التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس

          ░2▒ (باب: الوَصِيَّةُ بالثلث وأَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَكَفَّفُوا النَّاسَ)
          2742- ذكر فيه حديثَ سعدِ بن أبي وقَّاصٍ، وفيه: (فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) بطوله، وقد سلف في الجنائز [خ¦1295].
          وقوله: (يَرْحَمُ اللهُ ابْنَ عَفْرَاءَ) قال الدَّاوُديُّ: أُراه غير محفوظٍ، والصَّواب: ابن خَوْلَة، كما ذكره البُخاريُّ في الفرائض [خ¦6733] مِنْ حديث الزُّهْريِّ عن عامر بن سعدٍ عن أبيه، ولعلَّ الوهم أتى مِنْ سعد بن إبراهيم راويه عن عامرٍ، والزُّهْريُّ أحفظُ مِنْ سعدٍ.
          واعلمْ أنَّ الله _تعالى_ ذكرَ الوَصيَّة في كتابه ذكرًا مجمَلًا، ثُمَّ بيَّن رسولُه _عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام_ أنَّ الوصايا مقصورةٌ على الثُّلث لإطلاقه لسعدٍ الوَصيَّةَ بالثُّلث في هذا الحديث، وليس بجَورٍ إذْ لو كان جَورًا لبيَّنه، وأجمع العلماءُ على القول به، واختلفوا في القدر الَّذي يُسْتَحبُّ أنْ يوصيَ به الميِّتُ وسيأتي بعد هذا، إلَّا أنَّ الأفضل لِمَنْ له ورثةٌ أن يقصِّر في وصيِّته عن الثُّلث غنيًّا كان أو فقيرًا لأنَّه _◙_ لمَّا قال لسعدٍ: (الثُّلُثُ كَثِيرٌ) أتبعه بقوله: ((إنَّكَ أَنْ تَذَرَ)) إلى آخره، ولم يكن لسعدٍ يومئذٍ إلَّا ابنةٌ واحدةٌ كما ذكر هنا وفيما بعدُ، فدلَّ أنَّ ترك المال للورثة خيرٌ مِنَ الصَّدَقة به، وأنَّ النَّفقة على الأهل مِنَ الأعمال الصَّالحة.
          وروى ابنُ أبي شيبة مِنْ حديث ابن أبي مُلَيكة عن عائشةَ قال لها رجلٌ: إنِّي أريد أنْ أوصيَ، قالت: كم مالُك؟ قال: ثلاثة آلافٍ، قالت: فكمْ عيالك؟ قال: أربعةٌ، قالت: إنَّ الله يقول: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180] وإنَّ هذا شيءٌ يسيرٌ، فدعْه لعيالك فإنَّه أفضلُ. وروى حمَّادٌ عن أَيُّوبَ عن نافعٍ عن ابن عمرَ أنَّه ذُكِر له الوَصيَّةُ في مرضه فقال: أمَّا مالي فالله أعلم مَا كنت أفعل فيه، وأمَّا رِباعي فلا أحبُّ أن يشارِك فيها أحدٌ ولدي.
          وعن عليٍّ أنَّه دخل على رجلٍ مِنْ بني هاشمٍ يعودُه وله ثمانِ مئة درهمٍ وهو يريد أنْ يوصيَ، فقال له: يقول الله _تعالى_: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} ولم تدعْ خيرًا توصي به، وعن ابن عبَّاسٍ: مَنْ ترك سبع مئة درهمٍ فلا يوصي، فإنَّه لم يترك خيرًا.
          وقال قَتَادة في الآية: ألف درهمٍ فما فوقها، قال ابن المُنْذِرِ: وقد دلَّتْ هذه الآثار على أنَّ مَنْ ترك مالًا قليلًا فالاختيار له تركُ الوَصيَّة وإبقاؤه للورثة.
          وقوله: (عَسَى اللهُ أَنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) انتفع به مَنْ أدخله الإسلام، وضرَّ به مَنْ هو كافرٌ، أو أنَّ ابنه عمرَ ولَّاه عُبيدُ الله بن زيادٍ على الجيش الَّذين لَقُوا الحسين فقتلوه، وهذا مِنْ أعلام نبوَّته، ووقع كما أخبر، وكيف لا ولا ينطق عن الهوى؟ قال ابن بَطَّالٍ: ثبَت أنَّ سعدًا أُمِّر على العراق، فأُتِي بقوم ارتدُّوا عن الإسلام فاستتابهم، فأبى بعضُهم فقتلهم، فضرَّ أولئك وتاب بعضُهم فانتفعوا، وعاش سعدٌ بعد حَجَّة الوداع خمسًا وأربعين سنةً.
          وقوله: (خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ) العالة: جمع عائلٍ، وهو الفقيرُ الَّذي لا شيء له، ومنه: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8].
          و(يَتَكَفَّفُونَ) يبسطون أكفَّهم لمسألتهم، قال صاحب «العين»: استكفَّ: بَسَطَ كفَّه.
          فرعٌ: أكثر أهل العلم على أنَّ هبة المريض وصدقاته مِنْ ثلثه إذا مات منه كسائر الوصايا، واتَّفق على ذلك فقهاءُ الحجاز والعراق، وقالت فرقةٌ: هي مِنْ جميع المال كأفعاله، وهو صحيحٌ حكاه الطَّحَاويُّ وقال: هذا قولٌ لم نعلم أحدًا مِنَ المتقدِّمين قاله، وأظنُّه قولَ أهل الظَّاهر: إذا قُبِضَت وَصيَّةُ المريض وعطاياه فهي مِنْ رأس ماله، لأنَّ ما قُبِضَ قبل الموت ليس وَصيَّةً، وإنَّما الوَصيَّة ما يُسْتَحقُّ بموت الموصي، وسواءٌ قُبضتْ عند جماعة الفقهاء أو لم تُقبض هي مِنَ الثُّلث، وحديث عائشةَ في «الموطَّأ» أنَّ أباها نحلها جادَّ عشرين وَسْقًا بالغابة، فلمَّا مَرِضَ قال: لو كنت حُزْتيه كان لك، وإنَّما هو اليوم مال الوارث، فأخبر الصِّدِّيق أنَّها لو كانت قبضتْه في الصِّحَّة تمَّ لها ملكه، وأنَّها لا تستطيع قبضه في المرض قبضًا يتمُّ لها به ملكُه، وجعل ذلك غيرَ جائزٍ كما لا تجوز الوَصيَّة لها به، ولم تنكر ذلك عائشةُ على والدها ولا سائرُ الصَّحابة، فدلَّ أنَّ مذهبَهم جميعًا كان فيه مثلَ مذهبه، وفي هذا أعظمُ حجَّةٍ على مَنْ خالف قولَ جماعةِ العلماء، وكذلك فَعل الشَّارعُ في الَّذي أَعتق ستَّة أَعْبُدٍ له عند الموت لا مالَ له غيرُهم، فأقرعَ بينهم وأعتق اثنين وأرقَّ أربعةً، فجعل العِتْق في المرض مِنَ الثُّلث، فكذا الهبةُ والصَّدَقة لاشتراكها في تفويت المال.
          وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ) حدَث له بعد ذلك خمسةٌ مِنَ الولد، واختُلف متى عاده _◙_ والصَّواب في حَجَّة الوداع، وبه قال الزُّهْريُّ، وقال ابن عُيَينةَ: في يوم الفتح وغلَّطوه. /