التوضيح لشرح الجامع البخاري

القسامة في الجاهلية

          ░27▒ (بَابُ القَسَامَةِ فِي الجَاهِلِيَّةِ)
          القَسَامَة: بفتح القاف اسمٌ للأَيمان، وقيل: للأولياء، وهي مِن الأمور التي كانت في الجاهليَّة وأُقِرَّت في الإسلام، واختُلِف في أوَّلِ مَن سنَّ الدِّيَة مائةً مِن الإبل على أقوالٍ:
          أحدُها: عبد المطَّلِب ذكره ابن إسحاقَ. ثانيها: أبو سَيَّارَةَ، قاله أبو الفَرَجِ الأَصْبَهَانيِّ. ثالثها: القَلَمَّس. رابعها: ذكر الزُّبَيْرُ عن المستهِلِّ بن الكُمَيْت بن زيدٍ، عن أبيه أنَّه قال: قَتل / النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ بن خُزَيْمَةَ أخاه لأبيه، فَوَدَاه مائةً مِن الإبل مِن ماله فهو أوَّلُ مَن سنَّها، ذكر عن الكُمَيْتِ الأسديِّ ليزيدَ في ذلك شعرًا دالًّا على ذلك. خامسها: قال الكلبيُّ في «الجمهرة»: وثبَ ابن كِنَانَة على عليِّ بن مسعودٍ فقتلَه فَوَدَاه خُزَيْمَة مائةً، فهي أوَّلُ دِيةٍ كانت في العرب. سادسها: وقال في كتاب «الجامع لأنساب العرب»: قتل مُعَاوِيَةُ بن بكرِ بن هَوَزانَ أخاه زيدًا فَوَدَاه عامرُ بنُ الضرب مائةً مِن الإبل، فهي أوَّلُ دِيةٍ كانت في العرب، مائةً لعِظَم الإبل عندهم وليتناهوا عن الدِّماء.
          وفي «الجمهرة» لابن حزمٍ: تقول العرب أنَّ لُقْمَانَ كان جعل الدِّيةَ أولًا مائة جَدْيٍ، وجزمت في «شرح المنهاج» بأنَّ أوَّلَ مَن قضى بها الوليدُ بن المغيرة في الجاهليَّة، وذكر الزُّبَيْر أنَّ عَمْرو بن عَلْقَمَة بن المطَّلِب بن عبد مَنَافٍ، كان أجيرًا لخِدَاشِ بن عبد اللهِ بن أبي قيسِ بن عَبْدِ وُدٍّ بن نَصْرِ بن مالكِ بن حِسْلِ بن عامر بن لؤيٍّ، خرج معه إلى الشام ففقد خِدَاشُ حبلًا، فذكر أنَّه أعطاه رجلًا يَعْقِل به جَمَلَه، فضرب خِدَاش عَمرًا بعصاه فرقى في ضربته فمرض منها، فكتبَ إلى أبي طالبٍ يُخبره، وماتَ منها، وفي ذلك يقول أبو طالبٍ:
أَفِي فَضْلِ حَبْلٍ لَا أَبَا لكَ ضَرْبُهُ                     بِمِنْسَأَةٍ قد جاءَ حَبْلٌ وأَحْبُلُ
          فتحاكموا إلى الوليد بن المغيرةِ فقضى أن يحلف خمسون رجلًا من بني عامر بن لؤيٍّ عند البيت ما قتلَهُ خِدَاش، حلفوا إلَّا حُوَيْطِبَ بن عبدِ العُزَّى فإنَّ أُمَّهُ افتدت يمينه، فيقال: ما حال الحولُ حتَّى ماتوا كلُّهم إلَّا حُوَيْطبا، وأمُّ حُوَيْطِبٍ: زينبُ بنتُ عَلْقَمَة من بني مَعِيصِ بن عامرِ بن لؤيٍّ.
          ثمَّ ساق البخاريُّ في الباب أحاديث:
          3845- أحدُها: عن أبي مَعْمَرٍ: (حَدَّثَنَا عبدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا قَطَنُ) هو ابن كعبِ القُطَعِيُّ البَصْرِيُّ مِن أفراده (حَدَّثَنَا أَبوُ يَزِيْدَ الْمَدَنِيُّ) ولا يُعرف اسمُه، وهو مِن أفراده، وليس له عنده سواه، وأهل البصرة يروون عنه ولا يعرف بالبصرة وهو ثِقةٌ (عَنْ عِكْرِمَة) وهو مِن أفراده أيضًا وإن أخرج له مسلمٌ مقرونًا (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ قَالَ: إِنَّ أوَّلَ قَسَامَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِليَّةِ لَفِينَا بَنِي هَاشِمٍ، اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِن فَخِذٍ أُخْرَى، فَانْطَلَقَ مَعَهُ فِي إِبِلِهِ...) فذكرَ فقد الحبل، وأنَّه حَذَفَه بِعَصًا، كان فيه أجلُه، وأنَّه أمرَ رجلًا مِن أهل اليمن بإبلاغ ذلك في الموسم أبا طالبٍ فخيَّره بين ثلاثٍ: بين أن يَدِيَهُ بمائةٍ مِن الإبل، وبين حَلْف خمسين مِن قومه أنَّه لم يقتُلهُ، وإلَّا قتلناك به، وحَلَفَ ثمانيةٌ وأربعون، وفدا وأخذ يمينَه ببعيرين، وجاءت امرأةٌ فقالت له: (يَا أَبَا طالبٍ، أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ مِنَ الخَمْسِينَ، ولا تُصْبِرْ يَمِينَهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ) فَقَبِلَ، قال ابن عبَّاسٍ: (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا حَالَ الْحَوْلُ ومِنَ الثَّمَانِيَةِ وَأَرْبَعِين عَينٌ تَطْرِفُ).
          والكلام عليه مِن وجوهٍ:
          أحدها: قوله: (لَفِينَا) يعني الحُكم بها، وفيه دلالةٌ كما قال الدَّاوديُّ أنَّهم كانوا يعرفونها لأنَّه لم يذكر أنَّهُم تشاوروا ولا تدافعوا. قلتُ: وهو دالٌّ أيضًا أنَّ الدِّيَة لم تزل مائةً مِن الإبل، وقوله: (لِبَنِي هَاشِمٍ) إنَّما كانت في بني المطَّلِب كما هو في الحديث لكنَّهُما شيءٌ واحدٌ في الجاهليَّة والإسلام، فلذلك قال ذلك. والفَخِْذُ بكسر الخاء وإسكانها، قال ابن فارسٍ: بسكون الخاء دونَ القبيلة وفوق البطن.
          ثانيها: قوله: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: (اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلَاثٍ...) إلى آخره، فيه البُداءة بالمدَّعى عليه كسائر الحقوق، وهذا مذهب أبي حنيفَةَ، واتَّفقَ هو والشَّافعيُّ على القول بها مع اللوث وإن كانا مختلفين في صِفته، واختلفوا أيضًا هل يُقْتَل بها، فقال مالكٌ: نعم، وقال الشَّافعيُّ: لا، بل يُوجب الدِّية، وقيل: يبدأ المدَّعُون على كلِّ حالٍ.
          ثالثها: الجُوالَِق بضمِّ الجيم وفتح اللام وكسرها فارسيٌّ معرَّبٌ وأصله بالفارسيَّةِ: كوالة، وجمع جَوَالَق بفتح الجيم كما قال أبو منصورٍ وهو مِن نادرِ الجمع. قلت: الذي في «كتاب سيبويه»: جَوِاليقُ بزيادة ياءٍ قال: ولم يقولوا: جُوالِقات، اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بجَوالِيق.
          وقولها: (أُحِبُّ أَن ْتُجِيْزَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ) أي تُسقط عنه اليمين وتعفُو عنه، ومعنى (لَا تُصْبِر يَمِيْنَهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ) أصل الصَّبر في اللُّغة: الحَبْسُ، وصَبَرْتُ الرَّجُل إذا حلَّفْتُهُ بأجهدِ اليمين، وقيل: الصَّبرُ في الأَيمان الإيجابُ والإلزامُ حتَّى لا يسعهُ إلَّا بحَلْفٍ، و(حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ) هو بين الرُّكن والمقام، ومِن هذا استدلَّ الشَّافعيُّ على أنَّه لا يُحلَفُ بين الرُّكن والمقام على أقلَّ مِن عشرين دينارًا، وهو ما تَجِب فيه الزَّكَاةُ.
          رابعها: قولُه: (مَا حَالَ الحَوْلُ...) إلى آخره، لعلَّ ابنَ عبَّاسٍ أخبره بهذا جماعةٌ، فتقرَّرَ في نفسه ذلك فحَلَفَ عليه، ولأنَّ الظاهرَ أنَّ عُمره لم يبلغ أن يكون حينئذٍ قد عَقَل.
          وقوله: (عينٌ تَطْرِفُ) الطَّرْفُ تحريكُ الجفن في النَّظَر، وقيل: طَرَفَ بعينه إذا نظر بطرفة بعد طرفةٍ، وفيه: الأخذُ باليمين الكاذبة، وإنَّ اليمين في الحَرَم تُهلِك كاذبَها. /
          3846- الحديث الثاني: حديث عائِشَةَ ♦: (كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللهُ لِرَسُولِهِ، فقَدِمَ رسولُ الله صلعم وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وَقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ، وَجُرِّحُوا، قَدَّمَهُ اللهُ لِرَسُولِهِ فِي دُخُولِهِمْ في الإِسْلَامِ).
          تقدَّمَ في مناقب الأنصار [خ¦3777].