التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تأويل قول الله تعالى {من بعد وصية يوصى بها أو دين}

          ░9▒ (بَابُ: تَأْوِيلِ قَوْلِ اللهِ _تعالى_:{مِنْ بَعْدِ وَصيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11].
          وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الوَصِيَّةِ، وقوله _تعالى_: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] فَأَدَاءُ الأَمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الوَصِيَّةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ _صلعم_: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَقَالَ ابْنُ عبَّاسٍ: لا يُوصِي العَبْدُ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ _صلعم_: العَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ).
          2750- ثُمَّ ذكر حديثَ حَكِيم بْن حِزَامٍ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ فَأَعْطَانِي...) إلى آخره. وسلف في الزَّكاة [خ¦1472].
          2751- وحديث ابن عمرَ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ...) بطوله.
          الشَّرح: ما احتجَّ به البُخاريُّ فيما ترجم عليه في تقديم الدَّين على الوَصيَّة هو قولُ جميع العلماء، وما ذكره مُعَلَّقًا أخرجه التِّرمِذيُّ وابن ماجَهْ، وللحاكم مِنْ حَديثِ عليٍّ _كرَّم الله وجَهه_ قال: إنَّكم تقرؤون هذه الآية: {مِنْ بَعْدِ وَصيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] وإنَّ رسول الله _صلعم_ قضى بالدَّين قبل الوَصيَّة، وفيه: الحارث الأعور، ويَعْضُدُه الإجماعُ على مقتضاه، وقال التِّرمِذيُّ: لا نعرفه إلَّا مِنْ حديث أبي إسحاق، وقَدْ تكلَّم النَّاس في الحارث، وقال ابن التِّيْنِ: إنَّه حديث لا يُثبِتُه العلماء بالنَّقل، والآية نزلت في عثمان بن طلحة، قَبَض النَّبيُّ _صلعم_ مفتاحَ الكعبة يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية فدفع إليه المفتاح، ذكرَه الواحديُّ في «أسبابه» عن مجاهدٍ.
          وحديثُ (لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى) هذا قدَّمه مسندًا، وما ذكره عن ابن عبَّاسٍ هو إجماعٌ كما قاله ابنُ التِّيْنِ، وقد أخرجه ابنُ أبي شَيبة عن أبي الأحوص عن شَبِيْب بن غَرْقَدة عن جُنْدُبٍ قال: سأل طَهْمَانُ ابنَ عبَّاسٍ: أيوصي العبد؟ قال: لا، إلَّا أن يأذن له أهلُه.
          وحديثُ (العبدُ رَاعٍ) قدَّمه مُسْنَدًا في الصَّلاة مِنْ حديث ابن عمرَ.
          وحديثُ ابن عمرَ أخرجه (...).
          إذا تقرَّر ذلك فوجهُ إدخال / حديث حكيمٍ هنا أنَّه جعله مِنْ باب الدُّيون، وإن لم يعرفوا بها لأنَّه لمَّا رآه قد سمَّاه له، ورأى الاستحقاق مِنْ حَكيمٍ متوجِّهًا إلى المال إنْ رضيه وقبله أجراه مجرى مستحقَّات الدُّيون، وقال ابن المنيِّر: دخوله هنا مِنْ وجهين: أحدهما: زهدُه في العطيَّة وجعل يدَ آخذها السُّفلى تنفيرًا عن قَبولها، ولم يَرِد مثلُ هذا في تقاضي الدَّين، فالحاصل أنَّ قابض الوَصيَّة يدُه السُّفلى، وقابض الدَّين استيفاءً لحقِّه إمَّا أن تكون يده العليا لأنَّه المتفضِّل، وإمَّا أن تكون يده السُّفلى هنا أقل حالتيه، فتحقَّق تقديم الدَّين على الوَصيَّة بذلك.
          ثانيهما: ذكره الْمُهَلَّبُ، وهو أنَّ عمرَ اجتهد أنْ يوفيَه حقَّه في بيت المال، وبالغ في خلاصه مِنْ عُهْدته هذا وليس دينًا، ولكنَّ فيه شِبْهَ الدَّين لكونه حقًّا في الجملة، وهذا ما قدَّمته، قال: والوجه الأوَّل أقوى مِنْ مقصود البُخاريِّ.
          وأمَّا حديث ابن عمرَ فوجهُه هنا _والله أعلم_ أنَّه لمَّا كان العبدُ متبرِّعًا في مال سيِّده صحَّ أنَّ المال للسَّيد وأنَّ العبد لا ملك له فيه، فلم تجزْ وَصيَّة العبد بغير إذن سيِّده كما قال ابن عبَّاسٍ، وأشبه في المعنى الموصيَ الَّذي عليه الدَّينُ فلم تنفَذ وصيَّته إلَّا بعد قضاءِ دَينه، لأنَّ المالَ الَّذي بيدِه إنَّما هو لصاحب الدَّين ومسترعًى فيه ومسؤولٌ عن رعيَّته، فلم يجزْ له تفويتُه على ربِّه بوَصيَّةٍ وغيرها إلَّا أنْ تبقى منه بعد أداء الدَّين بقيَّةٌ، كما أنَّ العبد مسترعًى في مال سيِّده ولا يجوز له تفويتُه على سيِّده إلا بإذنه، فاتَّفقا في الحكم لاتفاقهما في المعنى.
          قال ابن المنيِّر: والحديث أصلٌ يندرج تحته مقصود التَّرجمة لأنَّه لمَّا تَعارَض في ماله حقُّه وحقُّ السَّيد قُدِّم الأقوى وهو حقُّ السَّيد، وجُعل السَّيد مسؤولًا عنه مؤاخذًا بحفظه وكذلك حقُّ الدَّين لمَّا عارضه حقُّ الوَصيَّة والدَّين واجبٌ والوَصيَّة تطوُّعٌ وجب تقديمه.
          فائدةٌ: البداءة في الآية بالوَصيَّة قبل الدَّين لا يقضي أن يكون مبدأه على الدَّين، وإنَّما مقتضى الكلامِ أن يكون الدَّين والوَصيَّة يخرجان قبل قسمة الميراث لأنَّه لمَّا قيل: مِنْ بعد كذا وكذا عُلِم أنَّه مِنْ بعد هذين الصِّنفين، قال _تعالى_: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24] أي لا تطعْ أحدًا مِنْ هذين الصِّنفين، وتقول: مررت بفلانٍ وفلانٍ، ولا توجب ترتيبًا بينهما، قال _تعالى_: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] فَأُمِرَت بذلك كلِّه، ولم يقتضِ أن يكون السُّجود قبل الرُّكوع، ولو قلتَ: مررتُ بفلانٍ ففلان أو بفلان ثُمَّ فلان اقتضى أن يكون الَّذي بدأ بتسميته هو الَّذي مرَّ به أولًا، فلمَّا قال _تعالى_: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] اقتضى أن تكون القسمة بعدهما، لا تبدية لأحدهما على الآخر، نعم فُهِم بالسُّنَّةِ الَّتي مضتْ والمعنى أنَّ الدَّين قبلها لأنَّ الوَصيَّة إنَّما هي تطوُّعٌ يَتطوَّع به الموصي، وأداء الدَّين فرضٌ عليه، والفرض أولى مِنَ التَّطوُّع.