التوضيح لشرح الجامع البخاري

قول الله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}

          ░1▒ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]. وَقَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ و{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}. [المؤمنون:51]
          ذكر ابن بطَّالٍ هذا الباب بعدَ الطِّبِّ وقبلَ التَّعْبير، ولا أدري لِمَ ذكرَهُ هناك، وذكر عَقِب النَّفقات الشهادات وهي مقدَّمةٌ كما سلف، وكذا ساق الآية الثانية بلفظ (كُلُوا مِن طيِّباتِ مَا كَسَبتم) والتلاوة: {أَنْفِقُوا} بدل (كُلُوا).
          وسُئِل الفُضَيل بن عِيَاضٍ عمَّن يترك الطَّيِّبات مِن الجواري واللَّحم والخَبِيص للزُّهد؟ فقال: وما أكلُ الخَبِيص بأسٌ، ليتكَ تتَّقِي الله وتأكلُ، إنَّ الله لا يكرهُ أن تأكل الحلال إذا اتَّقيت الحرام. والمراد بالطَّيِّبات الحلال، وقِيل: جيِّدُهُ وطَيِّبُهُ، يُؤيَّده حديث البراء بن عازِبٍ ☻: كانوا يتصدَّقون بالرديء مِن ثمرهم وطعامهم فنزلت الآية الثالثة لهذه.
          ولم يختلف أهل التأويل في قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة:87] أنَّها نزلت فيمَن حرَّم على نفسِه لذيذ الطَّعام واللَّذائذ المباحة، قال عِكْرِمَةُ: إنَّها نزلت في عُثْمَان بنِ مَظْعُونٍ وأصحابِه حين همُّوا بترك النِّساء واللَّحم والخَصْي، وأرادوا التخلِّي مِن الدُّنيا والترهُّب، منهم عليٌّ وعُثْمَان بن مَظْعُونٍ، وقد سلف شيءٌ مِن هذا في باب: ما يُكره مِن التَّبَتُّل والخِصَاءِ.
          5373- ثُمَّ ذكرَ البُخارِيُّ حديث أبي وائلٍ، عن أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ ☺، أنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: (أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ). قَالَ سُفْيَان: وَالْعَانِي: الأَسِيرُ.
          هذا الحديث سلف قريبًا في الوليمة [خ¦5174] بلفظ: ((فُكُّوا العاني وأَجِيبوا الدَّاعي وعُودُوا المريضَ)).
          وأبو وائلٍ اسمُه شَقِيقُ بن سَلَمَة، وأبو مُوسَى اسمُه عبد الله بن قيسِ بن سُليمٍ.
          وكلُّ مَن ذَلَّ واستكان وخضع فقد عَنَا يعنُو وهو عانٍ، والمرأة عَانِيةٌ، جمعها عَوَانٍ، ومنه الحديث: ((اتَّقوا الله في النِّساء فإنَّهُنَّ عَوَانٌ عندكم)) كالأسرى.
          وفيه حديث المِقْدَامِ: ((الخالُ وارثُ مَن لا وارثَ له يَفُكُّ عَانَهُ)) أي عَانِيَهُ، فحذف الياء، وفي روايةِ ((يَفُكُّ عُنِيَّهُ)). عَنَى يَعْنُو عُنُوًّا وعُنيًّا.
          ومعنى الأسر في حديث الخال: ما يلزمُهُ ويتعلَّق به بسبب الجنايات التي سبيلُها أن تتحمَّلَها العاقلة، هذا عند مَن يورِّث الخال ومَن لا يورِّثه يقول: معناه طُعْمةٌ أطعمَها الخال لا أن يكون وارثًا، كما قالَه ابن الأثير.
          وفي هذا الحديث الأمر بالمواساة وإطعام الجائع وذلك مِن فُروض الكفاية. قال الدَّاوديُّ: إلَّا أن يحتاج الرجل ولا يجد ما يقيمُه يحقُّ على مَن عَلِم ذلك منه أن يعطيَهُ ما يُقيم به شأنَه، وله أن يأخذ ذلك منه كَرْهًا وأن يختفي به إن لم يقدِر عليه إلَّا بذلك، ومنه إعَطَاء السائل إن صادف شيئًا موضوعًا كان حقًّا على المسؤول أن يُنيلَه منه وإن لم يجد شيئًا حاضرًا، وعَلِم المسؤول أنَّه ليس له شيءٌ يُقيمُه وجبَ عليه أن يُعيِّنَه، وإن لم يعلم حالَه فليقل له قولًا سديدًا. وقد سلف شيء مِن هذا المعنى في باب: فِكَاكُ الأسير مِن الجهاد.
          5374- 5375- ثُمَّ ساقَ البُخارِيُّ حديث مُحَمَّد بن فُضَيلٍ، عن أبيه، عن أبي حازِمٍ واسمُه سَلْمَانُ، مولى عَزَّةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلعم مِنْ طَعَامٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حتَّى قُبِضَ.
          وعن ابن حازِمٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَلَقِيتُ عُمَرَ بن الخطَّاب ☺، فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ.. الحديث. وفيه: حتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالْقِدْحِ.. إلى آخرِه.
          والسَّند الثاني معطوفٌ على الأوَّل مِن غير شكٍّ، وعند مُسْلِمٍ: ما شَبِعَ رسول الله صلعم وأهلُه ثلاثًا تِبَاعًا مِن خُبز البُرِّ حتَّى فارقَ الدُّنيا. وروى المِقْدَامُ بن مَعْدِي كَرْبٍ مرفوعًا فيما أخرجه الزَّمَخْشَريُّ في «ربيعِهِ»: ((ما ملأَ ابنُ آدمَ وِعَاءً شرًّا مِن بطنٍ، بحسبِ الرَّجُل مِن طعامهِ ما أقام صُلبَه)).
          وأخرج مِن حديثِ حُذَيْفَة مرفوعًا: ((مَن أقلَّ طُعْمَه صحَّ بطنُه وصَفَا قلبُه، ومَن كثُر طُعْمهُ سَقِم بطنُه وقَسَا قلبُه)). وفي لفظٍ: ((لا تُميتوا القلوبَ بكثرة الطَّعام والشراب، فإنَّ القلب ثمرةٌ كالزَّرْع إن كَثُر عليه الماء انتهى)).
          فيحتمل أنَّ تَرْكَه ◙ الشِّبَع لهذا لا للعدم، وأجمعتِ العرب كما قال فُضَيل بن عِيَاضٍ على أنَّ الشِّبَع مِن الطَّعام لومٌ، بل نص الشَّافِعيُّ على أنَّ الجوع يُذْكِي.
          والجَـْهْدُ فيه بضمِّ الجيم وفتحِها لغتان، وقال نِفْطَويهِ: الضمُّ الوُسْع والطاقة، والفتح المبالغة والغاية. وقال الشَّعْبِيُّ: الضمُّ للمشقَّةِ، والفتح العَمَل، وقولُه: (فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ) هو القَدَح الضَّخْم وجمعه عِسَاسٌ.
          وقولُه: (فَشَرِبْتُ حتَّى / اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالْقِدْحِ). هو السَّهم إذا قُوِّم، وذلك أنَّ السَّهم أوَّل ما يُقْطَع قِطْعًا، ثمَّ يُبرَى يُسمَّى بَرِيًّا ثمَّ يُقَوَّم، فيقال: القِدْح، وهو السَّهم إذا قُوِّم، وذلك أنَّ السَّهم يُرَاشُ ثمَّ يُرَكَّب نَصْلُه فهو حينئذٍ سهمٌ. والمراد: إنَّ بطنَهُ استوى فامْتَلَأَ فصار كالسَّهم.
          وقولُه: (قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ لأَنْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ). هذا حثٌّ منه وحِرْصٌ على فِعْل الخير والمواساة. والحُمر لونٌ محمودٌ في الإبل، يريدُ: يملِكُها ويَضَعُها في سُبُل الخير، فهي أحسنُها وأطهرُها جِلدًا، قال حُنَيْفُ الحَنَاتِمِ: الرَّمْكَاءُ بُهْيَا، والحَمْرَاءُ صُبْرَى والخَوَّارَةُ غُزْرَى، والصَّهْبَاءُ سُرْعَى. وقالت بنو عبْسٍ: ما صبرَ معنا في حربنا مِن النِّساء إلَّا بناتُ العمِّ، ومِن الإبل إلَّا الحُمْر، ومِن الخيل إلَّا الكُمَيت.
          وفي حديث أبي هُرَيْرَةَ هذا التعريض بالمسألة والاستحياء وذِكْرُ الرجل ما كان أصابَه مِن الجُهد.
          وفي هذا الحديث إباحة الشِّبَع عند الجوع، لقولِه: (فَشَرِبْتُ حتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالْقِدْحِ). يعني السَّهم في استوائهِ، لأنَّه لَمَّا رَوِي مِن اللَّبن استقامَ بطنُه وصار كأنَّه سهمٌ، لأنَّه كان بالجوع مُلتصقًا مَثْنيًّا.
          وفيه: ما كان السَّلف عليه مِن الصَّبر على التقلُّل وشَظَفِ العيش والرِّضا باليسير في الدُّنيا؛ أَلَا ترى أنَّ أبا هُرَيرةَ لم يكن له همٌّ إلَّا أن يسدَّ عُمَر جوعه فقط، فلمَّا سقاه الشارع حتَّى رَوِيَ أقنعَهُ ذلك ولم يطلب سواه.
          وذلك دالٌّ على إيثارِهم البُلْغة مِن الدُّنيا وطلبِهم الكِفَاية، أَلَا ترى قول أبي هُرَيْرَةَ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّد مِنْ طَعَامٍ ثَلاَثًا حتَّى قُبِضَ). ستأتي معاني هذا الحديث وما عارضَه في باب: ما كان النَّبِيُّ صلعم وأصحابه يأكلون.
          وفيه: سدُّ الرَّجُل خَلَّة أخيهِ المؤمن إذا عَلِم منه حاجةً مِن غير أن يسألَه ذلك.
          وفيه: أنَّه كان مِن عادتهم إذا استقرأ أحدُهم صاحبَه القرآن أن يَحملَه إلى بيتِهِ ويُطعمَه ما تيسَّرَ عنده، والله أعلم لِمَ لَمْ يحمِل عُمَر أبا هُرَيْرةَ حين استقرأه أبو هُرَيْرَةَ لشُغلٍ كان به، أو أنَّه لم يتيسَّر حينئذٍ ما يُطعمُه، وقد رُوي عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قال: واللهِ لقد استقرأتُ عُمَرَ الآيةَ، وأنا أقرأ منه إلَّا طمعًا في أن يذهب بي ويُطْعِمَني. وهو زائدٌ على ما في البُخارِيِّ مِن قولِه: (وَلَقَدِ اسْتَقْرَأْتُكَ الآيَةَ وَأَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ).
          وفيه: الحِرْصُ على أفعال البرِّ بأسفِ عُمَر على ما فاتَهُ مِن حَمْل أبي هُرَيْرَةَ إلى بيتِه وإطعامِه إن كان محتاجًا إلى الأكل، وأنَّ ذلك كان أحبَّ إليه مِن حُمْر النَّعَم.