شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب السمر مع الضيف والأهل

          ░41▒ باب: السَّمَرِ مَعَ الأهْلِ وَالضَّيْفِ(1).
          فيه: عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ، كَانُوا أُنَاسًا(2) فُقَرَاءَ، (وَأَنَّ النبيَّ صلعم قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ أَرْبَعٌ(3) فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاثَةٍ، وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صلعم، بِعَشَرَةٍ، قَالَ: فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي، وَلا أَدْرِي هل قَالَ: وَامْرَأَتِي، وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ(4) أَبِي بَكْرٍ، وإنَّ(5) أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النبي صلعم، ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ(6) صُلِّيَتِ(7) الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى(8) النَّبِيُّ صلعم، فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ _أَوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ(9)_ قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ(10)، قَالَتْ: أَبَوْا، حَتَّى تَجِيءَ، قَدْ(11) عُرِضُوا فَأَبَوْا، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا، فَاخْتَبَأْتُ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وَقَالَ: كُلُوا لا هَنِيئًا، فَقَالَ(12): وَاللهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، وَايْمُ اللهِ،
          مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، قَالَ(13): فشَبِعُوا(14)، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ(15)، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لا وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهِيَ(16) الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاثِ مَرَّاتٍ(17)، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ(18): إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ _يَعْنِي يَمِينَهُ_ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إلى النَّبِيِّ صلعم فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى(19) الأجَلُ، فَفَرَّقَنَا اثْنَي عَشَرَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ(20)، مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ(21)). [خ¦602]
          فيه: السمر مع الأضياف، كما ترجم وهذا كما قدَّمنا من السمر في المباح وطلب الفضيلة؛ لأنَّ تلك كانت أخلاقهم وأحوالهم ♥، فلا يجوز السَّمر إلَّا في مثل ذلك من طلب الأجر، / والمباح(22). قال المُهَلَّب: وفيه أنَّ للسلطان(23) إذا رأى بقوم مسغبةً أن يفرِّقهم على أهل الوجود بقدر ما لا يجحف بهم، ألا ترى أنَّ من كان عندَه طعام اثنين ذهب بثالث. قال غيره(24): وهذا على سنته في قوله صلعم: ((طعام الاثنين(25) كافي الثلاثة))، والكفاية غير الاتَّساع(26) في الشبع. قال المُهَلَّب: ومن هذا أخذ عُمَر بن الخطاب ☺ فعلَه(27) في عام الرمادة، إذ كان يلقي على أهل كلِّ بيت مثلهم من الفقراء، ويقول: لن يهلك امرؤ عن نصف قوتِه.
          قال غيرُه: وإنَّما فعلَه عمر(28) لأنَّ الضرورة كانت عام الرَّمادة أشدُّ، وقد تأوَّل سفيان بن عيينة في المواساة في المساغب قولَه تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}[التوبة:111]، ومعناه: أنَّ المؤمنين تلزمهم القربةُ في أموالهم لله تعالى، عند توجه الحاجة إليهم، ولهذا قال كثير من العلماء: إنَّ في المال حقوقًا سوى الزكاة، وإنَّما جعل رسول الله صلعم على الاثنين واحدًا، وعلى الأربعة واحدًا، و على الخمسة واحدًا، ولم يجعل على الأربعة والخمسة بإزاء ما يجب للاثنين مع الثالث _والله أعلم_ لأنَّ صاحب العيال أولى أن يُرفق به، وضيق معيشة الواحد والاثنين أرفق بهم من ضيق معيشة الجماعة، وفيه: أكل الصديق عند صديقِه، وإن كان عندَه ضيف، إذا كان في دارِه من يقوم بخدمتهم ومؤنتهم(29).
          قال المُهَلَّب: وفيه أنَّ الأهل والولد(30) يلزمهم من التحفُّل(31) بأمور الضيف، مثل ما يلزم صاحب المنزل. وفيه: أنَّ للرجل أن يسبَّ ولدَه وأهلَه(32) على تقصيرهم ببرِّ أضيافِه(33) وأن يغضب لذلك. وفيه: أنَّ الأضياف، ينبغي لهم أن يتأدبوا، وينتظروا صاحب الدار، ولا يتهافتوا على الطعام دونَه. قال غيرُه: وفيه جواز أكل الأضياف دون صاحب الدار إذا حان الطعام(34) لأنَّ تأنيب أبي بكر لأهلِه يدلُّ أن الضيف أولى بذلك من ربِّ الدار. قال المُهَلَّب: وفيه أنَّ من حلف على شيء ورأى غيرَه خيرًا منه أنَّه يُحنث نفسَه، ويأتي(35) الذي هو خير منه، ويكفِّر يمينَه، ومن الخير: الأكل من طعام ظهرت فيه البركة، وقد نهى النبي صلعم(36) عن الأَيمان في ترك البرِّ والتقوى وفعل الخير، فمن هاهنا(37) حنَّث رسول الله صلعم والصالحون أنفسَهم، وهو قولُه تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ}[البقرة:224]، فحنَّث رسول الله صلعم نفسَه في الشراب الذي شربَه في بيت زوجتِه(38)، وحنَّث أبو بكر أيضًا نفسَه في قصَّة مِسطح. وفيه: رفع(39) ما يُرجى بركتُه، وإهداؤُه لأهل الفضل، لرفع(40) أبي بكر بقية الطعام المبارك إلى النبيِّ صلعم وإلى من بحضرتِه. وفيه: أنَّ آيات النبيِّ صلعم قد تظهر على يديْ غير النبيِّ لبركة(41) النبيِّ صلعم(42)، فتصحّ المعجزة(43) منها في زمانِه، وتجوز في غير زمانِه من ذلك ما ليس بخرق عادة.
          وقول أبي بكر: (كُلُوْا(44) لَا هَنِيْئًا): إنَّما خاطب بذلك أهلَه لا أضيافَه. وفيه: أنَّ الصديق الملاطف يجمُل منه أن يهدي إلى الجليل من إخوانِه يسير الهدية.
          وقولها: (قَدْ عُرضِوْا): يريد أنَّ خادم أبي بكر وابنَه ومن رتَّب(45) لخدمة الأضياف عرضوا الطعام على أضيافهم(46)، فأبوا من(47) أكلِه إلَّا بحضرة(48) أبي بكر، وقد جاء هذا المعنى منصوصًا في بدء الخلق في باب: علامات النبوة في الإسلام في هذا الكتاب.
          وقوله: (يا غُنْثَرُ) هو من قول العرب: رجل أَغْثَر: أحمق، عن ابن دريد، والغَثْرَاء: سفلة الناس وغوغاؤهم، فبنى فنعلًا من أغثر على المبالغة في السَّبِّ من هذا المعنى، وفنعلٌ(49) موجود في اللغة، كقولهم: جُنْدب وقنفذ، عن الأخفش.
          وقال الخطابيُّ: غُنْثَر مأخوذ من الغَثارة، وهي الجهل، يُقال: رجل غَثْر وأَغْثَر إذا كان جاهلًا، وامرأة غَثْراء، وفي فلان غَثَارة، والنون في الغنثر زائدة، وإنَّما سُمِّيت الضبع غثرًا لحمقها(50)، وقال ابن دريد: تغنثر الرجل إذا شرب الماء عن غير عطش(51)، رواه الخطابيُّ من طريق محمد(52) بن المثنى، عن سالم بن نوح العطار، عن الجريري، عن أبي عثمان، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر: يا عنتر، وقال: العنتر الذُّباب، شبَّهَه به تحقيرا له وتصغيرًا لقدره(53)، وحُكي: العنتر(54) الذباب عن ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: وإنَّما(55) سُمِّي عنترًا لصوتِه، وقال غيرُه: العنترُ الأزرق من الذباب.
          قال المؤلف: والمحفوظ عن الرواة: (يا غُنْثَر)، بالغين المعجمة بنقطة من فوقها.
          وقوله: (فجدَّع)، يعني تنقَّص وعاب، / أصل(56) الجدع في اللغة: القطع، يقال: جدعتُ الأنف وغيرَه قطعتُه(57).


[1] في (م) و(ق): ((مع الضيف والأهل)).
[2] قوله: ((أناسًا)) ليس في (م) و(ق).
[3] في (ق): ((أربعة)).
[4] في (م) و(ق): ((وخادم بين بيتنا وبيت)).
[5] في (ص): ((ثمَّ إنَّ)).
[6] في (م): ((حتى)).
[7] في (ص): ((صلينا)).
[8] زاد في (م) و(ق): ((عند)).
[9] قوله: ((أو قالت: ضيفك)) ليس في (م)و(ق).
[10] في (م): ((عشيتهم)).
[11] في (ق): ((وقد)).
[12] قوله: ((فقال)) ليس في (م).
[13] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[14] قوله ((قال فشبعوا)) ليس في (م).
[15] قوله: ((قبل ذلك)) ليس في (م) و(ق).
[16] في (ق): ((لهم)).
[17] في (ق): ((مرار)).
[18] في (م): ((قال)).
[19] في (ق): ((فقضى)).
[20] قوله: ((مع كل رجل)) ليس في (م).
[21] قوله: ((أو كما قال)) ليس في (م) و(ق).
[22] في (م): ((أو المباح)).
[23] في (م): ((السلطان)).
[24] قوله ((قال غيره)) ليس في (ق).
[25] قوله: ((ذهب بثالث)). قال غيره: وهذا على سنته في قوله، ◙: ((طعام الاثنين)) ليس في (م).
[26] في (م) و(ق): ((التناهي)).
[27] في (م) و(ق): ((عمر ☺ فعله)).
[28] زاد في (م): ((والله أعلم)).
[29] في (م) و(ق): ((بمؤنتهم وخدمتهم)).
[30] في (ق) و(م) و(ص): ((أن الولد والأهل)).
[31] في (م) و(ق): ((التحفي)).
[32] في (ص): ((أهله وولده)).
[33] في (ق): ((أضيافهم)).
[34] في (ق): ((إذا كان الطعام موجودًا)).
[35] في (ق): ((وأتى)).
[36] في (م): ((وقد نهى الله تعالى)).
[37] في (م): ((فمن هنا)).
[38] في (م)و(ق): ((بيت بعض أزواجه)).
[39] قوله ((رفع)) ليس في (ق).
[40] في (ق): ((كرفع)).
[41] في (م): ((ببركة)).
[42] قوله ((لبركة النبي صلعم)) ليس في (ق).
[43] في (ق): ((فيصح المعجز)).
[44] قوله ((كلوا)) ليس في (ق).
[45] في (م): ((ركب)).
[46] في (ص): ((على أضيافه)).
[47] قوله ((من)) ليس في (ق).
[48] من هنا نسخة (ز) فيها نقص وقد اعتمدت نسخة (م) أصلًا.
[49] في (ق): ((فنعل)).
[50] في (ق): ((لجهلها)).
[51] في (ص): ((وحكم بعض أهل اللغة الغنثرة: سرب الماء من غير عطش)).
[52] في (ق): ((يحيى)).
[53] في (ص): ((تصغيرًا له وتحقيرًا لقدره)).
[54] قوله: ((الذُّباب، شبَّهَه به تحقيرا له وتصغيرًا لقدره، وحُكي العنتر)) ليس في (ق).
[55] في (ص): ((وقال: إنما)).
[56] في (ص): ((وأصل)).
[57] قوله: ((وقوله: (فجدَّع)، يعني تنقَّص وعاب، أصل الجدع في اللغة: القطع، يقال: جدعتُ الأنف وغيرَه قطعتُه.)) ليس في (ق).