التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الوصية بالثلث

          ░3▒ (بَابُ: الوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ
          وَقَالَ الحَسَنُ: لا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ وَصيَّةٌ إِلَّا الثُّلُثَ، وَقَالَ اللهُ _تَعَالَى_: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة:49]).
          2743- ثُمَّ ذَكر حديثَ ابن عبَّاسٍ: (لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ).
          2744- وحديثَ سعدٍ المذكور قبله.
          ومعنى (غَضَّ) نقص، يُقال: غَضَضْتُ السِّقاءَ إذا نقصتُه، وقول سعدٍ: (ادْعُ اللهَ أَلَّا يَرَدَّنِي عَلَى عَقِبِيَّ) وفي رواية مالكٍ: أُخَلَّف بعد أصحابي؟ قيل: معناه بمكَّة، فتخلَّف لمرضه، وقيل: يعيش بعدهم.
          وقولُه في الحديث السَّالف: أوصي بمالي؟ قال: ((لَا))، قلت: فالشَّطر؟ قال: ((لَا)) احتجَّ به أهلُ الظَّاهر في أنَّ مَنْ أوصى بأكثرَ مِنْ ثلث ماله أنَّه لا يجوز وإنْ أجازته الورثةُ، لأنَّه لم يقل: إن أجازه ورثتُك جاز، وقام الإجماع على أنَّ الوَصيَّة بالثُّلث جائزةٌ، وأوصى الزُّبَيرُ بالثُّلث.
          واختَلف العلماء في القَدْر الَّذي يُستحبُّ الوَصيَّة به، هل هو الخُمس أو السُّدس أو بالرُّبع؟ فعن أبي بكرٍ أنَّه أوصى بالخُمس، وقال: إنَّ الله _تعالى_ رَضِيَ مِنْ غنائم المؤمنين بالخُمس، وقال مَعْمَرٌ عن قَتَادة: أوصى عمر بالرُّبع، وذكره البُخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ، حكاه ابن بَطَّالٍ، وقال إسحاقُ: السُّنَّة الرُّبع، مثل ابن عبَّاسٍ، ورُوي عن عليٍّ: لَأنْ أوصيَ بالخُمس أحبُّ إليَّ مِنَ الرُّبع، ولَأنْ أوصيَ بالرُّبع أحبُّ إليَّ مِنَ الثُّلث، واختار آخرون السُّدسَ.
          قال إبراهيمُ: كانوا يَكرهون أن يُوصوا بمثلِ نصيبِ أحدِ الورثةِ حتَّى يكونَ أقلَّ، وكان السُّدسُ أحبَّ إليهم مِنَ الثُّلث، واختار آخرون العُشر، رُوي في حديث سعدِ بن أبي وقَّاصٍ أنَّه قال: ((أَوْصِ بِعُشْرِ مَالِكَ)) فلم يزل يُناقصني وأناقصه حتَّى قال: ((أَوْصِ بِالثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)) فجرت سُنَّةً يأخذ بها النَّاسُ إلى اليوم.
          قال أبو عبد الرَّحمن السُّلَميُّ الرَّاوي عن سعدٍ: نحن ننتقص مِنَ الثُّلث لقول رسول الله _صلعم_: ((وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)) واختار آخرون لِمَنْ كان ماله قليلًا وله وارثٌ تَرْكَ الوَصيَّةِ، رُوي ذلك عن عليٍّ وابن عبَّاسٍ وعائشةَ على مَا سلف، وقال رجلٌ للرَّبيع بن خُثَيْمٍ: أوصِ لي بمصحفك، فنظر إليه ابنُه وقرأ: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [الأنفال:75]، وقام الإجماع مِنَ الفقهاء أنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يُوْصيَ بأكثرَ مِنَ الثُّلث، إلَّا أبا حَنِيفةَ وأصحابَه وشَرِيكَ بن عبد الله فقالوا: إنْ لم يترك الموصي ورثةً فجائزٌ له أن يُوْصِيَ بماله كلِّه، وقالوا: إنَّ الاقتصارَ على الثُّلث في الوَصيَّة إنَّما كان لأجل أن يدعَ ورثته أغنياء، ومَنْ لا وارثَ له فليس ممَّن عُني بالحديث، ورُوي هذا القولُ عن ابن مَسعودٍ، وبه قال عُبَيدة ومَسْروقٌ، وإليه ذهب إسحاقُ.
          وقال زيد بن ثابتٍ: لا يجوز لأحدٍ أن يوصيَ بأكثرَ مِنْ ثلثه وإنْ لم يكن له وارثٌ، وهو قولُ مالكٍ والأَوْزاعيِّ والحسنِ بن حَيٍّ والشَّافعيِّ، قال بعضُ المالكيَّة فيما حكاه ابنُ التِّيْنِ: إذا كان بيتُ المال في يدِ مَنْ يصرفه في وجوهه، واحتجُّوا بقوله: (الثُّلُثُ كَثِيرٌ) وبما رواه آدمُ بن أبي إياسٍ حدَّثنا عُقبة بن الأصمِّ حدَّثنا عطاءُ بن أبي رَباحٍ عن أبي هريرة مرفوعًا: ((إنَّ اللهَ جعلَ لَكُمْ ثُلثَ أموالِكُمْ عندَ الموتِ زيادةً في أَعْمَالِكُمْ)) وروى أبو اليمان حدَّثنا أبو بكر بن أبي مريمَ عن ضَمْرةَ بنِ حَبيبٍ عن أبي الدَّرْداءِ مرفوعًا: ((إنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلثِ أموالِكُم عندَ وفَاتِكُم)) ولم يخصَّ مَنْ كان له وارثٌ مِنْ غيره، وفي المسألة قولٌ شاذٌّ آخرُ وهو جوازها بالمال كلِّه وإن كان له وارثٌ، روى الوليد بن مسلمٍ عن الأَوْزاعيِّ قال: أخبرني هارونُ بن رئابٍ عن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاص قال: قال عمرُو بنُ العاص حين حضرتْه الوفاةُ: إنِّي قد أردتُ الوَصيَّة، فقلت له: أوصِ في مالك ومَالي، فدعا كاتبًا وأملى عليه، قال عبد الله: حتَّى قلتُ: ما أُراك إلَّا قد أتيت على مالِكَ ومالي، فلو دعوتَ إخوتي فاستحللتَهم، وَعلى هذا القولِ وقولِ أبي حَنِيفةَ ردَّ البُخاريُّ في هذا الباب وكذلك صدَّر بقول الحسن.
          ثُّمَ حكمُ الشَّارع أنَّ الثُّلثَ كثيرٌ هو الحكم بما أنزل الله، فمَنْ تجاوز ما حدَّه وزاد عليه فقد وقع في النَّهي وعصى إذا كان بالنَّهي عالمًا، قال الشَّافعيُّ: وقوله: (الثُّلُثُ كَثِيرٌ) يريد أنَّه غيرُ قليلٍ، وهذا أولى معانيه، ولو كرهه لقال: غُضَّ منه، وفي قول سعدٍ: لَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ إبطالُ قول مَنْ يقول بالرَّدِّ على الابنة لأنَّها لا تحيط بالميراث، وقد كان لسعدٍ عَصَبةٌ يرثونه إذ ذاك، ثُمَّ حدَث له أولادٌ كما أسلفنا.