التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب حديث الإسراء

          ░41▒ (بَابُ حَدِيثِ الإِسْرَاءِ
          وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1]).
          3886- ذكر فيه حديث جابرِ بنِ عبدِ اللهِ ☻: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: (لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِي الحِجْرِ فَجَلَا اللهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ).
          ░42▒ (بَابُ المِعْرَاجِ)
          3887- ساق فيه حديث أنسِ بنِ مالكٍ ☺: (عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلعم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: بَيْنَا أَنَا فِي الحَطِيمِ...) الحديث بطول، سلف في أوَّل باب ذكر الملائكة [خ¦3207].
          3888- ثمَّ ساق فيه: (عَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60]، قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللهِ صلعم لَيْلَةَ أُسْرِيَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60]، قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ).
          الشرح: قد أسلفنا في الموضع المذكور الكلامَ على الإسراء ومذاهب العلماء فيه، هل كان بروحه أو بجسده واضحًا، وأنَّ الأكثر على أنَّه بالجسد يقظةً، وظاهر إيراد البخاريِّ تغايرُ الإسراء والمعراج، ولهذا أفردَ كلَّ واحدٍ ببابٍ، وهو خلافٌ شهيرٌ للعلماء، وهل كانا في ليلةٍ واحدةٍ أم لا؟ وأيُّهما كانَ قبلَ الآخر؟ وهل كان ذلك كلُّه يقظةً أو منامًا؟ أو بعضه يقظةً وبعضه منامًا؟ وهل كان المعراج مرَّةً أو مرَّاتٍ؟ واختلفوا في تاريخه أيضًا؟ وقد سلف طرفٌ مِن ذلك فيما أشرنا إليه.
          و(سُبْحَانَ) للتنزيه ممَّا لا يليق به، والمرادُ بالمسجد الحرام: مكَّةَ، ومكَّةُ والحَرَمُ كلُّه مسجدٌ، ومعنى: (فَجَلَا) أظهرَ، ومنه: / {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187] أي لا يُظهرُها، و(الْمَقْدِسْ) المُطهَّر.
          وقوله: (بَيْنَا أَنَا فِي الحَطِيمِ، وَرُبَّمَا قَالَ فِي الحِجْرِ مُضْطَجِعًا) الحَطِيمُ حِجرُ مكَّةَ كما قالَه ابنُ فارسٍ والهَرَوِيُّ، قال النَّضْر: إنَّما سُمِّي الحِجر حَطِيمًا لأنَّ البيت رُفع وتُرك ذلك مَحْطُومًا، وكذا قال الخطَّابيُّ: إنَّه الحِجر، قال: وقيل له ذلك لِمَا حُطِمَ مِن جداره فلم يُسَوَّ ببناء البيت، وتُرك خارجًا منه مَحْطُومَ الجدر، وعند مالكٍ أنَّ الحَطِيم: ما بين الباب والركن والمقام مِن الأرض، وسُمِّي بذلك لأنَّ النَّاس يزدحمون فيه فيحطِمُ بعضُهم بعضًا.
          وقوله: (مُضْطَجِعًا)، وفي رواية أخرى: ((بين النَّائم واليَقْظَان))، وقد سلف الخُلْفُ فيه هل كان منامًا أو يقظةً، ورُؤيا الأنبياء وحيٌ.
          وقوله: (فقدَّ) هو بتشديد الدَّال، وهو قطْعُ الشيء طولًا، قال الخطَّابيُّ: ومثل القدِّ القطُّ.
          وقوله: (مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ) يعني سُرَّتَهُ (وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِه) الثُغْرَة: الثُّلْمة في الحائط وشبهه، والقَصُّ: وسط الصدر، والشِعْرَة: شَعَر العانة، قاله الخطَّابيُّ، قال ابن فارسٍ: ثَغْرَةُ النَّحْر الهَزْمَةُ في اللَّبَّة والجمع ثُغَر. قال: والقَصُّ: الصَّدر وهو بفتح القاف، ومنه قَصُّ الشاة، وقال الدَّاوديّ: يعني مِن طرفِ الشَّعَر الذي كالخطِّ بين العانةِ والسُّرَّةُ طرفه، وممَّا يلي العانة إلى النَّحْر، وهذا يأتي على جميع جوا الجسد.
          وقوله في البُراق: (يَضَعُ خَطْوهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ) الخطوُ بالضمِّ ما بين الرجلين، وبالفتح مرَّةً واحدةً، والطَّرْف _بإسكان الراء_ العين، فكأنَّهُ يَضَعُ خطوه عند مُنتهى ما يَرى ببصره.
          وقوله: (قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ) أي: هل أُرسل إليه ليُعرجَ به إلى السماء إذ كان الأمر في بعثه رسولًا معلومًا عندهم، وقيل: يُحتمل أن يكونوا لم يعلموا ذلك مِن بَعْثِهِ؛ لأنَّهم موكَّلون بالعبادة ولا لومَ عليهم في عدم عِلم ذلك، حكاه الخطَّابيُّ قال: إذ كانوا غيرَ مأمورين بأن يؤمنوا بمُحَمَّدٍ أمرَ خِطَابٍ كما أُمرَ مُحَمَّدٌ أن يُؤمن بهم، والظاهر كما قاله ابن التِّين: أنَّهُم علموا بَعْثَه وإنَّما جهلوا وَقْتَه خاصَّةً.
          وقوله: (فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ) يعنون في خير وقتٍ إلى خير أُمَّةٍ.
          وقوله: (فَلَمَّا خَلَصْتُ) أي وصلت.
          وقوله: (فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ) فيه أنَّ الجدَّ وإنْ عَلَا يُسَمَّى أبًا، كقوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27]، وفيه أنَّ أرواحَ الأنبياء مثلت حسًّا قاله ابن التِّين، وقد سلف ما فيه هناك.
          وقوله: (أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً) يشبه كما قال الخطَّابيُّ أن يكون هذا أمرٌ غير مفروضٍ حتمًا، إذ لو كان كذلك لم يُراجعا، وإنَّما راجعهما لعلمِهما بموضع البقيا والتخفيف ومسألة الله والشَّفاعة إليه، وكان لموسى من تقدُّم المعرفة بأمر المتعبِّدين مِن الأمم ما لم يكن لنبيِّه، فخشِيَ مِن جهة النُّصح ما إشار به عليه وأرشده إليه مِن طلب التخفيف عن أُمَّتِهِ، والله رؤوفٌ بعباده فنجح الطلب وكمل ثواب الخمسين تفضُّلًا منه، والله يضاعف لمن يشاء، وباقي الحديث راجِعْه مِن المكان المشار إليه.
          فصل: وقول ابن عبَّاسٍ ☻ في تفسير الآية، وهي: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء:60]: (هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ). قال الدَّاوديُّ: إنَّ رأى أنَّه ◙ رأى شيئًا مِن خلق الله وإنْ عَظُم فذلك سائغ، وإن أراد غير ذلك فقد قالت عائشة ♦: مَن زعمَ أن مُحَمَّدًا رأى ربَّه فقد أعظم الفِرْيَة. والإسراء كان قبل أن يدخل ◙ عليها، فكيف تقوله، وعِكْرِمَة يقول: هي رُؤيا يقَظَةٍ.
          وقوله: ({إِلَّا فِتْنَةً} [الإسراء:60]) أي بلاءً، قاله ابن المسيِّب، وما ذكره في تفسير الشجرة الملعونة قاله سَعِيد بن جُبَيْرٍ ومجاهدٌ وعِكْرِمَةُ والضَّحَّاكُ، قال غيرهم: إنَّما فتن النَّاسَ شجرة الزَّقُّوم؛ لأنَّ جماعةً ارتدُّوا وقالوا: كيف يُسرى به إلى بيت المقدس في ليلةٍ واحدةٍ، وقالوا في الشجرة: كيف تكون في النَّار ولا تأكلُها النَّار، فكان في ذلك فتنةً لقومٍ واستبصارًا لقومٍ منهم الصِّدِّيقُ، وقيل إنَّما سُمِّي الصِدِّيقُ مِن حينئذٍ.
          وإن قلت لِمَ يُذكَرُ لعنُها في القرآن؟ قلتُ: عنه جوابان، إمَّا لعن آكلها، وإمَّا أنَّ العربَ تقول: لكلِّ طعامٍ ضارٍّ ومكروهٍ ملعونٌ.