التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: هل ينتفع الواقف بوقفه؟

          ░12▒ (بَابٌ: هَلْ يَنْتَفِعُ الوَاقِفُ بِوَقْفِهِ؟
          وَقَد اشْتَرَطَ عُمَرُ: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَقَدْ يَلِي الوَاقِفُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ _╡_ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ).
          2754- 2755- ثُمَّ ساق حديثَ أنسٍ وأبي هريرة: (ارْكَبْهَا وَيْلَكَ).
          وقد سلفا في الحجِّ [خ¦1689] [خ¦1690]، وما ذكره عن عمرَ أسلفه مسندًا [خ¦2313]، وذِكْرُه لاشتراط عمرَ لا حُجَّة فيه كما نبَّه عليه الدَّاوُديُّ لأنَّ عمرَ أخرجها عن يده ووَلِيَها غيرُه، فجعل لِمَنْ وَلِيَها أن يأكل على شرطه، وَلو اعتبر هذا بقوله _◙_: ((العَائِدُ في هِبَتِهِ وفي صَدَقَتِهِ كالعَائِدِ في قَيْئِهِ)) أو ((كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيئِهِ)) فإذا انتفع ببعض صدقته فقد عاد فيها، وإنِ اشترط في أصل عطيَّته أنْ ينتفع فلم تخرج عطيَّته عن يدِه فتُحاز عنه، ولا يقلُّ ما تصدَّق به بما يُنتفع به منها، فهي باقيةٌ على ملكه إذ لا يعلم الجزء الَّذي تصدَّق به، وقال ابن المُنيِّر: وجه المطابقة فيه أنَّ المخاطَب يدخل في خطابه، وهو أصلٌ مختلفٌ فيه، ومالكٌ في مثل هذا يحكم بالعرف حتَّى يخرج غير المخاطب أيضًا مِنَ العموم لقرينةٍ عرفيَّةٍ، كما إذا أوصى بمالٍ للمساكين وله أولادٌ فلم يقسم حتَّى افتقروا، ففيه قولُ ابن القاسم ومطرِّفٍ _يعني الاثنين_ وقال ابن التِّيْنِ: يحتمل، وقال ابن بَطَّالٍ: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه لأنَّه أخرجه لله _تعالى_ وقطعه عن ملكه، فانتفاعُه بشيءٍ منه رجوعٌ في صدقته، وقد نهى الشَّارع عن ذلك، قال: وإنَّما يجوز له الانتفاع به إنْ شَرَطَ ذلك في الوقف، أو أن يفتقر المحبِّس أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه.
          قال ابن القصَّار: مَنْ حبَّسَ دارًا أو سلاحًا أو عبدًا في سبيل الله فأنفذ ذلك في وجوهه زمانًا ثُمَّ أراد الانتفاع به مع النَّاس فإن كان مِنْ حاجة فلا بأس، وذكر ابن حَبيبٍ عن مالكٍ / قال: مَنْ حبَّس أصلًا تجري غلَّتُه على المساكين فإنَّ ولده يُعطون منه إذا افتقروا، كانوا يوم مات أو حبَّس فقراءَ أو أغنياءَ، غير أنَّهم لا يُعطَون جميع الغلَّة مخافة أن يَندرس الحَبْسُ، ولكن يبقى منه سهمُ المساكين ليبقى اسمُ الحبس، ويُكتب على الولد كتابٌ أنَّهم إنَّما يُعطَون منه ما أُعطوا على المسكنة وليس على حقٍّ لهم فيه دون المساكين.
          واختَلفوا إذا أوصى بشيءٍ للمساكين، فغفل عن قسمته حتَّى افتقر بعضُ ورثته، وكانوا يوم أوصى أغنياء أو مساكين فقال مطرِّفٌ: أرى أن يُعطَوا مِنْ ذلك على المسكنة، وهم أَولى مِنَ الأباعد، وقال ابن الماجِشُون: إنْ كانوا يومَ أوصى أغنياءَ ثُمَّ افتقروا أُعطوا منه، وإن كانوا مساكين لم يُعطَوا منه لأنَّه أوصى وهو يعرف حاجتهم، فكأنَّه أزاحهم عنه، وقال ابن القاسم: لا يعطَون منه شيئًا مساكين كانوا أو أغنياء يوم أوصى، قال: وقول مطرِّفٍ أشبهُ بدلائل السُّنَّة.
          وقوله: (وكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ).
          فإنَّما ينتفع مِنْ ذلك إذا لم يشترط ما لا مضرَّة فيه على مَنْ سَبَّل له الشَّيء، وإنَّما جاز ركوبُ البدنة الَّتي أخرجها لله _╡_ لأنَّه يركبها إلى موضع النَّحر، ولم يكن له غنًى عن سَوقها إليه ولم يركبها في منفعةٍ له، ألا ترى أنَّه لو كان رُكوبها مُهلِكًا لها لم يجزْ له ذلك كما لا يجوز له أكلُ شيءٍ مِنْ لحمها.
          وقوله: (يَلِي الوَاقِفُ أو غَيْرُهُ) فاختلف العلماء فيه، فذكر ابن الْمَوَّاز عن مالكٍ أنَّه إن شرط في حبسه أن يليَه لم يجز، وقاله ابن القاسم وأشهبُ، وقال ابن عبد الحَكم عن مالكٍ: إنْ جَعل الوقفَ بيد غيره يحوزه ويجمع غلَّته ويدفعها إلى الَّذي حبَّسه يلي تفرقته وعلى ذلك حَبَّس، أنَّ ذلك جائزٌ، وقال ابن كِنانة: مَنْ حبَّس ناقته في سبيل الله فلا ينتفع بشيءٍ منها، وله أن ينتفع بلبنها لقيامه عليها، فمَنْ أجاز للواقف أن يليَه فإنَّما يجيز له الأكلَ منه بسبب ولايته وعمله، كما كان يأكل الوصيُّ مال يتيمه بالمعروف مِنْ أجل ولايته وعمله، وإلى هذا المعنى أشار البُخاريُّ في الباب، ومَنْ لم يُجِزْ للواقف أن يليَ وقفه فإنَّما منع ذلك قطعًا للذَّريعة إلى الانفراد بِغَلَّته، فيكون ذلك رجوعًا فيه، وسيأتي اختلافُ السَّلف في الباب بعدُ، وعندنا إن شرط النَّظر لنفسه أو غيره اتُّبع وإلَّا فالنَّظر للقاضي.
          وحديث ركوب البَدنةِ سلف الكلامُ عليه في الحجِّ [خ¦1689]، ومشهورُ مذهب مالكٍ أنَّه لا يركبها إلَّا عند الضَّرورة إليه، وقال في «المبسوط»: لا بأس أن يركبها ركوبًا غير فادحٍ، ولا يركبها بالمحمل، ولا يحمل عليها زاده ولا شيئًا يتعبها به، وقال أحمدُ وإسحاقُ: يركبها ولم يذكرا ضرورةً، وفي «صحيح مسلم» تقييدُه بالاضطرار.
          واختُلف إذا استراح فقال ابن القاسم: لا أرى عليه أن ينزل، وخالفه ابن الجَلَّاب لأنَّه _◙_ قال له: (ارْكَبْهَا وَيْلَكَ) في الثَّانية أو الثَّالثة، وإنَّما استحسن النَّاس ألَّا يركبها حتَّى يحتاج إليها.
          وقوله: (وَيْلَكَ) هي كلمةٌ جرت على ألسنتهم، لا يريد الدُّعاء، وهي تُقال لِمَنْ وقع في هَلَكةٍ يستحقُّها، وللترحم عليه وإن كان لا يستحقُّها يُقال له: ويحك، وقد سلف.
          والحديث يَحتمل ذلك، وذلك أنَّه لمَّا ترك رخصةً سائغةً في الشَّرع وأمره بذلك مرَّاتٍ كان كالواقع فيما يستحقُّه مِنْ مكروهٍ، ويحتمل الثَّاني تحريجًا على مَا فعله لله أنْ يعود فيه أو في شيءٍ منه وهو مضطرٌّ إلى ركوبها، والأوَّل أَولى لموافقة رواية أبي هريرة له، وفي رواية أنسٍ شكٌّ، هل قال له ذلك في الثَّالثة أو الرَّابعة؟ وفي رواية أبي هريرة: في الثَّانية أو الثَّالثة.
          قال الدَّاوُديُّ: وليس في الحديث حجَّةٌ لما بوَّب له لأنَّ مُهْدِيَها إنَّما جعلها لله إذا بلغت محِلَّها وأبقى تملكه عليها مع مَا عليه فيها مِنَ الخِدمة مِنَ السَّوق والعلف، ألا ترى أنَّها إن كانت واجبةً أنَّ عليه بدلَها إذا عَطِبَت قبل محِلِّها قال: وإنَّما أمرَه الشَّارعُ بذلك لمشقَّة السَّفر، ولم يرَ له مركبًا غيرها.
          قال ابن التِّيْنِ: وقوله: إِنَّما جَعَلَهَا إِذَا بَلَغَتْ مَحِلَّها، فيه نظرٌ لأنَّها تجبُ بالتَّقليد والإشعار، ولا تُجزئ حتَّى تبلغ مَحِلَّها، ليس أنَّها تجزئ بالتَّقليد والإشعار، وإنَّما تجوز بشرط السَّلامة إلى أن تُنحر.