التوضيح لشرح الجامع البخاري

الأكل مما يليه

          ░3▒ بابُ الأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ.
          وَقَالَ أَنَسٌ ☺: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (اذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ).
          هذا أخرجه ابن أبي عاصِمٍ في «الأطعمة» له حَدَّثَنا هُدْبَةُ: حَدَّثَنا مبارِكٌ حَدَّثَنا بكرٌ وابن ثابتٍ، عن أنسٍ به وأصلُه في الصَّحِيحين.
          5377- ثُمَّ ساقَ حديث عُمَر بن أبي سَلَمَة، وهو ابن أمِّ سَلَمَة وقد سلف [خ¦5376]، وفي لفظٍ: أُتي بِطَعَامٍ ومعه رَبِيبُهُ عُمَر بن أبي سَلَمَة، فقال: ((سَمِّ الله وَكُل بيمينكَ وَكُلْ ممَّا يَلِيكَ).
          الشرح: روى من عند الترمذي قال: أكلت مع رسول الله صلعم فخبطت يدي في نواحي الصحفة فقال بين يديَّ وجالت يد رسول الله في الطبق، وقال: يا عكراش! كل من حيث شئت؛ فإنه غير لون واحد وقال: غريبٌ. تفرَّد به العلاء بن الفضل. ثمَّ ترجم البُخارِيُّ بعده:
          ░4▒ بابُ مَن تَتَبَّعَ حوالي القَصْعةِ مع صاحبهِ إذا لم يَعْرِفْ مِنْهُ كراهيةً.
          5379- ثُمَّ ساقَ حديث أنسٍ ☺ في الخَيَّاط وأنَّه ◙ تتبَّعَ الدُّبَّاء مِن حَوَالَي القَصعة.
          وقد سلف في أوائل البُيوع [خ¦2092].
          وحمل ابن التِّين الأوَّل على ما إذا أكل مع غير خدمهِ وعِيَالِه، والثاني إذا أكل مع خَدَمه وهو أنسٌ، والخيَّاطُ كان أيضًا مولى رسول الله صلعم كما سيأتي في باب الدُّبَّاء [خ¦5433].
          وقد أجازَ مالكٌ أن يأكل الرجل في أهلهِ وتجول يدُه في القَصْعة، وهذا إذا كان الذي في الإناء شيئًا واحدًا، فإن كانت أنواعًا فلا بأس أن يأكل ممَّا يلي غيرَه. وعبارة ابن بطَّالٍ: فيه أنَّ الأكل ممَّا يليه مِن أدبِ الطَّعام إلَّا أن يكون ألوانًا مختلفةً فلا بأس أن يأكل مِن أيِّها شاء، لقولِه لعِكْرَاشٍ لَمَّا أُتُوا بطبقٍ مِن تمرٍ: ((كُلْ مِن حيث شئتَ فإنَّه غير لونٍ واحدٍ)).
          ذكره ابن المنذر في كتاب «الأطعمة»، وذكره التِّرْمِذيُّ كما سلف، وقال: لا نعرف لعِكْرَاشٍ عن رسول الله صلعم سواه.
          وذكر القُرْطُبِيُّ أنَّ الأكْلَ ممَّا يليه سُنَّةٌ متَّفقٌ عليها، وخِلافُها مكروهٌ شديدُ الاستقباح إذا كان الطَّعام واحدًا كما في الحديث. لكن نصَّ الشَّافِعيُّ في «الأمِّ» و«الرَّسالة» والبُوَيطيُّ على تحريم الأكل مِن غير ما يليه، ومِن رأس الطَّعام إذا كان عالمًا بالنَّهي.
          والدُّبَّاء _ممدودٌ_ جمع دُبَّاءةٍ، وَحُكي القَصْر.
          فَصْلٌ: أذكر فيه آدابًا للطعام في فُصُولٍ متفرِّقةٍ: قال ابن حَزْمٍ: التَّسمية على الأكل فرْضٌ.
          واعلموا أنَّ الآدميَّ مخلوقٌ على جِبلَّة الأكلِ موظَّفٌ عليه وظائِفَ مِن حين أوَّلهُ إلى حين تناولِهِ، وأَمَرَه الله بعبادتهِ وأَذِنَ له في التمتُّع بطيِّباتِه فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، وقال: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة:87].
          وروى ابن أبي عاصِمٍ مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلعم فقال: إنِّي إذا أكلتُ اللَّحم انتشرتُ إلى النِّساء فحرَّمه عليَّ، فنزلت هذه الآية.
          فإذا حصل الطَّعام في حدِّ التَّناول فعلى الآكل آدابٌ تنقسِمُ إلى حالات الطَّعام فيما يتقدَّم على الأكل: وهو أن يتناول شراءَه بنفسِه، وأن يعملَه بنفسِهِ، وأن يكون حلالًا طلقًا.
          ومِن جهةِ كَسْبه؛ احترازًا مِن البيع الفاسد وشَبهه، وفي «الأطعمة» للدَّارِميِّ أنَّه ◙ قال: ((أيُّما رجلٍ كَسَب مالًا مِن حلالٍ فأطعمَهُ نفسَه أو كَسَاها ممَّن رأيتم مِن خَلْق الله، فإنَّهُ له زكاةٌ)).
          قال: وأن لا يكون رِشْوةً، ولا عِوَضًا عن فاسدٍ، ولا بيد مُبتدَعٍ ولا ظالمٍ ولا ربويٍّ ولا تاجرٍ، ولا مَن يَغْلِب على مكسبِه الحرام. فإن قدَّمه له صالحٌ فلا يسال عنه، وأن يرى النِّعمة في حصولِه مِن الله، وأن يأكلَه بنيَّةِ التَّقوُّي على الطَّاعة.
          فإن نوى اللَّذَّة أجزأَه وجاز له أن يري للمُنعم الشكر، فإنَّهُ يقال: إنَّ الطَّعام الواصِلَ كان على يد ثلاثمَّئة وستِّين صانعًا أوَّلُهم مِيْكَائيلُ.
          فَصْلٌ: وأن يغسِلَ يديه في أوَّلِه للنَّظافة والمروءة، وإن كان الحديث فيه ضعْفٌ: ((غسلُ اليد قبل الطَّعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللَّمَم))، وقد ضعَّفه ابن الجَوزِيِّ. نعم لابن أبي عاصِمٍ: ((بركةُ الطَّعام الوضوء قبلَهُ والوضوء بعدَهُ))، وأصلُه في «جامع التِّرْمِذيِّ» فإن لمح بعضُهم فيه الوجوبَ قِيل له: ليس كما زَعَمَت، لأنَّه صحَّ عند مُسْلِمٍ أنَّه ◙ خرج مِن الخَلَاء فأُتِيَ بطعامٍ فقيل: أَلَا تتوضَّأ؟ فقال: ((أأُصِلِّي فَأَتَوَضَّأَ؟)). وينوي بغسلِها العبادة، لأنَّه إذا نوى بالأكل التَّقوُّي على الطاعة كان التأهُّب بالغسل له غَنَاءً، ويغسل يديه أيضًا بعد الأكل، وغَسَلَها مالكٌ أوَّل القوم وآخرَهم، وقال: هو الأَوْلى.
          فَصْلٌ: وأن يجعل طعامَهُ على الأرض دون خِوَانٍ. كما جاء في الحديث: لم يأكل ◙ على خِوَانٍ. فإن لم تطمئنَّ بذلك نفسُه وضَعَه على سُفرةٍ، وإِن وضعَهُ على مائدةٍ جازَ، وإن كانت بِدعةً ولا كراهةَ، ولا يُبَاشر به الأرض لئلَّا يتعلَّق به شيءٌ _والعياذُ بالله_ يتأذَّى منه، وكان ◙ لا يأكل إلَّا على السُّفَر.
          فَصْلٌ: وأن يجلسَ على الأرض ويَنْصِبَ رِجْله اليُمنى ويعتمد على اليُسرى ولا يضطجع.
          فَصْلٌ: وأن يبدأ بالمِلْح ونحوه، ذكره ابن طاهرٍ في «صِفة التَّصوُّف» مِن حديثِ جعفرِ بن مُحَمَّدٍ، عن أبيه، عن جدِّهِ أن النَّبِيَّ صلعم قال: ((يا عليُّ، ابدأ بالمِلْح واختم به فإنَّ فيه شفاءً مِن سبعين داءً)) ثمَّ قال: وسندُه ضعيفٌ.
          فَصْلٌ: ولا يُدِيم أكل اللَّحم؛ لأنَّ عُمَر وعَائِشَةَ ☻ نَهَيا عن ذلك.
          فَصْلٌ: ولا يأكل وذُو عينين ينظرُ إليه، وقد وردَ مرفوعًا: ((مَن فعل ذلك ابْتُلي بداءٍ لا دواءَ له)).
          فَصْلٌ: ولا يأكل حتَّى يجوعَ، لا كما يزعُمُ بعض الجَهَلة / أنَّهم يأكلون بالعادة، ولهذا قِيل لبعضهم: أيُّ طعامٍ أطيبُ؛ قال: الجوعُ أعلم.
          فَصْلٌ: وأن يرضى بما تيسَّر ولا يتكلَّف ولا يأكلَ وحدَه وإذا أكل مع عِياله كان أدفعَ للكِبْر، كما جاء في حديثٍ عند ابن أبي عاصِمٍ.
          وأن تكْثُر الأيدي على الصَّحْفة وأكثرهم ثمَّانيةٌ، ذكرَه ابن أبي عاصِمٍ في حديث، وإن كانوا عشرةً جاز، ذكره البَيْهَقِيُّ في حديث.
          فَصْلٌ: ولا يتعوَّد طعامًا واحدًا، فإن عَمِلَه له غيرُه أجلسَهُ ليأكل معه وإلَّا فليناولْه لُقمةً أو لُقمتَين، كما أخرجه الشيخان مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ.
          فَصْلٌ: ولا يأكل في آنية مَجُوسيٍّ إلَّا بعد غَسْلِها كما ثبت في «الصَّحيح».
          فَصْلٌ: ويجوز أن يجمعَ على مائدتِه بين لَوْنَين وإِدَامَين لا كما يزعمُهُ بعض الصُّوفيَّة، ويذكرون فيه حديثًا غير صحيحٍ، والصَّواب ما ذكرناه.
          فَصْلٌ: وأن يعدِّد العُرَاق على الخادم ليدفَعَ عن نفسِهِ سُوء الظنِّ، كذا كان يفعلُهُ سَلْمانُ.
          فَصْلٌ: وأن يُصَغِّر لُقمتَه ويُطِيل مضغَها ولا يمدَّ يدَه إلى أخرى ما لم يَبْلَعْها، وإن كان التارِيخيُّ ذكر أنَّ عُمَر بن الخطَّاب ☺ كان يأكل كلَّ يومٍ إحدى وعشرين لقمةً، كلُّ لُقمةٍ كرأس الجَدْيِ، منها سبعةٌ بملْحٍ، فهذا بالنِّسبة إلى طول عُمَر، وعَجَلتِه للنظر في مصالح المُسْلِمٍين، وفي «الموطَّأ» أنَّه كان يُطْرَح له عن عَشَائه صاعٌ مِن التمر فيأكلُهُ ويأكل معه حَشَفهُ. وفي «ربيع الأبرار» كان مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَانَ يأكل كلَّ يومٍ سبعَ مرَّاتٍ أعظمُهنَّ ثَرِيدةٌ في جفْنةٍ على وجهها عشرةُ أَمْنَانٍ مِن البَصَلِ.
          فَصْلٌ: وأن يأكل بنِصْف بطنه وإن كان رخاءً، عكس ما قال القائل:
          كُلُوا في نِصْف بُطُونكِمُ تَعِيشوا فإنَّ زَمَانكم زَمَنٌ خَمِيصُ.
          وفي الحديث: ((ثُلُثٌ للطعام، وثُلُثٌ للشَّراب، وثُلُثٌ للنَّفَس)). وذكر المُهَلَّب أنَّ عُمر همَّ سنَةَ المجاعةِ أن يجعل مع أهل كلِّ بيتٍ مثلَهم وقال: لن يَهْلِك أحدٌ عن نِصْف قُوتِه.
          فَصْلٌ: وأن يُجِيد المضغ ولايذمَّ طعامًا، ويُقدِّمه على الصَّلاة إذا كان صائمًا ونفسُهُ تتوقُ إليه كما في الحديث، وأن لا ينظر إلى غيرِه فإنَّه شرٌّ وَبَلَهٌ، ويبدأ بالأكل إذا كان ربَّ المنزل أو مَن يُقتدى به، وأن يُقدِّم لطيف الطَّعام كالفاكهة وشَبهها قبل ثقيلهِ _نصَّ عليه أَبقراطُ_ ثمَّ اللحم ثمَّ الحلاوة. ولا يجعل على الخُبز زَفَرًا ويتقزَّز مِن أكلِه غيره، فإنَّ الحاكم صحَّح: ((أكرموا الخُبزَ)).
          فَصْلٌ: وأن يأكل بيدٍ واحدةٍ إلَّا أن يكون طعام يَدَيْنِ، كان حسَّانُ بن ثابتٍ إذا دُعِي إلى الطَّعام قال: طعامُ يدٍ أو يَدَين؟ فإن قالوا: يَدَينِ جاءَ، وإلَّا لم يأتِ.
          فَصْلٌ: وأن يأكل باليمين كما سلف، وأن يأكل بثلاث أصابِعَ وإن شاء بخمسةٍ، ذكره ابن أبي شَيْبةَ في «مصنَّفه»، وأن يَنْهَس اللَّحم، وإن وقعت عنه لقمةٌ أماطَ ما عليها مِن الأذى وأكلَها ولا يدعُها للشَّيطان. ولا ينفخُ في الطَّعام، يدعُهُ حتَّى يَبْرُدَ فإنَّ الحارَّ لا بركَةَ فيه.
          فَصْلٌ: ويُقَابِل بين الأطعمة يضمُّ ثقيلًا إلى خفيفٍ، ورطْبًا إلى يابسٍ، وحارًّا إلى باردٍ، وأن يأكل مِن الخبز بيدين إن كان قَفَارًا، وإن كان بإدامٍ نقصَ منه بمقدار الطَّعام. ولا يُسْرف، وعلامتُهُ أن يرفع يدَه وهو يشتهيه، فقد ذكر أنَّ عبد الله بن المُغَفَّلِ قِيل له إنَّ ابنكَ أكل طعامًا كاد يقتلُهُ فقال: لو ماتَ ما صلَّيتُ عليه.
          وقال الحَسَنُ: إنَّ الأرض لتضجُّ إلى الله مِن المُتخَمِ كما تضجُّ مِن السَّكران. قال الرُّويانِيُّ: ويكره أن يَزِيْد على قدْرِ الشِّبَع. وهو ما ذكره الرَّافعِيُّ في أواخر الأطعمة، وفي «الحاوي» تحريمُه، وهو ما اقتضاه كلام الشيخ عزَّ الدِّين قال: ولا يأكل فوق ما يقتضيه العُرف في المقدار. قال: وكذا لو كان الطَّعام قليلًا فأكلَ لُقَمًا كِبَارًا مُسرعًا في مَضْغِها وابتلاعِها حتَّى يحرِمَ أصحابَه.
          فَصْلٌ: قد أسلفنا أنَّ السُّنَّة الأكل باليمين، وقد نهى النَّبِيُّ صلعم أن يأكل الرجل بشمالِه أو يشرب بشمالِه. وقال: ((إنَّ الشَّيْطَان يفعلُ ذلك)) وقد أسلفناه، وقد رواه مالكٌ وعُبَيد الله وابن عُيَينةَ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سالمٍ، عن ابن عُمَرَ ☻ عن رسول الله صلعم. ولم يُخرجه البُخارِيُّ لأنَّه قد رواه مَعْمَرٌ وعُقيلٌ عن الزُّهْرِيِّ، عن سالمٍ، عن ابن عُمَرَ، ورواية مالكٍ أصحُّ، كما قالَه التِّرْمِذيُّ.
          وذكره أيضًا الطَّبَرِيُّ مِن حديثِ ابن عُمَرَ عن أبيه، عن رسول الله صلعم.
          قال الطَّبَرِيُّ فيه: أنَّه لا يجوز الأكل والشرب باليد اليُسرى، إلَّا لمن كانت بيُمنى يديه عِلَّة مانعةٌ مِن استعمالِها، ومثلُهُ الأخذ والإعَطَاء بها والدفْع والوضْع والبطْش، وقِصَّة عليٍّ السالفة لا تدفعُهُ، لأنَّه إنَّما يدلُّ على استعمال اليُسرى في وقت شغل اليُمنى بالطَّعام، وإذا كانت كذلك فصاحبُها معذورٌ في إعمالِه الأخرى فيما هو محظورٌ عليه إعمالُها فيه في غير حالة العُذْر، كما لو كانت مقطوعةً لكان له استعمال اليُسرى في مَطْعَمهِ ومَشْربهِ، وما كان محظورًا عليه استعمالها فيه، وبنحو ذلك جاء الخبر عن عُمَرَ ☺ حَدَّثَنا سَوَّار بن عبد الله، أخبرنا يحيى بن سَعِيدٍ، عن عُمَارة بن مُطَرِّف، حَدَّثَنِي يَزِيْد بن أبي مريمَ، عن أبيه قال: رأى عُمَر رجلًا قد صوَّبَ يده اليُسرى ليأكل بها فقال: لا، إلَّا أن تكون يدُك مُعلَّةً. فرأى عُمَر أنَّ مَن كانت يده معتلَّةً إباحة اليُسرى، وقد روي عن نافعٍ مولى ابن عُمَر وعَطَاءٍ قالا: لا تأكل بشِمالكَ ولا تَصَّدَّقْ بها.
          وروى ابن وَهْبٍ عن عُمَرَ بن مُحَمَّد بن زيدٍ قال: كان نافعٌ يَزِيْد فيها ولا يأخذنَّ بها ولا يُعْطِينَّ. يعني: الشِّمال، وعن جرير بن حازِمٍ، عن هِشَام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن عبد الله بن أبي قَتَادَةَ، عن أبيه أنَّ رسول الله صلعم نهى أن يُعطيَ الرجل بشمالِه شيئًا أو يأخذ شيئًا.
          فَصْلٌ: وألَّا يَنْهس النَّهْسة ثمَّ يَرُدَّها في الصَّحْفة، ويأكل في الملأ كأكلهِ في الخَلْوة، ولا يأكل في سُكُرُّجَةٍ، ولا خبزًا مُرَقَّقًا للاتباع، فإن فعل فلا حرج، ولا يأكل في آنيةِ ذهبٍ ولا فِضَّةٍ للنصِّ، ولا في رفيعِ نوعهِ كالياقوت وشَبهه، فإن انتهى أكلُه يلفظ ما سقطَ عن الفُتات، ذكر أبو هلالٍ العَسْكَرِيُّ في كتاب «البقايا»: أنَّ أبا حنيفة كان يُسمِّيه الرغم، وفي «ربيع الأبرار» عن رسول الله صلعم: ((مَن لقَطَ ما حول الخِوَانِ حرَّم الله جسدَهُ على النار))، وفي لفظٍ: ((عُوفِي في ولده وولد ولده مِن الحُمقِ، وعاشَ في سَعَةٍ)).
          فَصْلٌ: ويمسَحُ أصابعَه بعد لَعْقِها بالمنديل، وقال مالكٌ عن ابن عُمَرَ ☻ أنَّه كان يمسحُها برجْلِهِ. وأن يستعمل الأشنانَ ويأخذَه بيمينِهِ كما فعله بَشيرٌ السُّلَميُّ، وكانت له صُحبةٌ / ذكره ابن طاهرٍ وإن كان ابن العربيِّ قال: لستُ أدري مِن أين قالَه أصحابنا.
          وأن يَتَمَضْمَضَ مضمضةً بالغةً، صحَّحَهُ ابن حبَّان.
          وقال الغَزَاليُّ: كيفيَّتُهُ أن يغسلَ الأصابع الثلاث مِن اليُمنى أوَّلًا ويضربَ أصابعَه على الأَشْنان اليابس ويمسَحَ به شفتَيْه، ولا يُكره الغَسل في الطَّسْتِ، وله أن يتنخَّمَ فيه إن كان وحدَه، وأن يُقدِّم المتبوع ويكون الخادم قائمًا. ويصبُّ صاحب المنزل الماء على يدي ضيفِهِ.
          فَصْلٌ: ومِن آدابه حمدُ الله في آخِرِ الأكل والشُّرب جهرًا مع الصَّلاة كما سلف، فيقول: الحمد لله حمدًا طَيِّبًا مباركًا فيه غير مكفِيٍّ ولا مكفورٍ ولا مُوَدَّعٍ ولا مُستغنًى عنه رَبَّنَا. كما سيأتي في الباب الذي عَقَده له.
          فَصْلٌ: ومن آدابِه أن يُبَسْمِلَ أوَّلًا، وتكفي التسمية مِن واحدٍ، وقال الغَزَاليُّ: يقول مع اللُّقمة الأوَّلى: بسم الله، ويَزِيْد في الثانية: الرَّحْمَن، والثالثة: الرَّحِيم.
          فَصْلٌ: وأن يُنَاهِدُوا على الطَّعام وهي المُخَارجَةُ وتُسمَّى النَِهْد بكسر النون وفتحِها، كما ذكرَه عِيَاضٌ، وفسَّره القَابسِيُّ بطعام الصُّلح بين القبائل، والأوَّل أعرفُ، وقال الحَسَنُ: أخرجوا نِهدكم فإنَّه أعظمُ للبركة وأحسنُ لأخلاقكم. وأوَّلُ مَن فَعَلَها _كما نقله التارِيخيُّ في «مُنَاهَدتهِ» عن ابن المَدِائنيِّ وابن الكَلْبِيِّ_ حُضَين بن المنذر أبو سَاسَانَ الرَّقاشيُّ، وقال قَتَادَةُ: ما أفلسَ المتلازمانِ. يعني المتناهِدَين، وقد سلف الكلِّام عليه في الشَّرِكة.
          فَصْلٌ: يُقدِّم الخُبز عند ضيفهِ قبل ذلك بيومٍ، ويُقدِّم إليهم نُزلًا يسيرًا، ليأتي بما أعدَّهُ جُملةً واحدةً يتَّفِق جميعُهم على جميعه، فإن لم يتَّفِق الإتيان بجميعِه أعلمَهم به. ولا يصِفُ لهم طعامًا ليس عنده، ولا يَدَّخِر عنهم شيئًا، ويُقدِّم ضَيفَه على عِيالهِ كما فعل أبو طَلْحَة وأمُّ سُليمٍ بأبي هُرَيْرَةَ، كما ذكره الطَّبَرانيُّ في «أوسطه»، وبعضُهم كَرِهه ولا اعتبار به، ولا ينتظر بالخُبز إذا حضر غيرُه بل يُبَادر إلى أكلِه.
          فَصْلٌ: ويَجمع في مائدتِه بين فقيرٍ وغنيٍّ، ويحدِّثُ الآكلين عندَه وأن تخدمَهم أهلُه، ولا يجعل على مائدتِه قائمًا يأكل ما يشتهي، فإن ترَكَه إيثارًا جاز.
          فَصْلٌ: وكره بعضُهم القِرانَ ولا كراهة فيه؛ لأنَّ النَّهي عنه إنَّما كان لضرورةٍ وقد زالت، ذكره ابن شَاهِينٍ في «منسوخه»: إلَّا أن يكونا مُتَناهدَين، وذكر الرَّافعيُّ والنَّوويُّ في «الرَّوضة» أنَّه لا باسَ بالقِرَان بين التَّمرتين ونحوِهما. وفَصَّلَ في غير «الرَّوضة» بين الطَّعام المشترَكِ وغيرِه.
          فَصْلٌ: وأن يجتمعوا على الطَّسْت خِلافًا لِمَا يَصْنعه الأعاجم، قال ◙ فيما ذكرَه ابن طاهرٍ: ((أَتْرِعوا الطُّسُوسَ وخَالِفُوا المجوسَ)). وأن يمسحَ عينَهُ ببللِ يدهِ، ولا ينفضَ يدَه، وفي الحديث: ((إذا توضَّأتم فأشربوا أعينكم الماء)) وأن يتخلَّلَ بعد فراغِهِ.
          وفي الحديث: ((حبَّذا المُتَخلِّلُون مِن الطَّعام؛ فإنَّه ليس شيءٌ أشدَّ على الملِكِ الذي مع العبدِ مِن أن يجدَ مِن أحدكم رِيحَ الطَّعام)) وإن أكل ما يخرجُ مِن أسنانهِ بلسانهِ فلا حرج عليه، وفيه حديثٌ في أبي داودَ.
          ولا يكره الأكل ماشيًا؛ فعلَه ابنُ عُمَرَ والشارعُ أيضًا وهو يمشي إلى الصَّلاة. والمختار أنَّ الشرب قائمًا بلا عُذْرٍ خلِاف الأُولى. قال الغَزَاليُّ: ويُكره الأكل قائمًا، وصرَّح النَّوويُّ به في «فتاويه» أنَّه لا يُكره. أعني الشُّرب قائمًا، وخالف في «شرح مُسْلمٍ» وقال: الصَّواب أنَّ النَّهي محمولٌ على الكراهة وفِعلُه له لأجل البيان، ويستحبُّ أن يتقيَّأَ.
          فإن أكل تمرًا فلا باسَ بِتَنْقِيتهِ. وفيه حديثٌ في أبي داودَ.
          فَصْلٌ: ولا يأكل مِن طعامٍ لم يُدْعَ إليه. وفي الحديث: أنَّه دخل فاسقًا وأكلَ حرامًا، رواه أبو هُرَيْرَةَ وعَائِشَة ☻ وأن يَلْحَس القَصْعة فإنَّها تَسْتَغفر له، ذكره التِّرْمِذيُّ، وفي كتاب رَزِينٍ فتقول: أعتقكَ الله كما أَعْتَقْتَني مِن الشَّيْطَان.
          فإن سقطَ في طعامه ذُبَابٌ فلا يتقذَّرْ منه ولَيَغْمِسْهُ ثمَّ لَيَنْزِعهُ؛ فإنَّ في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً، وأنَّه يُقدِّم الداء كما صُرِّح.
          فَصْلٌ: فإن أكلَ معه ذو عاهةٍ فلا يتقذَّر منه إن سَهُل ذلك عليه ولم يَخَفِ العَدْوى، وليقل كما قال الشارع في كتاب أبي داودَ: ((كُلْ ثقةً بالله وتوكُّلًا عليه)) وفعله أيضًا أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ ☻، وإن خشي ذلك فلا يأكل معه، وليفرَّ منه كفراره مِن الأَسَدِ.
          فَصْلٌ: فإن كان الآكل ضيفًا فليتوقَّ تسعة وعشرين عيبًا، رُوِّيناها في كتاب «فوائد الموائد»: التشوُّف إلى الباب لمجيء الطَّعام، وعدُّ الزَّبادِي إذا حَضَرت، والزَّحف إلى الأكل مِن قَبْل الإذْنِ، وإذا أكلَ لا يَجْرُف لُقمته مِن جهةِ الزُّبْدِيةِ إلى الجانبِ الآخر، ولا يَجعل اللُّقمةَ في فمهِ يرشِفُها ويُسمَع لها حِسٌّ، ولا يَنْفُضُ أصابعَه وهو يأكل، ولا يَهْتَدِم اللُّقمة بأسنانِه ثمَّ يضعُها في الصَّحْفة، ولا يبهت في وجوه جُلَسائهِ ليأكل ما بين أيديهم مِن اللَّحم، ولا يلتُّ اللُّقمة بأصابعِه قبل وضعِها في الطَّعام، ولا يمدُّ يدَه ميمنةً وميسرةً يأخذ الزَّبَادي واللَّحم، ولا يتخلَّل بأظفارهِ، ولا يحمِلُ معه شيئًا مِن المائدة. ولا يُرَنِّخُ اللُّقمة في المرَقِ ليسْهُلَ بلعُها، ولا يُوسِخ جارَه والخبز، ولا يفتِّش على اللَّحم بأصابعِهِ، ولا ينشِّف شواربَه مِن الوَدَكِ باللُّقمة ثمَّ يأكلُها، ولا يملأ الطَّعام لبابًا، ولا يُسِيغ الطَّعام بأمخاخ البيض حتَّى آثرُد في الزُّبْدية، ولا يَنفُخُ فيه _أي في الطَّعام الحارِّ_ ولا يَحْمِي بين يديه الزَّبَادِي عن غيرِه، ولا يُجَنِّح ليُوسِع على نفسهِ، ولا يذكرُ حين الأكل أحاديث تُغْثَى منها الأنفسُ.
          والأدب التحدُّث على الطَّعام بما لا إثمَ فيه، ولا يرفع زُبديَّةً مِن قُدَّامه ويضع مكانها غيرَها، وإذا غسَلَ يده لا يتحدَّثُ فيشغلُ الخادم عن خدمة غيرِه ولا يُكركِب في الطِّيب، ولا يغسل يده بالأَشْنانِ ثمَّ يأخذ مِن يدِه فَيَتسوَّك به، ولا يشربُ فضْلَ غسلٍ فِيْه.
          فَصْلٌ: مِن أدب الضَّيف ألَّا يخرج إلَّا برضى صاحب المنزل وإذنهِ، ومِن أدب المُضِيف أن يُشيِّعَه عند خروجِه إلى باب الدَّار فهو سُنَّةٌ. وينبغي للضَّيف ألَّا يجلس في مقابلة حُجْرة النِّساء وَسِتْرهنَّ، ولا يُكثِر النَّظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطَّعام كما سلف، وإذا حضرَ المدعوُّون وتأخَّر واحدٌ أو اثنانِ عن الوقت الموعود فحقُّ الحاضرين في التعجيل أَوْلى مِن حقِّهما في التأخير، إلَّا أن يكون المؤخَّر فقيرًا ينكسِرُ قلبُه بذلك، فلا بأس به.
          فَصْلٌ: ويُستحبُّ أن يكون على المائدة البَقَلُ، وإذا دخل ضيفٌ للمبيت فليعرِّفْهُ ربُّ الدَّار _عند الدخول_ القِبلةَ وبيتَ الماء وموضع الوُضُوء. /
          فَصْلٌ: ويُستحبُّ أن ينوي بأكلهِ وشُربه التَّقوُّي على الطَّاعة، ويُكرَه الأكل والشرب مُضطجعًا، قال الغَزَاليُّ: إلَّا ما ينتقِلُ مِن الحُبُوب، قال: ويأكلُ مِن استدارة الرغيف إلَّا إذا قلَّ الخبز فيُكرَه ولا يقطع بالسِّكِّين، ولا يقطع اللَّحم، ولا يُوضَع على الخبز إلَّا ما يُؤكَل به، ولا يمسحُ يدَه فيه.
          فَصْلٌ: ولا يجمع بين التَّمر والنَّوى في طبقٍ، ولا يترك ما استرذَلَهُ مِن الطَّعام في القَصْعة، بل يجعلُهُ مع البَقَلِ لئلَّا يَلْتبس على غيرِه فيأكلَه، ولا يَغْمِس اللُّقمة الدَّسِمة في الخلِّ، ولا الخلَّ في الدَّسِمَةِ، وإذا قلَّل رفيقُه الأكل نشَّطَه، ولا يَزِيْد في قولِه: كُلْ، على ثلاث مرَّاتٍ.
          قال الغَزَاليُّ: وأمَّا الحَلِف عليه بالأكل فممنوعٌ. ولا يقوم حتَّى يرفع المائدة ولا يبتدئُ بالطَّعام ومعه مَن يستحقُّ التقديم إلَّا أن يكون هو المتبوع، ولا يشرب في أثناء الطَّعام إلَّا لضرورةٍ، وورد النَّهي عن الشُّرب مِن ثُلْمة القدَح، ويستحبُّ إدارة المشروب عن يمين المبدأ بالشرب.
          فَصْلٌ: وأن يدعو لصاحب الطَّعام إن كان ضيفًا فيقول: أكلَ طعامَكمُ الأبرارُ، وأفطرَ عِنْدكم الصَّائمون، وَصَلَّت عليكم الملائكةُ. وإن كان صائمًا دعا أيضًا.
          وقال الغَزَاليُّ: وإن أكل طعامًا قال: الحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات وتنزِلُ البركات، اللَّهُمَّ أطعمنا طَيِّبًا واستعملنا صالحًا، وإن كان فيه شُبهةٌ قال: الحمد لله على كلِّ حالٍ، اللَّهُمَّ لا تجعلهُ قُوَّةً لنا على معصيتِكَ.
          قال: ويقرأ بعد الطَّعام: {لِإِيلَافِ قُرَيْش} [قُرَيْش:1]، و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]وإن كان المأكول لبنًا قال: اللَّهُمَّ بارك لنا فيما رَزَقتنا وَزِدنا منه، وإن كان غيرَه قال: اللَّهُمَّ بارِكْ لنا فيما رَزَقْتَنا وارزقنا خيرًا منه.
          فَصْلٌ: ويُكرَه أن يأكل مُتَّكِئًا، وسيأتي، وأن يأكل مِن وَسَط القَصْعة وأعلى الثَّرِيد ونحوه. وخصَّهُ بعضُهم بما إذا أكل مع غيرِه. ولا بأس بذلك في الفواكه، وقد أسلفنا عن نص الشَّافِعيِّ تحريم الأكل مِن رأس الطَّعام إذا كان عالمًا بالنَّهي. ويُكرَه أن يَعِيب الطَّعام.
          فَصْلٌ: ويُكره أن يَتَنفَّس في الإناء وأن يَنفُخَ فيه.
          فَصْلٌ: ويُكرَه أن يَتمخَّط ويبصُقُ في حالِ أكلِهم إلَّا لضرورةٍ، وأن يقرِّب فمَهُ مِن القَصْعة بحيث يرجِعُ مِن فمِه إليها شيءٌ، ويُسَتحبُّ لَعْق أصابعهِ، وأن يأكل اللُّقمة السَّاقطة ما لم تَنْجُس ويتعذَّر تطهيرُها.
          فَصْلٌ: والأَوْلى ألَّا يأكلَ وحدَهُ، ولا يرفع عن مؤاكلة الغلام ونحوه، وألَّا يتميَّزَ عن جلسائِه بنوعٍ إلَّا لحاجة كدواءٍ ونحوِه، وأن يمدَّ الأكل مع رُفْقَتهِ ما دامَ يظنُّ لهم حاجةً إلى الأكل، وأن يُؤثِرَهم بفاخرِ الطَّعام.
          فَصْلٌ: ويستحبُّ الترحيبُ بالضَّيف وحمدُ الله على حصولِه ضيفًا عنده وسرورُه به، وثناؤُه عليه يجعلُه أهلًا لِيُضيِّفَه، ورأيت في «الخصال» لأبي بَكْرٍ الخَفَّاف مِن قُدَماء أصحابنا أنَّ مِن سُنَّة الأكل قِلَّةُ الأكل في وجه صاحبِكَ، والجُلُوسُ على إحدى راحتيكَ، والرِّضَا والشُّكْر.
          وهذه فصولٌ مُهمَّةٌ قلَّ أن تجتمِعَ في مُؤلَّفٍ فلا تَسأم منها.