التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا وقف أرضًا ولم يبين الحدود فهو جائز

          ░26▒ (باب: إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقة).
          2769- ذَكر فيه حديث أنسٍ في قصة بَيْرُحَاءَ.
          وفيه: (بَخْ بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ أَوْ رَايِحٌ) شكَّ ابن مَسلَمة، وقال في آخره: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى: عَنْ مَالِكٍ: رَايِحٌ).
          2770- وحديثَ ابن عبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللهِ _صلعم_: (إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ لِي مِخْرَافًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا)، وقد سلف أيضًا [خ¦2756].
          وقوله: (مِخْرَافًا) قال الدِّمْياطيُّ: صوابه مَخْرَفًا، وكذا يرويه مالكٌ في «موطَّآته» مِنْ حديث أبي قَتَادة، والْمِخْرَفُ _بكسر الميم_ ما يُجتنى فيه الثِّمار، قال الْمُهَلَّبُ: إذا لم يبيِّن الحدود في الوقف فإنَّما يجوز إذا كان للأرض اسمٌ معلومٌ يقع عليها ويتعيَّن به كما كان بَيْرُحاء، ولمَّا كان المخراف معيَّنًا عند مَنْ أشهده، وعلى هذا الوجه تصحُّ التَّرجمة، وأمَّا إذا لم يكن الوقف معيَّنًا وكانت له مخاريفُ وأموالٌ كثيرةٌ فلا يجوز الوقف إلَّا بالتَّحديد والتَّعيين، ولا خلاف في هذا، وقال ابن المنيِّر: الوقف لازمٌ بالنِّيَّةِ واللَّفظِ المشار به إلى لمقصود فقد يتلَّفظ باسمه العَلَمِ وبحدوده، وقد يتلَّفظ باسمه المتواطئ خاصَّةً، وقد يَذكر العَلَمَ ولا يذكر المحدود به.
          والمخراف: الحائط، وقد ذَكره منكرًا متواطئًا، لكنَّه قصد مكانًا أشار إليه مطابقًا لنيَّته، وكلاهما لازمٌ، والتَّرجمة مطابقةٌ، ووهمَ المهلَّب في قوله: لا خلاف في هذا، بلْ لا خلاف فيما أورده البُخاريُّ في أنَّه إنَّما يُفرَض لجواز الوقف، وقد ثبت أنَّ الوقف عَلى هذه الصُّورة لازمٌ له.
          قال ابن بَطَّالٍ: وفيه أنَّ لفظ الصَّدَقة تُخرج الشَّيءَ المتصدَّق به عن ملك الَّذي يملكه قبل أن يتصدَّق ولا رجوعَ له فيه، وهو حجَّةٌ لمالكٍ في إجازته للموهوب له وللمتصدَّق عليه المطالبةَ بالصَّدَقة وإن لم يحزها حتَّى يحوزها، وتصحُّ له ما دام المتصدِّق والواهب حيًّا، بخلاف مَا ذهب إليه الكُوفيُّون والشَّافعيُّ أنَّ اللَّفظ بالصَّدَقة والهبة لا يوجب شيئًا لمعيَّنٍ وغيره حتَّى يُقبض، وليس للموهوب له ولا للمتصدَّق عليه المطالبةُ بها على ما سلف في كتاب الهبات [خ¦2598].
          وفي هذا الحديث دليلٌ أنَّ الكلام بها قد أوجب حكمًا فلَه المطالبة للمعيَّن على ما قاله مالكٌ لقوله: وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ يَا رَسُولَ اللهِ، فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، فلم يجز لأبي طلحة الرُّجوع فيها بعد قوله: إِنَّها صَدَقَةٌ يَا رَسُولَ اللهِ؛ لأنَّه قد صحَّ إخراجُه لها عن ملكه بهذا اللَّفظ إلى مَنْ يجوز له أخذُها.
          وفيه أنَّ مَنْ أخرج شيئًا مِنْ ماله لله ولم يملِّكه أحدًا، فجائزٌ أن يضعَه حيث أراه الله مِنْ سُبُل الخير، على ما تقدَّم قريبًا في باب: إذا وقف شيئًا ولم يدفعْه إلى غيره فهو جائزٌ [خ¦55/13-4308]، وأنَّه يجوز أن يشاور فيه مَنْ يثق برأيه، وليس لذلك وجهٌ معلومٌ لا يتعدَّى _كما قال بعض النَّاس_ معنى قول الرَّجل: لله وفي سبيل الله كذا دون كذا، ألا ترى أنَّ الصَّدَقة الموقوفة رَجَعت إلى قرابة أبي طلحة، ولو سَبَّلها في وجهٍ مِنَ الوجوه لم تُصرف إلى غيره.
          وذهب مالكٌ والشَّافعيُّ إلى أنَّ مَنْ حبَّس دارًا على قومٍ معيَّنين أو تصدَّق عليهم بصدقةٍ ولم يذكر أعقابهم، أو ذكر ولم يجعل نقدَها بعدهم مرجعًا إلى المساكين أو إلى مَنْ لا يعدم وجوده مِنْ وجوه البرِّ فمات المحبَّس عليهم وانقرضوا، أنَّها لا ترجع إلى الَّذي حبَّسها أبدًا، ورجع حبسًا على أقرب النَّاس بالمُحبِّس يوم رجع لا يوم حبَّس، ألا ترى أنَّ أبا طلحة جعل حائطه ذلك صدقةً لله _تعالى_ ولم يذكر وجهًا مِنَ الوجوه الَّتي تُوضع فيه الصَّدَقة أمره الشَّارع أن يجعلها في أقاربه، وكذلك كلُّ صدقةٍ لا يُذكر لها مَرجعٌ تُصْرف على أقاربه للتَّصدُّق بهذا الحديث، وهذا عند مالكٍ فيما لم يُرد به صاحبُه حياة المتصدَّق عليه، فإذا أراد ذلك فهي عنده عُمْرى ترجع إلى صاحبها بعد انقراض المتصدَّق عليه.
          ولمالكٍ فيها قول ثانٍ أنَّه إذا حبَّس على قوم معيَّنين ولم يجعل لها مَرْجِعًا إلى المساكين أنَّها ترجِع ملكًا إلى رَبِّها كالعُمْرى، قيل لمالكٍ: فلو قال في صدقته: هي حبسٌ على فلان، هل تكون بذلك محبَّسةً؟ قال: لا لأنَّها لِمَنْ ليس بمجهولٍ، وقد حبَّسها على فلانٍ فهي عُمْرى لأنَّه أخبر أن تحبيسها غيرُ دائمٍ ولا ثابتٍ، وأنَّه إلى غايةٍ، ولم يختلف قوله: إذا قال: هي حبسُ صدقةٍ أنَّها لا ترجع إليه أبدًا، والألفاظ الَّتي ينقطع بها ملك الشَّيء عن ربِّه وَلا تعود إليه أبدًا عند مالكٍ وأصحابه أن يقول حبسُ صدقةٍ، أو حبسٌ عَلى أعقابٍ مجهولين مثل الفقراء والمساكين، أو في سبيل الله، فهذا كلُّه عندهم مؤبَّدٌ لا ترجع إلى صاحبها ملكًا أبدًا، وأمَّا إذا قال: حياة المحبَّس عليه، أو إلى أجلٍ مِنَ الآجال، فإنَّها ترجع إلى صاحبها ملكًا أو إلى ورثته وَهي كالعُمْرى والسُّكْنى.
          قال ابن المُنْذِرِ: واختلفوا في الرَّجل يأمر وصيَّه أن يضع ثلثه حيث أراه الله، فقالت طائفةٌ: يجعله في سبيل الخير ولا يأكله، هذا قول مالكٍ، وبه قال الشَّافعيُّ وزاد: ولا يعطيه وارثًا للميِّت لأنَّه إنَّما كان يجوز له منه / ما كان يجوز للميِّت، وقال أبو ثَورٍ: يجوز أن يعطيَه لنفسه أو لولده أو لِمَنْ شاء ويجعله لبعض ورثة الميِّت، وليستْ هذه وَصيَّةً للميِّت إنَّما هذا أمرٌ للوصيِّ أن يضعه حيث شاء، وهو قول الكُوفيِّين غير أنَّهم قالوا: ليس له أن يجعلها لأحدٍ مِنْ ورثة الميِّت، فإنْ جعله لبعضهم فهو باطلٌ مردودٌ عَلى جميع الورثة.
          وفيه أنَّ مَنْ تصدَّق بشيءٍ مِنْ ماله بعينه أنَّ ذلك يلزمه، وإن كان أكثر مِنْ ثلث ماله لأنَّه _◙_ لم يقل لأبي طَلحةَ: هو ثلث مالك؟ كما قال لأبي لُبَابة، وقال لسعدٍ: ((الثُّلُثُ والثُّلُثُ كثيرٌ)) والله أعلم.