التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الأكل متكئًا

          ░13▒ بابُ الأَكْلِ مُتَّكِئًا
          5398- حَدَّثَنا أبو نُعَيمٍ، حَدَّثَنا مِسْعَرٌ، عن عليِّ بن الأَقْمَرِ، قال سمعتُ أبا جُحَيفَة ☺ قال: قال النَّبِيُّ صلعم: (لَا آكُلُ مُتَّكِئًا).
          5399- حَدَّثَنا عُثْمَانُ بن أبي شَيْبةَ، حَدَّثَنا جَرِيرٌ، عن منصُورٍ، عن عليِّ بن الأَقْمَرِ، عن أبي جُحَيفَة واسمُه وَهْب بن عبد الله قال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلعم، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: (لَا آكُلُ وَأَنَا مُتَّكِئٌ).
          هذا الحديث مِن أفرادهِ، وأخرجه الأربعة، وقال التِّرْمِذيُّ: حَسنٌ صحيحٌ لا نعرفُه إلَّا مِن حديثِ عليِّ بن الأَقْمَرِ.
          وروى مُحَمَّد بن عيسى الطَّبَّاع، عن أبي عَوَانةَ، عن رُقْبَة بن مَصْقَلَةَ، عن عليِّ بن الأَقْمَرِ، عن عونِ بن أبي جُحَيفَةَ، عن أبيه قال: قال النَّبِيُّ صلعم فَذَكَرَه. فأدخل بين عليٍّ وأبي جُحَيفةَ عَونًا، فَيُحمَل على أنَّه سَمِعه مِن عونٍ مرَّةً ومرَّةً مِن أبي جُحَيفَة؛ لتصريحِه في رواية البُخارِيِّ بالسَّماع، فرواه مرَّةً بعُلوٍ ومرَّةً بنزولٍ، وعونٌ ثقةٌ.
          وفي الباب أيضًا عن عبد الله بن عَمْرٍو أخرجه أبو داودَ مِن حديثِ ثابتٍ البُنَانيِّ عن شُعَيب بن عبد الله بن عَمْرٍو، وعن أبيه قال: ما رُئي رسول الله صلعم يأكل مُتَّكئًا قطُّ. كذا قال شُعَيب بن عبد الله _نسبةً إلى جدِّهِ_ ولولا هذا لكان الحديث مُرسلًا لأنَّ أباه لا صُحْبة له، ولَمَّا رواه ابن أبي عاصِمٍ قال أبوه عبد الله بن عَمْرٍو: فلا أدري: هل هو مِن قولِه أو مِن قول الراوي عن شُعَيبٍ؟
          ولَمَّا ذكره ابن شَاهينٍ في كتابه قال: صحيحٌ، وهو ناسخٌ للأكل مُتَّكِئًا.
          وفي الباب أيضًا عن أبي الدَّرداء أخرجه ابن شَاهينٍ في كتابه مرفوعًا: ((لا آكل مُتَّكِئًا)). وأخرجه عن ابن مَسْعُودٍ أيضًا ثمَّ قال: هذا الحديث إن كان محفوظًا وإلَّا فهو منكرٌ. قال ابن شَاهينٍ: وقد كان أكل مُتَّكِئًا ثمَّ نهى عنه.
          وذكر عن عَطَاء بن يَسَارٍ أنَّ جِبْريلَ رأى النَّبِيَّ صلعم يأكل مُتَّكِئًا فَنَهَاهُ. وعن أنسٍ ☺ لَمَّا نهاه جبريلُ ما رأيته مُتَّكئًا بعدُ.
          قال ابن شَاهينٍ: والتَّشديد في هذا على وجه الاختيار منه لا على وجه التحريم، وآدابه أَوْلَى أن تُتَّبع، وما تَرَكَهُ فلا خيرَ فيه. وقد رَخَّصَ في الأكل مُتَّكئًا.
          وفي النَّسائيِّ مِن حديثِ بقيَّة بن الوليد، عن الزُّبيديِّ، عن الزُّهْرِيِّ، عن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبَّاسٍ، قال: كان ابن عبَّاسٍ يحدِّثُ أنَّ اللهَ تعالى أرسلَ إلى نبيِّهِ مَلَكًا مِن الملائكة مع جِبريلَ. قال: إنَّ الله يُخيِّرُكَ بين أن تكون عبدًا نبيًّا، وبين أن تكون عبدًا مَلِكًا، فقال: ((لا، بل أكون عبدًا نبيًّا)) فما أكلَ بعد تلك الكلِّمة طعامًا مُتَّكِئًا.
          كذا قال: مُحَمَّدُ بن عبد الله _نسبةً إلى جدِّه_ وإنَّما هو مُحَمَّد بن عليِّ بن عبد الله بن عبَّاسٍ. وإن كان البُخارِيُّ ذكرَه فيمَن اسمُه مُحَمَّد بن عبد الله لأنَّ جماعةً ذكروه كالأوَّل. ولابن أبي شَيْبةَ مِن حديثِ مُجَاهِد بن جبرٍ قال: ما أكلَ رسول الله صلعم مُتَّكئًا إلَّا مرَّةً قال: ((اللَّهُمَّ إنِّي عبدُكَ ورسولُكَ)).
          وهذا فيه إشارةٌ إلى ترسيخِ حديث ابن عبَّاسٍ السالف، فإن قلتَ: فقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه كان يأكل مُتَّكئًا. قلت: إسنادُهُ ضعيفٌ، أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ مِن حديثِ يَزِيْدَ بن أبي زِيَادٍ، أخبرني مَن رأى ابن عبَّاسٍ يأكل مُتَّكِئًا.
          وروى ابن أبي شَيْبةَ، عن هُشَيمٍ، عن حُصَين بن عبد الرَّحْمَن أنَّ خالدَ بن الوليدِ دَعَا بِغَدائهِ فتغدَّى وهو مُتَّكئٌ.
          وعن عَطَاءٍ قال: إنَّا لنأكلُ ونحن مُتَّكِئون. وقال أبو هِلَالٍ: رأيت ابن سِيرينَ يأكلُ مُتَّكِئًا. وقد سألت عُبَيْدَة عن الأكلِ مُتَّكِئًا. فأكل مُتَّكِئًا، وقال النَّخَعِيُّ: كانوا يكرهون أن يأكلوا تُكَاةً مخافةَ أن تعظُمَ بطونُهم.
          وفي «عِلل ابن أبي حاتمٍ» مِن حديثِ عبد الله بن السَّائِبِ بن خَبَّابٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ: رأيتُ رسول الله صلعم يأكلُ قَدِيدًا مُتَّكِئًا. ثمَّ قال عن أبيه: هذا حديثٌ باطلٌ.
          إذا تقرَّر ذلك: فإنَّما فعلَ الشارع ذلك تواضعًا لله وتذلُّلًا له، وقد بيَّن هذا الحديث السالف، وبيَّنَهُ أيُّوبُ في حديثه عن الزُّهْرِيِّ أنَّه ◙ أتاه مَلَكٌ لم يأتهِ قبلَ تلك المرَّةِ ولا بعدَها فقال: إنَّ ربَّكَ يُخَيِّركَ بين أن تكون عبدًا نبيًّا أو مِلَكًا نبيًّا، فنظر إلى جِبريلَ كالمستشيرِ فَأومأَ إليه أن تَوَاضَعْ، فقال: ((بل عبدًا نبيًّا)) فما أكَلَ مُتَّكِئًا.
          وقال مُجَاهِدٌ: لم يأكل النَّبِيُّ صلعم مُتَّكِئًا قطُّ إلَّا مرَّةً فَفَزِع فَجَلسَ فقال: ((اللَّهُمَّ إنِّي عبدُكَ ورسولُكَ)).
          ومَن أكل مُتَّكِئًا فلم يأتِ حرامًا، وإنَّما يُكرَه ذلك لأنَّه خِلاف التواضع الذي اختاره الله لأنبيائهِ وصَفْوته مِن خَلْقه، وقد أجاز ابن سِيرينَ والزهريُّ الأكلَ مُتَّكِئًا.
          وقال ابن التِّين: قيل: كره؛ لأنَّه فِعْلُ المتكبِّرين. وقِيل: لأنَّه فِعْلُ مُكَثِّرِ أَكْلِهِ؛ يَنصِب الموائد ويُكثر الألوان، كأنَّه ◙ قال: أنا لا أفعل ذلك، لكنِّي آكلُ العُلْقَة وأجتزئُ باليسير، فأقعد له مستوفزًا وأقوم عنه مستعجلًا. وصرَّح ابن حزْمٍ بكراهة الأكل مُتَّكِئًا فقال: نكرهُهُ مُتَّكِئًا، ولا نكرهُهُ مُنْبطحًا على البطن، وليس شيءٌ مِن ذلك حرامًا؛ لأنَّه لم يأتِ نهيٌ عن شيءٍ مِن ذلك، وما لم يتَّصِل بنا تحريمُه فهو حلالٌ، وقد روى أبو داودَ حديثًا قال فيه: إنَّه مُنكَرٌ أنَّه ◙ نهى أن يأكل الرجل مُنبطحًا على بطنهِ.
          وعند ابن عَدِيٍّ مِن طريقٍ مُرسلةٍ: زَجَرَ النَّبِيُّ صلعم أن يَعْتَمِد الرَّجُل على يده اليُسرى عند الأكلِ، قال مالكٌ: هو نوعٌ مِن الاتِّكاء. ولأبي داودَ أنَّه ◙ جَثَى على الطَّعام فقال له آخرُ: ما هذه الجِلْسة؟ فقال: ((إنَّ اللهَ جَعَلني عبدًا / كريمًا ولم يَجْعَلني جبَّارًا عَنِيدًا)).
          فَصْلٌ: المراد بالمُتَّكِئ في الحديث المعتمد على الوِطَاء الذي تحتَه، وكلُّ مَن استوى قاعدًا على وِطَاءٍ فهو مُتَّكِئٌ وكأنَّه أَرْخَى مَقْعَدتَهُ وشدَّها بالقُعُود على الوِطَاء الذي تحتَه، معناه: إذا أكلتُ لم أقعُد مُتَّكِئًا. فِعلُ مَن يريد الاستكثارَ منه، ولكنِّي آكلُ بُلْغةً فيكون قُعُودي مستوفزًا.
          وفي الحديث: كان يأكلُ وهو مُقْعٍ، أي كأَّنُه يجلسُ على وَرِكهِ غير مُتَمكِّنٍ. وهو الاحتفازُ والاستيفازُ، وذكر بعضُهم أنَّ الاتِّكَاءُ هو أن يَتَّكِئَ على أحدِ جانبيهِ وهو فِعْلُ المُتَجبِّرين، وإنَّه يمنعُ نزولَ الطَّعام كما ينبغي.