ} فهي(5) وإن كان يجوز أن تكون عرفانيَّةً إلَّا أنَّها لمَّا صارت مقابلةً لِمَا قبلها كانت مثلها. انتهى. وقال البيهقيُّ: والنَّفس في كلام العرب على أوجهٍ: منها: الحقيقة كما يقولون: في نفس الأمر، وليس للأمر نفسٌ منفوسةٌ(6)، ومنها: الذات، قال: وقد قيل: في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}: إنَّ معناه ما أُكِنُّه وأُسرُّه، ولا أعلم ما تسرُّه عنِّي، وقيل: ذكر النَّفس هنا للمقابلة والمشاكلة، وعُورِض بالآية التي في أوَّل الباب؛ إذ ليس فيها مقابلةٌ.


[1] في (د): «لـ {وَيُحَذِّرُكُمُ}».
[2] في النُّسخ: «لا تتَّخِذوا» ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[3] في (ع): «منه».
[4] في (د) و(ع): «أعلم الأولى».
[5] «فهي»: مثبتٌ من (د) و(ع).
[6] في (ج) و(ل): «مُتقوَّمة»، وبهامشهما: كذا بخطِّه, وعبارة «الفتح»: منفوسَة.