التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الأدم

          ░31▒ بابُ الأُدْمِ
          5430- ذكر فيه حديث عَائِشَة ♦ في قِصَّة بَرِيرَةَ وفيها: فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ البَيْتِ. وفيه _كما قال الطَّبَرِيُّ_ البيان: أنَّه ◙ كان يُؤثِر في طعامِهِ اللَّحْم على غيرِه إذا وجَدَ إليه سبيلًا؛ وذلك أنَّه لَمَّا رأى اللَّحْمَ في منزلِه قال: (أَلَمْ أَرَ لَحْمًا؟)، فقالوا: إنَّه تُصدِّق به على بَرِيرَةَ، فدلَّ هذا على إيثارِه ◙ للَّحم إذا وجد إليه سبيلًا؛ لأنَّه قال ذلك بعد أن قُرِّب إليه إدامٌ مِن إدام البيتِ فالحقُّ على كلِّ ذي لُبٍّ أن يُؤثِر اللَّحْم في طعامِه لإيثارِه ◙ له. ولِمَا حَدَّثَناه سعيدُ بن عَنْبَسةَ الرَّازيُّ، حَدَّثَنا أبو عُبيدة الحدَّاد، حَدَّثَنا أبو هلالٍ، عن ابنِ بُرَيدَةَ، عن أبيه: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: ((سيِّدُ الإدامِ في الدُّنيا والآخرة اللَّحْمُ)).
          فإن قِيل: فقد قال عُمَرُ بن الخطَّاب لرجلٍ رآه يُكْثِر الاختلافَ إلى القَصَّابين: اتَّقوا هذه المجازرَ على أموالكم؛ فإنَّ لها ضَرَاوةً كَضَراوة الخمر، وعَلَاه بالدِّرَّة. وروى الحَسَنُ أنَّ عُمَر ☺ دخل على ابنِه عبد الله فرأى عنده لحمًا طَرِيًّا فقال: ما هذا؟ قال: اشتهيناه، فقال: وكلَّما اشتهيتَ اللَّحْم أكلتَهُ، كفى بالمرء سَرَفًا أن يأكُلَ كلَّ ما اشتهى.
          وقال أبو أُمامةَ إنِّي لأبغضُ أهل البيت أن يكونوا لَحْمِيِّين. قِيل: وما اللَّحْميُّون؟ قال: يكون لهم قُوت شهرٍ فيأكلونَه في اللَّحم في أيَّامٍ. وقد قال يَزِيْد بن أبي حَبِيبٍ: القُطنِيَّة طعامُ الأنبياء. وقال ابن عَونٍ: ما رأيت على خِوَانِ مُحَمَّدٍ لحمًا يشتريه إلَّا أن يُهدى له، وكان يأكل السَّمْن والكامَخ ويقول: سأصبِرُ على هذا حتَّى يأذنَ الله بالفَرَج.
          قال الطَّبَرِيُّ: وهذه أخبارٌ صِحَاحٌ ليس فيها خِلافٌ بشيءٍ ممَّا تقدَّم. فأمَّا كراهةُ عُمَر فإنَّما كان منه خوفًا عليه الإجحاف بمالهِ لكثرة شرائِه له إذ كان قليلًا عندهم، وأراد أن يأخذ بحظِّهِ مِن ترْكِ شهوات الدُّنيا وقمْعِ نفسِه، يدلُّ عليه قولُه: كفى. إلى آخرِه. وأمَّا أبو أُمَامةَ فقد أخبر بالعِلَّة التي لها كَرِه أن يكون أهل البيت لَحْمِيِّين وهو تبذيرُهم وتدميرُهم. وأمَّا ابن سِيرينَ فإنَّما ترك شراءَه لأنَّه لَزِمه الدَّيْن وفلَّسَ مِن أجلِه فلم يكن عنده لها قضاءٌ، والحقُّ عليه ما فعلَ مِن التقصير في عيشِه وترك التوسُّع في مَطْعَمهِ حتَّى يُودِّي ما عليه لغُرمائِه، وكان إذا وجده مِن غير الشراء لم يُؤثِر عليه غيرَه.
          وأمَّا قول يَزِيْدَ بن أبي حَبِيبٍ فمعناه _والله أعلم _ نحو معنى فعل عُمَر في تركِه ذلك؛ إشفاقًا أن يكون بأكلِه ممَّن يدخل في جُملةِ مَن أذهبَ طَيِّباتهِ في حياته الدُّنيا. مع أنَّ التأسِّي بالشارع أَوْلَى بنا مِن التأسِّي بغيرِه مِن الأنبياء، وكان لا يُؤثِر على اللَّحْم شيئًا ما وجد إليه السبيل. ثُمَّ ساقَ حديث جابرٍ ☺ قال: ذبحتُ لرسول الله صلعم عَنَاقًا وأَصْلَحْتُها، فلمَّا وَضَعْتُها بين يديه نظرَ إليَّ وقال: ((كأنَّكَ قد علمتَ حُبَّنا اللَّحْمَ)).
          وبمثل ما قلناه كان السَّلف يعملون، روى الأعمشُ، عن أبي عبَّادٍ، عن أبي عَمْرٍو الشَّيبانيِّ قال: رأى عبد الله مع رجلٍ دَرَاهمَ فقال: ما تصنعُ بها؟ قال: اشتري بها سَمْنًا، قال: أعطِ امرأتك نِصفَها تحت فراشِها ثمَّ اشترِ كلَّ يومٍ بِدِرهمٍ لحمًا. وكان للحسِنِ كلَّ يومٍ لحمٌ بنصف دِرْهمٍ، وقال ابن عَونٍ: إذا فاتني اللَّحم فما أدري بما ائتدمَ.
          فَصْلٌ: قول القاسمِ بن مُحَمَّدٍ: كان في بَرِيرَةَ ثلاثُ سُننٍ. اعترض الدَّاوديُّ فقال: تَشْتَملُ على نحو ثلاثين. قلت: وصلت إلى نحو الأربع مئة، وأُفرِدت بالتأليف. والجواب: إنَّ هذه الثلاث مهمَّات.
          وقولُه ◙: (لَوْ شِئْتِ شَرَطْتِ لَهُمْ، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ). وفي أكثر الأحاديث: ((اشترطي لهم الوَلَاءَ)). واحتيجَ إلى الجواب إمَّا بأنَّ اللَّام بمعنى: على، لقولِه: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] أو أنَّ الشَّرْط لم يُقارِن بل سبَقَ، أو هِشَامًا انفرد به، فلعلَّهُ نقلَه على المعنى، أو أنَّه أوَّلًا أمر به كما كانوا يفعلونَه في الجاهليَّة ثمَّ منعَها عنه، أو أنَّه خاصٌّ بتلك الواقعة. وقال الأَصِيليُّ: معناه: لا يلزمُه، لأنَّ الوَلَاءَ لمن أعتَقَ، يُؤيَّدُه رواية البُخارِيِّ ((وَدَعِيهم يَشْتَرِطون ما شاءُوا)).
          فَصْلٌ: / وقولُها: (فَخُيِّرَتْ بين أَنْ تَقِرَّ تَحْتَ زَوْجِهَا أَوْ تُفَارِقَهُ) يصحُّ أن يكون أصلُه مِن وَقَرَ، فالرَّاء مُخفَّفةٌ، قال الأحمرُ في قولِه تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ليس مِن الوَقَار وإنَّما هو مِن الجُلُوس ويُقَال: وَقَرْتُ أَقِرُ، فعلى هذا المحذوف مِن يَقِرُ فاء الفعل، وهي الواو، ويصحُّ أن تكون القاف مفتوحةً مِن قولهم: قَرَرتُ بالمكان أَقِرُّ، قِيل: هو معنى الآية المذكورة، أصلُه: واقْرَرْنَ، حذفت الرَّاء الأوَّلى للتضعيف، وأُلقِيت حركتُها على القاف، فاستغنى عن ألف الوَصَلِ لتحرُّكِ القاف. ويجوز كسر القاف وتشديد الراء مِن قريت، ويُؤوَّل ذلك على قراءة ((وقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)) بكسر القاف، وأصلُه: واقرِرْن حذفت الراء الأوَّلى وأُلقِيت حركتُها على القاف. ولغة أهل الحِجَاز: قرَِرت بالمكان، بكسر الراء وبالفتح أيضًا، ذكرَه أجمع ابنُ التِّين.