التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت

          ░31▒ (بَابُ: وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالكُرَاعِ وَالعُرُوضِ وَالصَّامِتِ.
          وَقَالَ الزُّهْريُّ فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدَفَعَهَا إِلَى غُلامٍ لَهُ تَاجِرٍ يَتَّجِرُ بِهَا، وَجَعَلَ رِبْحَهُ صَدَقَةً لِلْمَسَاكِينِ وَالأقْرَبِينَ، هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ رِبْحِ الألْفِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ رِبْحَهَا صَدَقَةً فِي المَسَاكِينِ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا).
          2775- ثُمَّ ذكر حديثَ ابن عمرَ عن عمرَ في قصَّة حمل الفرس وأُخْبِر أنَّها تُباع فقال له _◙_: (لا تَبْتَعْهَا، وَلا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ) وقد سلف [خ¦2636].
          واختَلف العلماءُ في وقفِ الحيوانِ والعروضِ والدَّنانير والدَّراهم، فأجاز ذلك مالكٌ إلَّا أنَّه كَره وقف الحيوان أن يكون على العقب، فإن وقع أمضاه، وأجاز ابنُ القاسمِ وأشهبُ وقف الثِّياب، وقال ابن التِّيْنِ: مشهورُ مذهبِ مالكٍ جوازُه في الحيوانِ والعروضِ، ويجوز في الرَّيع قولًا واحدًا عنده، وأجاز الشَّافعيُّ ومحمَّد بن الحسن وقف الحيوان، وقال أبو حَنِيفةَ وأبو يوسف: لا يجوز وقفُ الحيوان والعُروض والدَّراهم والدَّنانير وقالوا: إنَّ هذه أعيانٌ لا تبقى عَلى حالةٍ أبدَ الدَّهر فلا يجوز وقفُها، وأيضًا فإنَّ الوقف يصحُّ على وجه التَّأبيد، فمَنْ أجازه فيما لا يتأبَّد صار كمن وقف وقفًا مؤقَّتًا يومًا أو شهرًا أو سَنةً، ولا يجوز، وَلو صحَّ الوقف فيما لا يتأبَّد لصحَّ في جميع الأثمان وسائر مَا يملك كالهِبة والوَصيَّة، وحكاه الطَّحَاويُّ في «اختلاف العلماء» عن زُفرَ والحسن بن زيادٍ أيضًا، قال: وَعلى هذا عامَّة علماء أهل الكوفة، وقال ابن القَصَّار: الوقف المؤقَّت يجوز عند مالكٍ ويجوز في جميع الأنواع ممَّا لا يبقى غالبًا.
          وجهُ مَنْ أجاز وقف الحيوان والسِّلاح حديثُ عمرَ في الفرس الَّذي حمل عليها في سبيل الله، وقوله في حقِّ خالدٍ: ((إِنَّه قَد احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وأَعْتَادَهُ فِي سَبيلِ اللهِ)) والأعْتَاد: الخيل، فأخبر أنَّه حبَّس ذلك في سبيل الله، ولفظُ حبَّس يقتضي أن يكون محبوسًا عن جميع المَنافع إلَّا على الوجه الَّذي حُبس فيه، ولو لم يصحَّ تحبيس ذلك لم يكونوا ظالمين فيما طلبوا مِنْ ذلك، ولكان يبطله.
          فإن قلت: لا حجَّة في حديث عمرَ عَلى جواز وقف الحيوان لأنَّ هذا الفرس الَّذي حمل عليه عمرُ في سبيل الله إنَّما كان هبةً منه له فلذلك جاز له بيعُه، ولو كان حبسًا لم يجزْ بيعه، ولذلك قال الشَّافعيُّ وابن الماجِشُون: لا يجوز بيع الفرس الحبسِ ويترك أبدًا.
          قلتُ: ربيعة ومالكٌ أجازا بيعه إذا لم يبق فيه قوَّةٌ للغزو، ويُجعل ثمنُه في آخر، قال ابن القاسم: فإن لم يبلغ شُورِك به فيه، وكذلك الثِّياب إذا لم يبقَ فيها منفعةٌ بِيْعَتْ واشْتُري بثمنها ما يُنتفع به، فإن لم يُمكن تصدَّق في سبيل الله.
          وأمَّا صحَّة الحُجَّة بحديث عمر في الباب فلا يخلو أن يكون هذا الفرسُ الَّذي حمل عليه عمرُ حبسًا أو هبةً وتمليكًا، وعليهما فقد جاز للرَّجل بيعُه ولم يأمره بفسخه حين بلوغه، ونهيُه عن شرائه للتَّنزيه، إذ لو كان حرامًا لَبَيَّنَه، وقَد سلف شيءٌ مِنْ ذلك في باب: إذا حمل على فرسٍ في سبيل الله فهو كالعُمْرى والصَّدَقة في آخر أبواب المنحة والهبات [خ¦2636].
          واختلفوا في وقف الدَّراهم والدَّنانير على مَنْ تكون زكاتُها؟ فقال مالكٌ في «المدوَّنة»: لو أنَّ رجلًا حبَّس مئة دينارٍ موقوفةً يسلِّفها النَّاس ويردُّونها، هل ترى فيها زكاةً؟ قال: نعم، الزَّكاة فيها قائمةٌ كلَّ عامٍ، وَخالف في ذلك ابْن القاسم فقال في رجلٍ قال لرجلٍ: هذه المئة دينارٍ تتَّجر فيها ولك ربحُها وليس عليك فيها ضمانٌ، فليس على الَّذي في يدِه أنْ يزكِّيَها ولا على الَّذي هي له زكاتها حتَّى يقبضها، فيزكِّيها زكاةً واحدةً.
          قال سُحْنون: أراها كالسَّلَف وعليه ضمانُها إن تَلِفت، بمنزلة الرَّجل يحبِّس المال على الرَّجل فينتقص أنَّه ضامنٌ له.
          وأمَّا قولُ الزُّهْريِّ السَّالفُ في الرَّجل يجعل ألف دينارٍ في سبيل الله أنَّه لا يأكل مِنْ ربحها فإنَّما ذلك إذا كان في غنًى عنها، وأمَّا إن احتاج وافتقر فمباحٌ له الأكلُ منها ويكون كأحدِ المساكين.
          قال ابن حَبيبٍ: وهذا مالكٌ وجميع أصحابنا يقولون: إنَّه يُنفَق على ولد الرَّجل وولد ولده مِنْ حَبْسه إذا احتاجوا، وإنْ لم يكن لهم في ذلك اسمًا فإذا استغنَوا فلا حقَّ لهم، واستحسن مالكٌ ألَّا يرغبوها إذا احتاجوا، وأن يكون لهم سهمٌ منها جارٍ على الفقراء لئلَّا يدرس، وقاله ربيعة ويحيى بن سعيدٍ.
          تنبيهاتٌ: أحدها: قال الإسماعيليُّ في التَّرجمة: وإيراده الحديث إذا كان أصل الوقف مَا ذكره مِنْ أرض عمرَ، وأنَّها لا تُباع إلى آخره، فكيف جاز أن يُباع فرسُ عمرَ الموقوفُ في سبيل الله؟ وكيف لا يُنهى بائعُه منه أو يُمنع مِنْ بيعه؟ فلعلَّ معناه أنَّ عمرَ كان جعله صدقةً يعطيها مَنْ يرى رسولُ الله _صلعم_ فأعطاها رجلًا فباعها.
          قال: ومَا ذكره في وقف الصَّامت خلافُ مَا رواه في أصل الوقف لأنَّ الوقف الَّذي أذن فيه ما حُبِّس أصلُه، ولا يُنتَفع بالصَّامت إلَّا بأن يخرج الصَّامت الموقوف بعينه إلى شيءٍ غيره، فليس هذا بحبس الأصل وإنَّما يقع الحبس على مَا يعود النَّفع مِنْ فضله مِنْ ثمرٍ أو غلَّةٍ أو ما يُرتفق به والعين قائمةٌ محبوسةٌ / على أصلها لا على ما يُنتفع به إلَّا بإفادة عينه.
          ثانيها: الكُراع: اسمٌ لجميع الخيل، وأنَّث الفرس هنا بقوله: (أَعْطَاهَا رَسُولَ اللهِ _صلعم_ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا).
          ثالثها: قال ابنُ حَزْمٍ: أبطلت طائفةٌ الحبس جملةً، وهو قول شُرَيحٍ، ورُوي عن أبي حَنِيفةَ، وطائفةٌ قالت: لا حَبس إلَّا في سلاحٍ أو كراعٍ، رُوي ذلك عن عليٍّ وابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ، ولم يصحَّ عن واحدٍ منهم.
          أمَّا مَنْ أبطله جملةً فإنَّ عبد الملك بن حَبيبٍ روى عن الواقِديِّ أنَّه قال: ما مِنْ أحدٍ مِنَ الصَّحابة إلَّا وقد وقف وقفًا وحبَّس أرضًا إلَّا عبد الرَّحمن بن عوفٍ فإنَّه كان يكره الحبس، ثُمَّ ذَكر حديث شُرَيحٍ وابن لَهيْعة السَّالفين، وذكر حديث شُرَيحٍ مِنْ طريق ابن عُيَينةَ عن عطاء بن السَّائب عنه وردَّه بالانقطاع، وقال في حديث ابن لَهيْعة: إنَّه موضوعٌ، ولا خير في ابن لَهيْعة، وأخوه مثله، وبيان وضعه أنَّ سورة النِّساء نزلت أو بعضُها بعد أُحُدٍ، وحبسُ الصَّحابة أذِنَ فيه رسول الله _صلعم_ بعد خيبرَ، تواتر ذلك عنه، فلو صحَّ خبر ابن لَهِيعة لكان منسوخًا.
          واحتجُّوا أيضًا لما رُوِّيناه مِنْ طريق ابن وَهْبٍ: حدَّثنا ابن عُيَينةَ، عن عمرو بن دينارٍ ومحمَّدٍ وعبد الله ابني أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حَزْمٍ، كلُّهم عن أبي بكر بن محمَّدٍ قال: إنَّ عبد الله بن زيدٍ قال: يا رسول الله، إنَّ حائطي هذا صدقةٌ _وفي لفظٍ موقوفةٌ_ وهو إلى الله ورسوله، فجاء أبواه فقالا: يا رسول الله، كان قِوامُ عيشه منه فردَّه رسول الله صلعم، وهذا حديثٌ منقطعٌ لأنَّ أبا بكرٍ لم يلقَ عبد الله بن زيدٍ قطُّ، وأيضًا فليس لأحدٍ أن يتصدَّق بقِوام عيشه، بل هو منسوخٌ إنْ فعله، قال: ولفظ: موقوفة، انفرد بها مَنْ لا خير فيه.
          قال: وقالوا: لمَّا كانت الصَّدقات لا تجوز إلَّا حتى تُحَاز، وكان الحبس لا مالكَ له وجب أن يبطل.
          قال: ثُمَّ تناقضوا فأجازوا تحبيس المسجد والمقبرة وإخراجهما إلى غير مالكٍ، وأجازوا الحبس بعد الموت في أشهر أقوالهم، قال: ومِنَ العجائب احتجاجُهم أنَّه _◙_ ساق الهدي بالحُدَيبيَة وقلَّدها، وهذا يقتضي إيجابه لها ثُمَّ صرف هذا عمَّا أوجبها له وجعلها للإحصار، وكذلك أبدلها عامًا ثانيًا، ومَا اقتضى ذلك إيجابَه قطُّ لأنَّه لم ينصَّ على أنَّه صار التَّطوُّع بذلك واجبًا بل أباح ركوب البدنة المقلَّدة.
          وقولهم: إنَّه أبدله مِنْ قابلٍ فهذا لم يصحَّ قطُّ، ونقول لهم: أنتم تقولون: له أن يحبس ثُمَّ يفسخ وقِستموه على الهدي المذكور، فهل له الرُّجوع في الهدي بعد أن يوجبَه فيبيعه؟ قال: وجائزٌ أن يحبِّس على نفسه وعلى مَنْ شاء لقوله _◙_: ((ابْدَأْ بِنَفْسِكِ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا)) وهو قول أبي يوسفَ.