التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب نفقة القيم للوقف

          ░32▒ (بَابُ: نَفَقَةِ القَيِّمِ لِلْوَقْفِ)
          2776- ذكر فيه حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَؤُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ).
          2777- وحديثَ ابن عمرَ: (أَنَّ عمرَ اشْتَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ، وَيُؤْكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا).
          وهذا الحديث سلَف [خ¦2764]، وذكره هنا عن قُتيبة: (حدَّثنا حمَّادٌ عن أَيُّوب عن نافعٍ عن ابن عمرَ) به. قال الإسماعيليُّ: الَّذي عندنا عن حمَّاد بن زيدٍ عن أَيُّوب عن نافعٍ: ((أنَّ عمرَ)) ليس فيه ابن عمرَ، ثُمَّ ساقه كذلك، وساقه بإسقاط نافعٍ أيضًا، قال: ووصلَه يزيدُ بن زُرَيعٍ وابن عُلَيَّة، ثُمَّ ساقه مِنْ حديث يزيد بن زُرَيعٍ بإثباته: حدَّثنا أَيُّوب عن نافعٍ عن ابن عمرَ قال: أصاب عمرُ أرضًا، ورواه أبو نُعيمٍ مِنْ حديث القَوَارِيريِّ عن حمَّادٍ: سمعت أَيُّوب يذكر عن نافعٍ قال: أوصى عمرُ واشترط في وقفه، وساقه البَيهَقيُّ مِنْ حديث الهيثم بن سهلٍ التُّسْتَرِيِّ عن حمَّادٍ بإثباته ثُمَّ قال: وكذا رواه يونس بن محمَّد عن حمَّادٍ، ووقع للدَّارَقُطْنيِّ أنَّه قال في حديث أَيُّوب: لا أعلم حدَّث به عن حمَّادٍ غيرُ يونسَ.
          وفي البُخاريِّ حدَّث به عنه قُتيبة، وفي الإسماعيليِّ: سليمان بن حرب وأبو الرَّبيع وأحمدُ الموصليُّ والقَوَارِيريُّ مِنْ عند أبي نُعيمٍ، والهيثم مِنْ عند البَيهَقيِّ، وقَال الحُمَيديُّ: زعم أبو مسعودٍ أنَّ البُخاريَّ رواه في الوصايا عن قتيبة عن حمَّادٍ ولم أجدْه، قلتُ: هُو موجودٌ في سائرِ نسخ البُخاريِّ كما أسلفناه.
          إذا تقرَّر ذلك فإنَّما أراد البُخاريُّ بالتَّرجمة ليبيِّن أنَّ المراد بقوله: (مَؤُونَةِ عَامِلِي) أنَّه عامل أرضه الَّتي أفاءها الله عليه مِنْ بني النَّضيرِ وفَدَكَ وسهمِه مِنْ خيبرَ، وليس عاملَه حافرَ قبره، كما تأوَّله بعض الفقهاء، واستشهد على ذلك البُخاريُّ بحديث عمرَ الَّذي أردَفه بعده أنَّه شرط في وقفه أن يأكل مَنْ وَلِيَه بالمعروف، فبان بهذا أنَّ العامل في الحبس له منه أجرةُ عملِه وقيامه عليه، وليس ذلك بتغييرٍ للحبس ولا نقضٍ لشرط المحبِّس إذا حبَّس على قومٍ بأعيانهم لا غنى عن عاملٍ يعمل المال.
          وفي هذا مِنَ الفقه جوازُ أخذ أجرة القسَّام مِنَ المال المقسوم، وإنَّما كره العلماء أجرة القسَّام لأنَّ على الإمام أن يرزقهم مِنْ بيت المال، فإن لم يفعل فلا غناء بالنَّاس عن قاسمٍ يقسم بينهم، كما لا غنى عن عاملٍ يعمل في المال، ويشبهُ هذا المعنى ما رواه ابن القاسم عن مالكٍ في الإمام يذكر أنَّ له ناحيةً مِنْ عمله كثيرة العشور قليلة المساكين، وناحيةً أخرى عكسه، فهل له أن يتكارى ببعض العشور حتَّى يحملها إلى النَّاحية الكثيرة المساكين؟ فكره ذلك وقال: أرى أن يتكارى عليه مِنَ الفيء / أو يبيعه ويشتري هنا طعامًا، وقال ابن القاسم: لا يتكارى عليه مِنَ الفيء ولكن يبيعه ويشتري بثمنه طعامًا.
          وقوله: (مَا تَرَكْتُ...) إلى آخره يبيِّن فساد قول مَنْ أبطل الأوقاف والأحباس مِنْ أجل أنَّها كانت مملوكةً قبل الوقف، وأنَّه لا يجوز أن يكون ملك مالكٍ ينتقل إلى غير مالكٍ، فيُقال له: إنَّ أموال بني النَّضيرِ وفَدَك وخيبرَ لم تنتقل بعدَ وفاة رسول الله _صلعم_ إلى أحدٍ مَلَكها، بل هي صدقةٌ منه ثابتةٌ على الأيَّام واللَّيالي، تجري عنه في السُّبل الَّذي أجراها فيها منذ قُبِض، فكذلك حكمُ الصَّدقات المحرَّمة قائمة على أصولها جارية عليها فيما سبَّلَها فيه، لا يُباع أصلُها ولا يُوهب ولا يُملك.
          تنبيهاتٌ: أحدها: قوله: (لا يَقْتَسِمُ) هو برفع الميم عَلى الخبر، أي: ليس يَقتسم، وفي رواية يحيى بن يحيى الأندلُسيِّ ((دنانير)) وتابعه ابن كِنانة، وأمَّا سائر الرُّواة فيقولون: ((دِينَارًا)) نبَّه عليه أبو عمرَ قال: وهو الصَّواب لأنَّ الواحد في هذا الموضع أعمُّ عند أهل اللُّغة، وكذا رواه ورقاء عن أبي الزِّناد، وقال ابن عُيَينةَ عن أبي الزِّناد: ((لَا يَقْتَسِم وَرَثَتِي بَعدَ مِيرَاثِي))، وأراد بعامله خادمَه في حوائطه وقيِّمَه ووكيله وأجيره، وأبعدَ مَنْ قال: حافر قبره كما سلف، وحكاه المُنذِريُّ أيضًا في «حواشيه» وممَّا يبعده أنَّهم لم يكونوا يحفرون بأجرةٍ، فكيف له ◙؟ وقيل: أراد الخليفة بعده.
          وقال الطَّبَريُّ في «تهذيبه»: (يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي) ليس بمعنى النَّهي، لأنَّه لم يترك دينارًا ولا درهمًا، فلا يجوز النَّهي عمَّا لا سبيل إلى فعله، ومعنى الخبر: ليس يقتسم ورثتي، قَالَ الخَطَّابِيُّ: بلغني عن ابن عُيَينةَ أنَّه كان يقول: أمَّهات المؤمنين في معنى المعتدَّات لأنَّهنَّ لا يجوز لهنَّ أن يَنكحن أبدًا، فجرت لهنَّ النَّفقة وتُركت حُجَرهنَّ لهنَّ يسكنَّها.
          ثانيها: إن قلت: كيف يصحُّ هذا الحديث في النَّهي عن القسمة، وحديث عائشةَ: لَمْ يَتْركْ دينارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ وكيف ينهى أهله عن قسمة ما يعلم أنَّه لم يُخلِّفه؟ وقد أسلفنا أنَّ معناه الخبرُ لا النَّهي، وأجاب القاضي أبو بكرٍ بجوابين: أحدهما: أنَّه نهاهم على غير قطعٍ بأنَّه لا يُخلِّف عينًا، بل جوَّز أن يملك ذلك قبل موته، فنهاهم عن قسمته. ثانيهما: أنَّه علم ذلك وقال: (لَا يَقْتَسِمُ) على الخبر برفع الميم، ليس ينقسم ذلك لأنِّي لم أخلِّفهما بعدي.
          ثالثها: إن قلت: الخبر يردُّه آية الوَصيَّة، قالَه الشِّيعة، وأجاب القاضي بأنَّ الآية وإن كانت عامَّةً فإنَّها توجب أن يورث رسول الله _صلعم_ ما يملكه، فدلُّوا على أنَّه كان بملكٍ سلَّمناه، ولا دلالة فيها لأنَّها ليست عندنا، وعند مُنكِري العموم لاستغراقِ المالكين، وإنَّما تنبئ عن أقلِّ الجمع، وما فوقه مجمل فوجب التَّوقُّف فيه، وعند كثيرٍ مِنَ القائلين بالعموم أنَّ هذا الخطاب وسائر العموم لا يدخل فيها الشَّارع لأنَّ شرعه ورد بالتَّفرقة بينه وبين أمَّته، ولو ثبت العموم لوجب تخصيصُه، وقد روى أبو بكرٍ وعمرُ وحذيفةُ وعائشةُ أنَّه _◙_ قال: ((نحنُ _مَعَاشِرَ الأنبياءِ_ لَا نُورَثُ ما تَرَكْنَا صدقةٌ)) وهذا الحديث في نظائرَ لهذه الأحاديث كلِّها تنبئ عن معنًى واحدٍ، وهو أنَّه لا يورث، فوجب تخصيصُ الآية لهذه الأخبار، ولو كانت خبرَ آحاد الَّتي لا يُقطع بصحَّتها، فكيف وقد خرجت عن هذا الحدِّ وصارت مِنْ سبيل ما يُقطع بصحته؟!.