التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التلبينة

          ░24▒ بابُ التَّلْبِينَةِ
          5417- ذكر فيه حديث عُرْوةَ، عَنْ عَائِشَة ☺ أنَّها كَانَتْ إِذَا مَاتَ المَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّساء ثمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ المَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الحُزْنِ).
          هذا الحديث ذكرَه في الطِّبِّ أيضًا [خ¦5896] بلفظ: إنَّها كانت / تأمرُ بالتَّلْبِينِ والمريض على الهالك وكانت تقول: إنِّي سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((إنَّ التَّلْبِينَ يُجِمُّ فُؤادَ المريضِ ويُذْهِب بعض الحُزْنِ)). في لفظٍ: أنَّها كانت تقول: إنِّي سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((إنَّ التَّلْبِينَ يُجِمُّ فُؤادَ المريضِ ويُذْهِب بعضَ الحُزْنِ)). وفي لفظ: أنَّها كانت تأمُرُ بالتَّلْبِينة وتقول: هو البغيضُ النَّافِع. وقد أخرجه مُسْلمٌ أيضًا.
          و(التَّلْبِينَةُ): حَسَاءٌ مِن دقيقٍ ونُخالةٍ، ويُقَال التَّلْبِين أيضًا؛ لأنَّه يُشبه اللَّبن في بياضِه، فإن كانت ثخينةً فهي الحَرِيرةُ، وقد يُجعَل اللَّبن والعَسَل.
          ومعنى: (مَجَمَّةٌ): مريحةٌ وتُسَرِّي عنه همَّهُ، وهي بفتح الميم وكسرِها مع فتح الجيم، فإن ضممتَ الميم كسرتَ الجيم لا غير. وقولُه: ((تُجِم)): أي تُرِيحه وقِيل: تجمعُهُ وتُكمِّلُ صَلَاحَهُ ونَشَاطَهُ، وقِيل: تفتحُهُ. وقِيل: تُمسِكُهُ، وتُذِهب ألمَ الجوعِ.
          ومِن الأوَّل، الحديث: ((الحَسَاءُ يُسَرِّي عن فؤاد السَّقيم)). وفي حديث طَلْحَةَ: رمى النَّبِيُّ صلعم بِسَفَرْجَلةٍ وقال: ((دُونكَها؛ فإنَّها تُجِمُّ فؤادَ المريض)) قال ابن عَائِشَة: أي تُرِيحه. وقال ابن فارسٍ: الجَمَامُ الرَّاحة. وضبطُهُ مُجِمَّةٌ بفتح الميم على أنَّه اسم فاعلٍ مِن أَجَمَّ. وقال الشيخ أبو الحَسَن: الذي أعرف فتح الميم، فهي على هذا مَفْعَلة مِن جَمَّ يُجِمُّ. وقال القُرْطُبِيُّ: تُروى بفتح الميم والجيم وبضمِّ الميم وكسر الجيم، فعلى الأوَّل يكون مصدرًا، وعلى الثاني يكون اسم فاعلٍ.
          فَصْلٌ: في التِّرْمِذيِّ: كان إذا أخذ أهلَهُ ◙ الوَعْك أَمَرَهُم بالحَسَاءِ فَصُنع ثمَّ أمرهم فَحَسوا منه، وكان يقول: ((إنَّه لَيرتُو فؤادَ الحزين ويَسْرُو عن فؤاد السَّقيم كما تَسْرُو إحداكُنَّ الوَسَخَ بالماءِ عن وجهها)). ولأبي نُعَيمٍ: وكان إذا اشتكى أحدٌ مِن أهلِهِ لم تزل البُرْمة على النَّار حتَّى يأتيَ على أحدِ طَرَفيه. ومِن حديثِ إسحاقَ بن أبي طَلْحَة مرفوعًا: ((في التَّلْبِين شفاءٌ مِن كلِّ داءٍ)).
          وعن أمِّ سَلَمَة ♦: كان ◙ إذا اشتكى أحدٌ مِن أهلِه وَضَعنا القِدْر على الأَثَاِفي ثمَّ جعلنا له لُبَّ الحِنْطة بالسَّمْن يُعالجُهم بذلك حتَّى يكون أحد الأمرَين. وعن عَائِشَة ♦ قالت: شكوتُ إلى رسول الله صلعم خُشونةً في صدري ووجعًا في رأسي فقال: ((عليك بالتَّلْبِين _يعني: الحَسَاءَ_ فإنَّ له وِجَاءً)). قال أبو نُعَيمٍ: التَّلْبِينةُ: دَقِيقٌ بحتٌ. وقال قوم: فيه شَحْمٌ.
          وقال الأصْمَعِيُّ: حَسَاءٌ مِن دقيقٍ أو نُخَالةٍ، يُجعل فيه عَسَلٌ _قالَه ابن قُتَيبةَ_ ولا أراها سُمِّيت تَلْبِينةً إلَّا لشبهِها باللَّبن لبياضِها ورِقَّتِها. وهذا سلف. وعند الهَرَوِيِّ: وسَمَّتها عَائِشَةُ أيضًا المَشْنِيئَة، وهي البَغِيضة، ويُقَال لها بالفارسيَّةِ: السوساب. وقال عبد اللَّطِيف البَغْدادِيُّ: هو الحَسَاءُ الرَّقيقُ الذي هو في قَوَام اللَّبن، وهو النَّافِعُ للمرضى على الحقيقة، وهو الرَّقيق النضيج لا الغليظُ النَّيِّءُ. وقال الدَّاوديُّ: يُوجد العَجِين غير خَمِيرٍ يخرج ماؤُه ويُجعل حَسْوًا لأنَّها لُبابٌ لا يُخَالطُه شيءٌ، فلذلك كَثُر نفعُها على قِلَّتِها.
          فَصْلٌ: فيه أنَّ الجوعَ يُذهب الحزن، فإنَّ ذهابَه يَذهبُ ببعضِه، وقد سلف أنَّ معنى مُجَمَّة: مُريحة، وتُقَوِّيه أيضًا وتُنشِّطُهُ، وذلك لأنَّه غذاءٌ فيه لُطفٌ سهْلٌ تناولُهُ على المريض، فإذا استعملَهُ اندفع عنه الحرارة الجَوْعة وحَصَلَت له القُوَّة الغذائيَّة مِن غير مشقَّةٍ.
          فَصْلٌ: وقولُها: ((البغيض)): فيه إشارةٌ إلى أنَّ المريض يُبِغَضُهُ كما يُبِغضُ الأدوية، وذكره ابن قُرقُولَ في باب الباء الموحَّدة مع الغين وقال: كذا لهم. وعند المَرْوَزِي: النَّغِيض بالنون. ولا معنى له.
          قال عبد اللَّطيف: والفؤاد هنا رأسُ المَعِدة وفؤاد الحزين يضعُفُ باستيلاء اليُبْس على أعضائهِ وعلى مَعِدَته خاصَّةً لتقليل الغذاء، وهذا الغذاء يرطِّبُها ويُقوِّيها، ويفعلُ مِثل ذلك بفؤاد المريض، وما أنفعَ هذا الحَسَاء لمَن يغلِبُ على غذائِهِ في صِحَّتها الشَّعير، وأمَّا مَن يغلِبُ على غذائهِ الحِنْطَة فالأَوْلَى به في مرضِه حَسَاء الشَّعير.