التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الوقف للغني والفقير والضيف

          ░29▒ (بَابُ: الوَقْفِ لِلْغَنِيِّ وَالفَقِيرِ وَالضَّيْفِ)
          2772- 2773- ذكر فيه حديث ابن عمرَ: (أَنَّ عمرَ وَجَدَ مَالًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ _صلعم_ فَأَخْبَرَهُ، فقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَذِي القُرْبَى وَالضَّيْفِ).
          وذكر قبله باب: الوَقْفِ وكَيْفَ يُكْتَبُ؟ ثُمَّ ساق فيه الحديث المذكور، وأخَّرَه ابن بَطَّالٍ بعدَه، ولا شكَّ أنَّه ليس مِنْ شرط الوقف أنْ يكون للفقراء والمساكين خاصَّةً، ألا ترى أنَّ عمرَ شَرَطَ في وقفه معهما ذَا القربى والضَّيف وقد يكون فيهم أغنياءُ، وكذلك قال _◙_ لأبي طلحة: ((إِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ)) فجعلها لحسَّان وأُبيِّ بن كعبٍ ولم يكونوا فقراء، وَلم يحرِّم الله على الأغنياء مِنَ الصَّدقات إلَّا الزَّكاة وصدقة الفِطر خاصَّةً، وأحلَّ لهم الفيء والجزية وصدقاتِ التَّطوُّع كلَّها، فجائزٌ للواقف أن يجعل وقفه فيمن شاء مِنْ أصناف النَّاس أغنياءَ كانوا أو فقراءَ، قرباءَ كانوا أو بعداءَ له شرطٌ في ذلك وهَذا لا خلاف فيه.
          وحديثُ عمرَ هذا أصلٌ في إجازة الحبس والوقف، وهو قول أهل المدينة والبَصرة ومكَّة والشَّام والشَّعْبيِّ مِنْ أهل العراق، وبه قال أبو يوسفَ ومحمَّد بن الحسن والشَّافعيُّ، وقال أبو حَنِيفةَ وزُفَرُ: الحبس باطلٌ ولا يخرج عَن ملك الَّذي وقفه ويرثه ورثتُه، وَلا يلزم الوقفُ عنده إلَّا أنْ يحكم به حاكمٌ ويُنْفِذَه، أو يوصيَ به بعد موته، وإذا أوصى به اعتُبر مِنَ الثُّلث، فإن حمله الثُّلث جاز وإلَّا رُدَّ.
          وحجَّة الجماعة قوله _◙_ لعمر: (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا) وهذا يقتضي أنَّ الشَّيء إذا حبس صار محبوسًا ممنوعًا منه لا يجوز الرُّجوع فيه لأنَّ هذا حقيقةُ الحبس ألا ترى أنَّ عمرَ لمَّا أراد التَّقرُّب بفعل ذلك رجَع في صفته إلى بيان الشَّارع، وذلك قوله: (فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّها لَا يُبَاعُ أصلُها وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ) وعند المخالف أنَّ هذا باطلٌ وليس في الشَّريعة صدقةٌ بهذه الصِّفة، وأيضًا فإنَّ المسألة إجماعٌ مِنَ الصَّحابة، وذلك أنَّ الخلفاء الأربعة وعائشةَ وفاطمةَ وعمرو بن العاص وابن الزُّبَير وجابرًا كلَّهم وقفوا الوقوفَ، وأوقافهم بمكَّة والمدينة معروفةٌ مشهورةٌ، واحتجاجُ أبي حَنِيفةَ بما رواه عطاءٌ عن ابن المسيِّب قال: سألت شُرَيحًا عَن رجلٍ جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر مِنْ ولده، وقالوا: لا حبس على فرائض الله، قالوا: فهذا شُرَيحٌ قاضي عمرَ وعثمانَ وعليٍّ والخلفاءِ الرَّاشدين حكم بذلك، وبما رواه ابن لَهِيعة عن أخيه عيسى عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ قال: سمعت رسول الله _صلعم_ يقول بعدما أُنزلت سورة النِّساء وأنزل الله فيها الفرائض: نَهَى عنِ الحَبْسِ، وفي لفظٍ: ((لا حَبْسَ بعدَ سُورةِ النِّسَاءِ)) فلا حجَّة فيه لضعفِ ابن لَهيعة ونُسِب إلى الاختلاط، وأخوه لا يُعرف، ووقع في العُقَيليِّ: عثمانُ بدل عيسى، ولا حجَّة أيضًا في قول شُرَيحٍ لأنَّ مَنْ تصدَّق بماله في صحَّة بدنه فقد زال ملكُه عنه، ومُحالٌ أن يُقال لِمَنْ زال ملكُه عنه قبل موته بزمانٍ: حبسه عن فرائض الله، ولو كان حابسًا عن فرائض الله مَنْ أزال ملكه عمَّا ملكه لم يجز لأحدٍ التَّصرُّف في ماله، وفي إجماع الأمَّة أنَّ ذلك ليس كذلك ما يُنبئ عن فساد تأويل مَنْ تأوَّل قول شُرَيحٍ إنَّه بمعنى إبطال الصَّدقات المحرَّمات، وثبت أنَّ الحبس عن فرائض الله إنَّما هو لما يملكه في حال موته، فبطل حبسُه كما قال شُرَيحٌ ويعود ميراثًا بين ورثته.
          مثاله: أن يحبِّس مالًا عن إنسانٍ بعينه فيجعل له غلَّته دون رقبته، أو على قومٍ بأعيانهم ولا يجعل لحبسه مرجعًا في السَّبيل الَّتي لا يفقد أهلها بحال، فإنَّ ذلك يكون حبسًا عن فرائض الله، وليس في حديث عطاءٍ أنَّ الرَّجل جعل لحبسه مَرجعًا بعد انقراض ورثته وَلا أخرجها مِنْ يده إلى مَنْ حبَّسها عليه ولا إلى ناقصٍ حتَّى يحدث به الوفاة، فكانت لا شكَّ أنَّ صاحبها هلك وهي في ملكه ولورثته بعد وفاته، فيكون هذا مِنَ الحبس عن فرائض الله إذ كانت الصَّدَقة لا تتمُّ لِمَنْ تصدَّق بها عليه إلَّا بقبضه / لها، وأمَّا الصَّدَقة الَّتي أمضاها المتصدِّق بها في حياته على مَا أذن الله به على لسان رسوله وعمل به الأئمَّة الرَّاشدون فليس مِنَ الحبس عن فرائض الله.
          ولا حجَّة في قولِ شُرَيحٍ وَلا أحدٍ مع مخالفة السُّنَّة وَعمل أئمَّة الصَّحابة الَّذين هم الحجَّة على جميع الخلق، ويُقال لِمَن احتجَّ بقول شُرَيحٍ في إبطال الصَّدقات المحرَّمات في الصِّحَّة: إنَّ شُرَيحًا لم يَقل: لا حبس عن فرائض الله في الصِّحَّة، فكيف وجب أن تكون صدقة المتصدِّق في حال الصِّحَّة مِنَ الحبس عن فرائض الله، ولا يجب أن تكون صدقته في مرضه الَّذي يموت فيه أو في وصيَّته مِنَ الحبس عن فرائض الله، ومعنى الصَّدقتين واحدٌ، وكما أنَّ في مرضه يتصدَّق في ثلثه كيف شاء كذا في صحَّته في كلِّ ماله، فلمَّا كان ما يفعله في ثلثه لا يدخل في (لَا حَبْسَ) كذا ما كان في صحَّته مِنْ بابٍ أولى.
          وحديث ابن عبَّاسٍ مؤوَّلٌ بأولى مِنْ تأويل شُرَيحٍ، وهو أنَّ المراد نفيُ ما كانت الجاهليَّة تفعله مِنَ السَّائبة ونحوها، فإنَّهم كانوا يحبسون ما يجعلونه كذلك، ولا يُورِّثونه أحدًا فلما نزلت آية المواريث قال: (لَا حَبْسَ) وهو مرويٌّ عن مالكٍ، فإن قلت: مقتضاه نفيُ كلِّ حبسٍ فُعل في الإسلام وكان في الجاهليَّة، قلتُ: هو نفيٌ لما كانوا يفعلونه وهم كفَّارٌ بعد الإسلام، فإن قلت: كيف تخرج مِنْ ملك أربابها لا إلى ملك مالكٍ؟ قلتُ: لا إنكار فيخرج عن ملك مالكه إلى المالك الحقيقيِّ، وهو الربُّ _جلَّ جلاله_ بدليل المسجد.
          قال الطَّحَاويُّ: وتأوَّله بعضُهم عَلى مَا كان مِنَ الأحباس منقطع بانقطاع مَا حُبس عليه وبموت مَنْ حُبس عليه، فيرجع جانبًا مِنَ الحبس.
          تنبيهاتٌ: أحدها: قوله: (وَجَدَ مَالًا بِخَيْبَرَ) المال هنا هُو الأرض المذكورة في أوَّله في الرِّواية الأخرى، وفي الباب بعده، وذكر الطَّحَاويُّ في كتابه «اختلاف العلماء» أنَّ المال كان مئة سهمٍ اشتراها فاستجمعها، وفي «المحلَّى» لابنِ حَزْمٍ: وتصدَّق بمئة وسْقٍ حبَّسها بوادي القُرى.
          ثانيها: فيه أنَّ خيبر قُسِّمت وأَخذ كلُّ أحدٍ ماله، والأنْفَس: الأجوَدُ، قال الدَّاوُديُّ: اشتقاقه أنَّه يأخذ بالأنفس مِنْ جلالته، قال: وفيه أنَّ مَفهوم الخطاب يجري مَجرى الخطاب لقوله: كيف تأمرني به؟
          ثالثها: الحبس المنع، وحَكى الدَّاوُديُّ عن الكوفيِّ وأصْحابه وشُريحٍ أنَّ الأحباس تُوَرَّث، وإنَّما يجوز ما قُبض في حياته، قال: وهم يقولون: يرجع في صدقته ما لم يقبض، والَّذي حكاه في «المعونة» عن الكوفيِّ أنَّه لا يزول الوقف عن اسم ملك مالكِه قُبضَ أو لم يُقبَض، ويرجع فيه بالبيع والهبة، ويورث عنه إلَّا أن يَحكم به حاكمٌ أو يكون الوقف مسجدًا أو سقايةً أو يوصي به فيكون في ثلثه، وأتى أبو يوسف البصرة فَذُكر له أمر الحبس فأُخْبِر بحديث ابن عمرَ في حبس والده عمرَ، وقيل له: أَيُّوب يرويه عن نافعٍ عن ابن عمرَ، قال: فمن يُحَدِّثنا به عن أَيُّوب؟ فحدَّثه ابن عُلَيَّة، فرجع وقال: هذا شيءٌ لم يكن عندنا.
          ورُوى عيسى بن أَبانَ أنَّ أبا يوسفَ لمَّا قدم بغداد مِنَ الكوفة كان على رأي أبي حَنِيفةَ في بيع الأوقاف، فلمَّا أُخْبِر بحديث ابن عَونٍ عن نافعٍ حديث عمرَ قال: هذا لا يسعُ أحدًا خلافُه ولو تناهى إلى أبي حَنِيفةَ لقال به ولما خالفه، وسمعتُ بَكَّارًا أيضًا يقول: قدم أبو يوسف البصرة وهو على مذهب أبي حَنِيفةَ في بيع الوقف، فجعل لا يرى أرضًا نفيسةً إلَّا وجدها وقفًا عَن الصَّحابة، ثُمَّ صار إلى المدينة فرأى بها أوقافًا كثيرةً عَن الصَّحابة وعن رسول الله _صلعم_ فدفع كلام أبي حَنِيفةَ.