التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح}

          ░22▒ (باب: قَوْلِ اللهِ _╡_: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} إلى قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:6-7] وَمَا لِلْوَصِيِّ أَنْ يعملَ في مال اليتيم، وَمَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِقَدرِ عُمَالَتِهِ).
          2764- ثُمَّ ساق حديثَ ابن عمرَ في صدقة عمرَ بِثَمْغٍ وَكان نخلًا، وفي آخره: (وَلا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ...) إلى آخره وقد سلف [خ¦55/12-4305]، والبُخاريُّ رواه عن هارون، وهو ابن الأشعث الهَمْدَانيُّ الثِّقة، وهو مِنْ أفراده عن أبي سعيدٍ مولى بني هاشمٍ واسمه: عبد الرَّحمن بن عبد الله بن عُبيدٍ البصريُّ، نزل مكَّة يُلقَّب جَرْدَقة.
          2765- وذكر فيه أيضًا حديثَ عائشة _♦_ في قوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6]: (أُنْزِلَتْ فِي وَالِي اليَتِيمِ أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ)، وقد سلف أيضًا [خ¦2212]. ومعنى: ({وابْتَلُوا اليَتَامَى}) اختبروهم في عقولهم وتميُّزهم وأديانهم، وذلك أن يُختبر بعد البلوغ بشيءٍ مِنْ ماله، وظاهر القرآن أنَّه قَبْله، والمراد بالنِّكاح هنا: الحلمُ بالاتفاق.
          ومعنى ({آنَسْتُمْ}) عَلِمتُم ({رُشْدًا}) عقلًا _كما قاله أبو حَنِيفةَ لأنَّه لَا يرى الحَجْر على حرٍّ مسلمٍ_ وصلاحًا في الدِّين، أو صلاحًا في الدِّين والمال كما قال الحسن والشَّافعيُّ، أو صلاحًا وعلمًا بما يصلح، والأنثى كالذَّكر عند الشَّافعيِّ وأبي حَنِيفةَ، ومشهورُ مذهب مالكٍ أنْ يُضاف إلى ذلك دخولُ الزَّوج بها.
          ({إِسْرَافًا}) مجاوزة المباح، فإنْ فرَّط قيل: أَسْرَفَ إِسْرَافًا، فإن قصَّر قيل: سَرَفَ يَسْرُفُ.
          ({وَبِدَارًا}): هو أنْ يأكله مبادرة أنْ يكبرَ فيَحُول بينه وبين ماله.
          وقوله: ({فَلْيَسْتَعْفِفْ}) قال زيد بن أسْلَم وغيره: نسخَتْها {إِنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] وقَال غيرهما: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وهذا ليس تجارةً.
          وقال جماعةٌ: غير منسوخةٍ واختلفوا في معناها، فقالت عائشةُ مَا في الكتاب، وقاله عمرُ: إنْ غَنِيْتَ تركتَ وإن احتجتَ أكلتَ بالمعروف، وقاله ابن عبَّاسٍ، وفي حديثٍ مرفوعٍ: ((كُلْ مِنْ مالِ يَتِيمِكَ غيرَ مُسْرِفٍ ولا مُتَأثِّلٍ مالَكَ بمالِهِ)) وَعندنا يأكل أقلَّ الأمرين مِنْ أجره ونفقته، وقيل: أجرته.
          وفي ردِّ البدل قولان أصحُّهما: لا، وقيل: نعم، وهو قرضٌ، وهو قول عطاءٍ وجماعاتٍ، ورُوي ذلك عن عمرَ وابن عبَّاسٍ، وتأوَّله الدَّاوُديُّ على قول عمرَ: أنا في هذا المال كوَلِيِّ اليتيم إذا استغنى عفَّ، وإن احتاج أكلَ وردَّ، وتأوَّله الجماعة على أنَّه لا يردُّ شيئًا كما سلف، وقال ابن بَطَّالٍ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} هو للنَّدب، وإنْ أكل بالمعروف لم يكن عليه حرجٌ، وقال ربيعة ويحيى بن سعيدٍ: الأكل هاهنا لليتيم لا للوليِّ، إنْ كان فقيرًا أنفق عليه بقدر فقره، وقال عكرمة وعروة والشَّعْبيُّ، ورُوي عن ابن عبَّاسٍ: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} قال: يتقوَّت مِنْ ماله حتَّى لا يصيب مِنْ مال اليتيم شيئًا.
          والإشهاد مِنْ باب النَّدب خوفَ إنكار اليتيم، وقيل: إنَّ الإشهاد منسوخٌ بقوله: {وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} أي: شهيدًا أو كافيًا مِنَ الشُّهود، وهذا قول أبي حَنِيفةَ أنَّ القول قول الوصيِّ في الدَّفع، وقيل: معناه فيمن اقترض منه فعليه أن يشهد عند الدَّفع، وفُسِّر: {حَسِيبًا} في رواية أبي ذرٍّ: <كافيًا>، وقيل: عالمًا، وقيل: مقتدرًا، وقيل: محاسبًا.
          وقوله: ({لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ}) نزلت بسبب أنَّ الجاهليَّة كانوا يورِّثون الذُّكور دون الإناث، ويقولون: لا يرث إلَّا مَنْ طَعن بالرُّمح، وذكر حديث عمرَ في الباب لذكره أكل الوليِّ منه، وليس مِنَ الباب في شيءٍ كما قاله ابْن التِّيْنِ لأنَّ عمرَ شرط ذلك وشرط إطعام الصَّدِيق بخلاف الوصيِّ.
          و(ثَمْغٌ) بإسكان الميم، وقد فسَّره بقوله: (وَكَانَ نَخْلًا).
          وقوله: (وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ) أي خطيرٌ يُتنافس فيه، وقال الدَّاوُديُّ: اشتقاقه أنَّه يأخذ بالأنفَس، وقال المهلَّب: إنَّما أدخل هذا الحديث في الباب، لأنَّ عمرَ حبَّس ماله على أصنافٍ وجعله إلى مَنْ يليه وينظر فيه، كما جُعل مال اليتيم إلى من يليه وينظر فيه، فالنَّظر لهؤلاء الأصناف كالنَّظر لليتامى، لأنَّهم مِنْ جملة هذه الأصناف، وقال ابن المنيِّر: حديث عمرَ غيرُ مطابقٍ للتَّرجمة لأنَّ عمرَ هو المالك لمنافع وقفه ولا كذلك الموصي عَلى أولاده، فإنَّهم إنَّما يملكون المال بقسمة الله _تعالى_ وتمليكه، ولا حقَّ لمالكه فيه بعد موته، فكذلك كان المختار أنَّ وصيَّ اليتيم ليس له الأكلُ مِنْ ماله إلَّا أنْ يكون فقيرًا فيأكل.
          وفيه مِنَ الفقه أنَّ عمرَ فَهِمَ عن الله _تعالى_ أنَّ لوليِّ هذا المال أنْ يأكل منه بالمعروف كما قال تعالى.
          وقوله (غَيرَ مُتَمَوِّلٍ) كقوله _تعالى_: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] فدلَّ أنَّ ما ليس / بسرفٍ أنَّه جائزٌ لوليِّ اليتيم أن يأكله.
          وقوله: (لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ) ولم يخصَّ غنيًّا مِنْ فقيرٍ فيه إجازة أكل الغنيِّ ممَّا يلي، وقال ابن بَطَّالٍ: جمهور علماء التَّأويل إنَّما أباحوا للوليِّ الأكلَ مِنْ مال اليتيم إذا كان فقيرًا، ولم يذكروا في ذلك الغنيَّ، والفقهاء على أنَّه لا ردَّ، وقد روي حديث عمرَ ولم يذكر فيه الردَّ، رواه سعيد عن قَتَادة عن أبي مِجْلَزٍ عنه، ومَنْ رأى الردَّ فذلك مخالفٌ لظاهر القرآن.
          وأباح ابن عبَّاسٍ للغنيِّ أن يشرب مِنْ لبن إبل اليتيم بالمعروف مِنْ أجل قيامه عليها وخدمته لها، فكيف يجب أن يكون على الفقير أن يقضي ما أكل منها بالمعروف إذا أيسر، والنَّظر في ذلك أيضًا يبطل وجوب القضاء لأنَّ عمرَ شبَّه مال الله بمال اليتيم، وقد أجمعت الأمَّة أنَّ الإمام النَّاظر للمسلمين لا يجب عليه غُرم ما أكل بالمعروف لأنَّ الله _تعالى_ قد فرض سهمه في مال الله، فلا حجَّة لهم في قول عمرَ: ثُمَّ قَضيتُ، إن صحَّ.