التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قصة أبي طالب

          ░40▒ (بَابُ قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ)
          ذكر فيه أحاديث:
          3883- أحدها: حَدِيْثُ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ: (قَالَ لِلنَّبِيِّ صلعم: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
          3884- ثانيها: حديث ابن المسيِّب عن أبيه، وقد سلف في الجنائز في باب: إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله [خ¦1360]، وزاد هنا: (وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]) مع تلك الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا...} الآية [التوبة:113].
          3885- ثالثها: حديث أَبِي سعيدٍ الخُدْرِيِّ ☺: / (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلعم وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ) أبو طالبٍ (فَقَالَ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ)، وفي لفظٍ: (تَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ).
          فائدة: جاء في روايةٍ أُخرى: ((كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ أو القُمْقُم))، وفي رواية أبي ذرٍّ: <كما يَغْلِي الْمِرْجَل بالقمقم>. قال بعضُهم: القُمْقُم: البُسْرُ الأخضر يُطبخ في المِرجَل استعجالًا لنُضْجِهِ، يَفعَلُ ذلك أهل الحاجة، ولابن إسحاقَ: ((أهونُ أهل النَّار عذابًا مَن يَنْتَعِل نعلَين مِن نارٍ يغلي منهما دماغُهُ حتَّى يسيل على قدمِهِ)).
          ومعنى: (يَحُوطُكَ) يرعاك، والضَحْضَاحُ ما يبلغ الكَعْب أو ما رقَّ مِن الماء على وجه الأرض، شُبِّه به الشيء القليل مِن النَّار، وهو خلاف الغَمَرات، يريد به الكثرة لغمره الماء، أي إنَّه خُفِّف عنه العذاب بسببه، وقال الدَّاوديُّ: الضَّحْضَاح: المكان الذي ليس عليه مِن الماء ما يغيبُ فيه إلَّا القليلُ مِن العائم فيه، قال: ورواية: ((يَغلِي مِنهُ دِماغه)) هو المحفوظُ.
          وقوله: (أُمُّ دِمَاغِهِ) في الأخرى؛ جعل الدِّماغ فيها: الرأسَ مِن باب تسمية الشيء بما يقاربه.
          وفيه زيارة المريض المشرك القريب، وفيه أنَّ التوبة مقبولةٌ ما لم يُغَرْغِر، وقيل: لا إله إلاَّ الله جزاؤها الجَنَّة إذا مات بإثرها، ولهذا لم يدعُهُ للصَّلاة والزَّكاة، وإنَّما دعاهُ لها لأنَّها الأَسُّ.
          وقوله: (فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ...}) الآية [التوبة:113]، وروى ابن مسعودٍ أنَّها في غيره، وروى أبو الخليل عن عليٍّ قال: مررتُ برجلٍ مِن المسلمين يستغفر لأبيه، وقد مات مُشركًا فنهيتُهُ، فقال: استغفرَ إبراهيم لأبيه، فأتيتُ رسولَ الله صلعم فأخبرته فنزلت الآية. قال السُّهَيْلِيُّ: كان أبو طالبٍ مع رسول الله صلعم بجملته إلَّا أنَّه كان ثابتَ القدم على مِلَّةِ آبائه، فَسُلِّط العذابُ على قدميه خاصَّةً لتثبيته إيَّاهما على مِلَّةِ آبائه لا على الصِّراط الأقوم.
          قال: وظاهرُ قوله: هُوَ (عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ) يقتضي أنَّ عبد المطَّلِب مات على غير مِلَّة الإسلام، ووجدت في بعض كُتُب الْمَسْعُوديِّ أنَّه قيل: إنَّه مات مسلمًا لِمَا رأى مِن الدَّلائل على نُبُوَّة رسول الله صلعم، وعلِم أنَّه لا يُبعث إلَّا بالتوحيد، فالله أعلم.
          ثمَّ إنَّ في مسند البزَّار وكتاب النَّسائيِّ مِن حديث عبد الله بن عَمْرٍو: أنَّه ◙ قال لفاطِمَةَ وقد عزَّت قومًا مِن الأنصار: ((لعلَّكِ بلغت معهم الكُدى))، ويروى ((الكُرى)) بالراء يعني: القبور، فقالت: لا، فقال: ((لو كنتِ بلغتِ معهم الكُدى ما رأيتِ الجَنَّة حتَّى يراها جدُّ أبيك))، وأخرجه أبو داودَ أيضًا ولم يذكر فيه: ((ما رأيتِ الجَنَّة)) قال: ويحتمل أنَّه أراد تخويفَها بقوله: ((حتَّى يدخلَها جدُّ أبيكِ)) فتوهَّم أنَّه جَدٌّ جاهليٌّ، وقولُه حقٌ وبلوغُها معهم الكُدى لا يوجب خلودًا في النَّار، وهذا مِن لطيف الكناية. قلتُ: الحديث ضعَّفهُ البخاريُّ برَبِيْعَةَ بنِ سيفِ الْمَعَافِريِّ راويه.