شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصلاة كفارة

          ░4▒ بَابُ: الصَّلاةِ كَفَّارَةٌ.
          فيهِ: حُذَيْفَةُ قَالَ(1): (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ ☺، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي الفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا، كَمَا قَالَهُ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ _أَوْ عَلَيْهَا(2)_ لَجَرِيءٌ(3) قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالأمْرُ، وَالنَّهْيُ)، الحديثَ. [خ¦525]
          وفيهِ: ابنُ مَسْعُودٍ: (أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبيَّ(4) صلعم، فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَأَقِمِ(5) الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود:114]، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ). [خ¦526]
          قولُهُ(6): (فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ ومَالِهِ(7)) يصدِّقُهُ قوله ╡: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}[التغابن:15]، والمعنى في ذلك أن يأتي مِن أجلهم ما لا يحلُّ له مِن القول والعمل ما لم يبلغ كبيرةً، كالقُبْلَةِ الَّتي أصابها الرَّجُل مِن المرأة(8) وشبهها، فذلك الَّذي يُكفِّرها(9) الصَّلاة والصَّوم، ومثلُه قولُه صلعم: ((الجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مَا اجتُنِبَتِ الكَبَائِرُ)). قال(10) المُهَلَّبُ قولُهُ: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ وَمَالِهِ ووَلَدِهِ(11) وَجَارِهِ) يريد(12) ما يعرض له معهم مِن شَرٍّ أو حزنٍ وشبه(13) ذلك، وسأستقصي تفسير هذا الحديث وأزيد في البيان عن معنى الفتنة(14) فيه في كتاب الصِّيام(15) في باب الصَّومُ كفَّارةٌ إن شاء الله تعالى [خ¦1895]. وإنَّما علم عُمَرُ أنَّه الباب؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم كان على حِرَاءٍ هو وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمَانُ فرَجَفَ بهم، فقَالَ النَّبيُّ صلعم: ((اثْبُتْ حِرَاءُ، فإنِّما عَلَيْكَ نَبيٌ وَصِدِّيقٌ وشَهيْدَانِ))، وفهم ذلك ☺، من قول حُذَيْفَةَ حين قال: بل يُكْسَرُ الباب، قال غيرُهُ: ويدلُّ على ذلك قولُهُ: ((إذًا(16) لَا يُغْلَقُ))؛ لأنَّ الغلق إنَّما يكون في الصَّحيح(17)، وأمَّا المنكسر(18) فهو هتكٌ لا يُجْبَرُ وفتقٌ لا يُرَقَّعُ، وكذلك انخرق(19) عليهم بقتل عُثْمَانَ بعدَه مِن الفتن ما لا(20) يُغلق إلى يوم القيامة، وهي الدَّعوة الَّتي لم يُجَبْ فيها ◙ في أمَّتِهِ(21)، ولذلك قال: ((فَلَنْ يَزَالَ الهَرْجَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)). وأمَّا حديث ابنِ مَسْعُودٍ، فإنَّ أهل التَّأويل ذهبوا إلى قولِهِ تعالى: {وَأَقِمِ(22) الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}[هود:114]، الفجر وصلاة العشاء، هذا قول مجاهدٍ والضَّحَّاكِ، وقال الحَسَنُ وقَتَادَةُ: طرفا(23) النَّهار: الفجر والعصر، وزلفًا من اللَّيل: المغرب والعشاء {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود:114]، قالوا: الحسنات الَّتي ذكرهُنَّ الله(24) هاهنا(25) الصَّلوات الخمس(26)، هذا قول ابنِ مَسْعُودٍ وابنِ(27) عَبَّاسٍ والحَسَنِ وقَتَادَةَ وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ وغيرهم، فدلَّت هذه الآية أنَّ الصَّلاةَ كفَّارةٌ لصغائر الذُّنُوب، ودلَّ هذا الحديث أنَّ القُبْلَةَ وشبهها مما أصابَهُ الرَّجُل من المرأة غير الجِمَاع كلُّ ذلك مِن الصَّغائر الَّتي يغفرها الله سبحانه باجتناب الكبائر، والصَّغائر هي مِن اللَّمم الَّتي وعدَ الله(28) مغفرتها / لمجتنب الكبائر بقولِهِ تعالى: {إِنَّ(29) الَّذِينَ(30) يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ(31)}[النَّجم:32]، وهذه الآية تفسير قولِهِ تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود:114](32) وأَمَّا الكَبَائِرُ: فأهل(33) السُّنَّة(34) مجمعون(35) على أنَّه لا بُدَّ فيها من التَّوبة والنَّدم والإقلاع واعتقادٌ أنْ لا(36) عودة فيها، روى سَعِيدُ بنُ بَشِيْرٍ(37) عن قَتَادَةَ عنِ الحَسَنِ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: ((الصَّلَواتُ الخَمْسُ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ(38) لِمَنِ اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ)). وفي الآية تأويلٌ آخر، قال مجاهدٌ: الحسناتُ(39) يذهبْنَ السَّيئات هي سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلَّا الله، والله أكبر. قال الطَّبَرِيُّ: والصَّواب قول مَن قال: هي(40) الصَّلوات الخَمْس؛ لثُبُوت الخبر عَنِ النَّبيِّ صلعم أنَّه قَالَ: ((مَثَلُ الصَّلَواتِ الخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ عَذْبٍ(41) يَنْغَمِسُ كُلَّ يَوْمٍ فِيْهِ(42) خَمْسُ مَرَّاتٍ، فَمَاذَا يُبْقِيْنَ مِنْ دَرَنِهِ؟))، وأنَّ ذلك في سياق أمر الله تعالى بإقام الصَّلوات، فالوعدُ(43) على إقامتها جزيل الثَّواب عقبها أولى مِن الوعد(44) على ما لم يجرِ(45) لهُ ذِكْرُ مِن سائر صالحات الأعمال، إذ خُصَّ بالقصد بذلك بعضٌ دونَ بعضٍ، وسأذكر مذاهب العلماء في الصَّغائر والكبائر في كتاب الأدب إنْ شاء الله [خ¦5976].


[1] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[2] قوله: ((أو عليها)) ليس في (م).
[3] في (م): ((بجريء)).
[4] في (ص): ((الرسول)).
[5] في (ص): ((أقم)).
[6] في (م): ((وقوله)).
[7] زاد في (م): ((وولده)).
[8] قوله: ((من المرأة)) ليس في (م).
[9] في (م): ((فذلك يكفره)).
[10] في (م) و(ص): ((وقال)).
[11] قوله: ((وولده)) ليس في (م).
[12] في (م): ((يعني)).
[13] في (م): ((أو شبه)).
[14] في (م): ((الفقه)).
[15] في (م): ((الصَّوم)).
[16] في (م): ((إذ)).
[17] في (م): ((لأنَّ الغلق لا يكون إلَّا في الصُّبح)).
[18] في (م): ((وإنَّما الكسر)).
[19] في (م): ((الخرق)).
[20] في (م): ((لم)).
[21] في (ص): ((◙ لأمته)).
[22] في (ص): ((أقم)).
[23] في (م) و(ص): ((طرفي)).
[24] في (م): ((ذكرها الله تعالى)).
[25] زاد في (م): ((هنَّ)).
[26] قوله: ((الخمس)) ليس في (م).
[27] في (م): ((ولابن)).
[28] زاد في (م): ((╡)).
[29] قوله: ((إنَّ)) ليست في المطبوع و(م).
[30] في (ص): ((تعالى والذين)).
[31] قوله: ((عن ربِّك واسع المغفرة)) ليس في (م) وبدل منه قوله: ((الآية)).
[32] قوله: ((ودلَّ هذا الحديث أنَّ القِبْلَة وشبهها مما أصابَه الرَّجُل من المرأة غير الجِمَاع كلُّ ذلك من الصَّغائر الَّتي يغفرها الله باجتناب الكبائر، والصَّغائر هي مِن اللَّمم الَّتي وعدَ الله مغفرتها لمجتنب الكبائر بقولِه تعالى:{الَّذِيْنَ يَجْتَنِبُون كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ} وهذه الآية تفسير قولِهِ: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ})) جاء في (م) بعد قوله: ((وأمَّا الكبائر: فإن أهل السُّنَّة مجتمعون على أنَّه لابُدَّ فيها من التَّوبة والنَّدم والإقلاع والاعتقاد لا عودة فيها)).
[33] في (م): ((فإنَّ أهل)).
[34] في (ص): ((البرية)).
[35] في (م): ((مجتمعون)).
[36] في (م): ((والاعتقاد لا)).
[37] في (م): ((بشر)).
[38] قوله: ((لما بينهن)) ليس في (م).
[39] في (ص): ((إن الحسنات)).
[40] قوله: ((هي)) ليس في (ص).
[41] في (م): كلمة غير واضحة بعد قوله: ((عذب)).
[42] في (م): ((ينغمس فيه كل يوم)).
[43] في (م) صورتها: ((بالوعد)).
[44] في (ص): ((الوعيد)).
[45] في حاشية (ص): ((نسخة: يجريه)).