التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا}

          ░23▒ (بابُ: قَوْلِ اللهِ _تعالى_: {إِنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10])
          2766- ثُمَّ ساق حديثَ أبي الغَيْث _واسمُه سالمٌ_ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاتِ).
          الشَّرح: (اليَتِيْمِ) في اللُّغة: المنفرد، وهو لِمَنْ مات أبوه، ومِنَ البهائم: مَنْ ماتت أمُّه.
          ({نَارًا}) يصيرون به إلى النَّار، أو تُمْلأ بها بطونهم عيانًا يوجب النار، وعبَّر عن الأخذ بالأكل لأنَّه المقصود الأغلب منه، والصِّلَا: لزوم النَّار، قال الدَّاوُديُّ: وهذه الآية أشدُّ ما في القرآن على المؤمنين لأنَّها خيرٌ إلَّا أنْ تريد مستحلِّين، وقُرئ: {وسَيَُصْلَونَ} بفتح الياء وضمِّها والفتح أولى، ({سَعِيْرًا}) مسعورةً أي: موقَدةً شديدًا حرُّها.
          وحديث أبي هريرة أخرجه مسلمٌ.
          و(المُوبِقَاتِ) المُهلكات جمع موبقةٍ مِنْ أوبق، ووابقةٌ: اسم فاعلٍ مِنْ يَبِق وُبوقًا إذا هلك، والمَوْبِقُ: مَفْعِلٌ منه كالمَوعِد يُقال: وَبَقَ يَبِقُ، ووَبِقَ يَوْبَقُ، زاد القزَّاز: بائقٌ ويبيق، وذكرهما النَّحَّاس ومعناه: هلك، وعدَّ منها التَّولِّيَ يوم الزَّحف، وهو حجَّةٌ على الحسن في قوله: كان الفرار كبيرةً يوم بدرٍ لقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال:16] والزَّحف أصله المشي المتثاقل، كالصَّبيِّ يزحف قبل أن يمشي، وسُمِّي الجيش زحفًا لأنَّه يُزحف فيه، وإنَّما يكون الفِرار كبيرةً إذا فَرَّ إلى غير فئةٍ، وإلَّا إذا كان العدوُّ زائدًا على ضعفي المسلمين.
          و(المُحْصـَِنَاتِ) _بفتح الصَّاد وكسرها_: العفيفات الغافلات عن الفواحش، وليس ذكرُ هذه السَّبع بنافٍ ألَّا تكون كبيرةً إلَّا هذه، فقد ذكر في غير هذا الموضع قولَ الزُّور، وزنا الرَّجلِ بحليلة جاره، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، واستحلال بيت الله الحرام وغير ذلك، ويحتمل أنْ يكون الشَّارع أُعْلِم بها في ذلك الوقت ثُمَّ أُوحي إليه بعد ذلك غيرُها، أو تكون السَّبعُ هي الَّتي دعت إليها الحاجة ذلك الوقتَ، وكذلك القول في كلِّ حديثٍ خصَّ عددًا مِنَ الكبائر، قال الشَّافعيُّ: وأكبرها بعد الإشراك القتلُ، ودَعوى بعضهم أنَّها سبعٌ كأنَّه أخذ ذلك مِنْ هذا الحديث، وقال بعضهم: إحدى عشرة، وقال ابن عبَّاسٍ: إلى السَّبعين أقرب، ورُوي عنه: إلى سبع مئةٍ، والإصرار على الصَّغيرة يُصيِّرها كبيرةً.
          و(السِّحْرُ) حقٌّ ونفاه بعضهم وهو كبيرةٌ، وقيل: لا يحرم. وتُقبل توبته خلافًا لمالكٍ كالزِّنديق عنده، وقال في الذِّمِّيِّ: لا يُقتل إلَّا أن يُدخل سِحرُه ضررًا على المسلمين فيكون ناقضًا للعهد فيُقتل ولا تُقبل منه توبةٌ غير الإسلام، وأمَّا إن كان لم يَسحر إلَّا أهلَ ملَّته فلا يُقتل إلَّا إذا قتل أحدًا منهم، والمشهور انقسام المعاصي إلى صغائرَ وكبائرَ، وادَّعى بعضُهم أنَّها كلَّها كبائرُ، وعبارة بعض المالكيَّة أنَّ عدَّ الفرار مِنَ الزَّحف مِنَ الكبائر المراد: تغليظ أمره وتأكيد منعه وشدَّة العقاب عليه ممَّا ليس في غيره.
          قال: وليس المراد أنَّ في المعاصي صغيرًا _على ما يقوله المعتزلة_ لأنَّ معاصيَه كلَّها كبائرُ إلَّا أنَّ بعضها أكثر عقابًا مِنْ بعضٍ وأشدُّ إثمًا، كما أنَّ طاعته كلَّها يُثاب عليها، وفيها ما ثوابُه أكثر مِنْ بعضٍ، وسيأتي الكلام على الكبائر في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، ومقصودُه هنا أنَّ أكل مالِ اليتيم مِنَ الكبائر كما نصَّ عليه في الحديث، وقد أخبر الله _تعالى_ أنَّ مَنْ أكلَه ظلمًا أنَّه يأكل النَّار ويصلى السَّعير، وهو عند أهل السُّنَّة إن أنفذ الله عليه الوعيد لأنَّه عندهم تحت المشيئة كما سلف.
          قال سعيد بن جُبَيْرٍ: لمَّا نزلت: {إِنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] أمسك النَّاس فلم يخالطوا اليتامى في طعامهم حتَّى نزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220]، قال: وليس في القرآن {وَيَسْأَلُونَكَ} إلَّا ثلاثَ عشرةَ مسألةً / مِنْ قِلَّة مَنْ كانوا يسألونه، وقد بسطتُ الخلاف في حدِّ الصَّغيرة والكبيرة في «شرح المنهاج» وقلَّ مَا سلم منها، والإصرار على الصَّغائر أن يتكرَّر منه تكرُّرًا يُشعر بقلَّة مبالاته إشعارَ مرتكب الكبيرة، ومثله إجماع صغائرَ مختلفة الأنواع بحيث يُشعِر مجموعُها بما يُشعِر به أصغر الكبائر، وقيل: إنَّه استمرار العزم على المعاودة أو استدامة الفعل بحيث يدخل فيه ذنبُه في حيِّز ما يُطلق عليه الوصف لصيرورته كبيرًا عظيمًا، وليس لزمنه وعدِّه حصرٌ، وقيل: إنَّه يمضي عليه وقت صلاةٍ وما استغفر مِنْ ذلك الذَّنب.
          قال ابن مسعودٍ: الكبائر جميع ما نهى الله عنه مِنْ أوَّل سورة النِّساء إلى قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء:31] وعن الحسن: هي كلُّ ذنبٍ ختمه الله بنارٍ أو لعنةٍ أو غضبٍ، وعن ابن عبَّاسٍ: كلُّ ما نهى الله عنه فهو كبيرةٌ، وبه قال الأستاذ أبو إسحاقَ وغيره، ونقله القاضي عياضٌ عن المحقِّقين لأنَّ كلَّ مخالفةٍ فهي بالنِّسبة إلى جلاله كبيرةٌ، قال القُرْطُبيُّ: وما أظنُّه صحيحًا عنه _يعني ابن عبَّاسٍ_ مِنْ عدم التَّفرقة بين المنهيَّات، فإنَّه قد فرَّق بينهما في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ} [النساء:31] و{الَّذِيْنَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] فجعل مِنَ المنهيَّات كبائرَ وصغائرَ، وفرَّق بينهما في الحكم لمَّا جعل تكفير السَّيِّئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر، واستثنى اللَّممَ مِنَ الكبائر والفواحش، فالرِّواية عنه لا تصحُّ أو ضعيفةٌ.