التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا وصية لوارث

          ░6▒ (بَابٌ: لا وَصيَّة لِوَارِثٍ)
          2747- ذكر فيه عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ قالَ: (كَانَ المَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الوَصيَّة لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ).
          الشَّرح: لفظ التَّرجمة حديثٌ مرويٌّ مِنْ طُرقٍ:
          أحدها: مِنْ طريق أبي أُمَامة الباهِليِّ قال: سمعتُ رسولَ الله _صلعم_ يقول في خُطبته عامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصيَّة لِوَارِثٍ)) أخرجه التِّرمِذيُّ مِنْ حديث إسماعيل بن عَيَّاشٍ عن شُرَحْبِيلَ بنِ مسلمٍ عن أبي أُمامة به، ثُمَّ قال: حسنٌ، وفي بعضها: صحيحٌ، فإن صحَّت فكأنَّه صحَّح رواية إسماعيل عن الشَّاميِّين، وهو رأيُ أحمدَ والبُخاريِّ وغيرهما، وأخرجه أبو داودَ وابنُ ماجَهْ أيضًا.
          ثانيها: مِنْ طريق عمرِو بن خارِجةَ مرفوعًا مثله، أخرجه التِّرمِذيُّ أيضًا مِنْ حديث شَهْر بن حَوْشَبٍ عن عبد الرَّحمن بن غَنْمٍ عن عمرٍو به، ثُمَّ قال: حسنٌ صحيحٌ، وأخرجه النَّسَائيُّ وابن ماجَهْ.
          ثالثها: مِنْ طريق أنسٍ، أخرجه ابن ماجَهْ مِنْ حديث سعيد بن أبي سعيدٍ عنه به.
          رابعها: مِنْ طريق جابرٍ، أخرجه الدَّارَقُطْنيُّ وقال: الصَّواب إرساله.
          خامسها: مِنْ طريق ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((لَا تَجُوزُ الوَصيَّة لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ)) رواه الدَّارَقُطْنيُّ مِنْ حديث حجَّاجٍ عن ابن جُرَيْجٍ عن عطاءٍ عنه به، زاد ابن حَزْمٍ مِنْ طريقٍ مرسلةٍ: ((فإنْ أَجَازُوا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا)).
          سادسها: عن عمرو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه يرفعه: ((إنَّ اللهَ قَسَمَ لكلِّ إنسانٍ نَصِيْبَهُ مِنَ الميراثِ، فَلَا يجوزُ لوارثٍ إلَّا مِنَ الثُّلثِ)) وذلك بِمِنًى.
          سابعها: عن أبَان بن تَغْلِبَ عن جعفر بن محمَّدٍ عن أبيه: قال رسول الله _صلعم_: ((لا وَصيَّة لوارثٍ، ولا إقرارَ بدَينٍ)) أخرجهما الدَّارَقُطْنيُّ، ولابن أبي شَيبة مِنْ حديث أبي إسحاقَ عن الحارث عن عليٍّ: ((ليسَ لوارثٍ وَصيَّةٌ)).
          وأمَّا حديث ابن عبَّاسٍ فشيخ البُخاريِّ فيه محمَّدُ بن يوسفَ، وهو الفِرْيابيُّ كما بيَّنه أبو نُعَيْمٍ الحافظ.
          إذا عرفت ذلك فقام الإجماعُ كما حكاه ابن بَطَّالٍ على أنَّ الوَصيَّة للوارث لا تجوز، قال ابن المُنْذِرِ: وقد رُوي عن النَّبيِّ _صلعم_ بمثل ما اتُّفق عليه مِنْ ذلك، فساق حديثَ أبي أُمَامة مِنْ طريق سعيد بن منصورٍ عن إسماعيل، ثُمَّ ساقه مِنْ حديث قَتَادة عن شَهْرٍ، وقال: عمرو بن جاريةَ، وصوابُه خارجةُ كما أسلفناه.
          واختلفوا إذا أوصى لبعضِ ورثتِه فأجازه بعضُهم في حياته ثُمَّ بدا لهم بعد وفاته، فقالت طائفةٌ: ذلك جائزٌ عليهم، وليس لهم الرُّجوع فيه، هذا قول عطاءٍ والحسن وابن أبي ليلى والزُّهْريِّ وربيعةَ والأَوْزاعيِّ، وقالت طائفةٌ: لهم الرُّجوع في ذلك إن أحبُّوا، هذا قول ابن مسعودٍ وشُرَيحٍ والحكمِ وطاوسٍ، وهو قول الثَّوريِّ وأبي حَنِيفةَ والشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي ثَورٍ، وقال مالكٌ: إذا أَذِنُوا له في صحَّته فلهم أن يَرْجعوا، وإنْ أَذِنوا له في مرضه وحين يحجب عن ماله فذلك جائزٌ عليهم، وهو قول إسحاقَ، وعن مالكٍ أيضًا: لا رجوع لهم إلَّا أن يكونوا في كفالته فرجعوا، وقال المُنذريُّ: إنَّما تبْطل الوَصيَّة للوارث في قولِ أكثر أهل العلم مِنْ أجل حقوق سائر الورثة، فإذا أجازوها جازت، كما إذا أجازوا الزِّيادة على الثُّلث، وذهب بعضُهم إلى أنَّها لا تجوز وإن أجازوها لأنَّ المنع لحقِّ الشَّرع، فلو جوَّزناها كنَّا قد استعملنا الحكمَ المنسوخَ، وذلك غير جائزٍ، وهذا قولُ أهل الظَّاهر، قال أبو عمر: وهو قول عبد الرَّحمن بن كَيْسان والمُزَنيِّ، قال ابنُ حَزْمٍ: إلَّا أن يبتدئ الورثةُ هبةً لذلك مِنْ عند أنفسهم.
          حُجَّة الأوَّل: أنَّ المنع إنَّما وَقَع مِنْ أجل الوَرثة، فإذا أجازوه جازَ وصار بمنزلة أن يجب لهم على إنسانٍ مالٌ فيبرِّؤوه منه، وقد اتَّفقوا على أنَّه إذا أوصى بأكثر مِنَ الثُّلث لأجنبيٍّ جاز بإجازتهم فكذلك هذا.
          وحُجَّة مَنْ أجاز الرُّجوعَ أنَّهم أجازوا شيئًا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنَّما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذَن قبلَه ولا يكون وارثًا، وقد يرثُه غيرُه، وقد أجاز مَنْ لا حقَّ له فيه فلا يلزمه شيءٌ، وحُجَّة مالكٍ أنَّ الرَّجل إذا كان صحيحًا فهو أحقُّ بماله كلِّه يصنع فيه مَا شاء، فإذا أَذِنُوا له في صحَّته فقد تركوا شيئًا لم يجب لهم، وذَلك بمنزلة الشَّفيعِ يترك شُفعته قبلَ البيع، أو الوليِّ إذا عفا عمَّنْ يقتل وليَّه فتركه لمَّا لم يجب له غيرُ لازمٍ، وإذا أَذِنُوا له في مرضه فقد تركوا مَا وجب لهم مِنَ الحقِّ، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قدْ أنفذَه لأنَّه قد فات، فإن لم ينفذ المريضُ ذلك كان للوارث الرُّجوعُ فيه لأنَّه لم يفت بالتَّنفيذ، ذكره الأَبْهَريُّ.
          وذكر ابن المُنْذِرِ عن إسحاقَ أنَّ قول مالكٍ في هذه المسألة أشبهُ بالسُّنن مِنْ غيره، قال ابن المُنْذِرِ: واتَّفق مالكٌ والثَّوريُّ والكُوفيُّون والشَّافعيُّ وأبو ثَورٍ أنَّهم إذا أجازوا ذلك بعدَ وفاته لزمهم، وهل هو ابتداء / عطيَّةٍ منهم أو لا؟ فيه خلافٌ، وقد بسطتُه في كتب الفروع مع تحقيقاتٍ فيه.