شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء

          ░40▒ باب: السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ.
          فيه: قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: (انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ، وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَجَاءَ وَقَالَ(1): دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلاءِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَنَسُ(2): انْتَظَرْنَا النبيّ صلعم ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ، فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ: أَلا إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، ثُمَّ(3) رَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ(4) تَزَالُوا فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ). قَالَ الْحَسَنُ: وَإِنَّ الْقَوْمَ لا يَزَالُونَ(5) في خَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ. [خ¦600]
          وفيه: عَبْد اللهِ بن عُمَرَ(6) قَالَ: (صَلَّى النَّبِيُّ صلعم صَلاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ النَّبِيُّ صلعم فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ سنة لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ على ظَهْرِ الأرْضِ أَحَدٌ)، فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ النبيِّ صلعم إلى مَا يَتَحَدَّثُونَ في(7) هَذِهِ الأحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ النبي صلعم: (لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ على ظَهْرِ الأرْضِ(8)، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ). [خ¦601]
          هذه الآثار تدلُّ على أنَّ السَّمر المنهي عنه بعد العشاء، إنَّما هو فيما لا ينبغي من الباطل واللغو، ألَا ترى استدلال الحسن البصريِّ حين سمر عند جيرانِه لمدارسة(9) العلم، بسمرِ النبيِّ صلعم إلى قرب(10) من شطر الليل في شغلِه بتجهيز الجيش، ثمَّ خرج فصلِّى للناس(11)، ثمَّ خطبهم مؤنسًا لهم من طول انتظارهم، ومعرفًا لهم ما يستحقون عليه من جزيل الأجر، فقال: ((إنَّكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة))، ومثل ذلك قولُه(12): ((إنَّ(13) رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم(14) / على ظهر الأرض أحدٌ(15)))، فأبان بفعلِه ◙، أنَّ السمر في العلم والخير مرغَّب فيه(16). وروى ابن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر، قال: ((كان رسول الله صلعم يسمر عند أبي بكر(17) في الأمر من أمور المسلمين، وأنا معَه))، وروى ابن(18) بكير، عن ابن لهيعة، عن ابن(19) هُبَيْرة، عن عبد الله بن رَزين(20): أن عليًّا ☺ صلَّى بهم ذات ليلةٍ العتمة، فقعدوا، واستفتوه(21) حتَّى أذَّن بصلاة(22) الصبح، فقال: قوموا فأوتروا(23) فإنَّا لم نُوتر. وكان ابن سيرين، والقاسم، وأصحابُه يتحدَّثون بعد العشاء. وقال مجاهد: يُكرَه السَّمر بعد العشاء إلَّا لمصلٍّ أو مسافرٍ أو دارس علمٍ. وقوله صلعم: ((إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها)) تعليم منه ◙ لهم للعلم، وكذلك إعلامُه لهم أنَّ رأس مائة سنة لا يبقى ممَّن هو على ظهر الأرض أحد، إعلامٌ منه لهم أنَّ أعمار أمَّتِه ليست بطول أعمار من تقدَّم من الأمم السالفة، ليجتهدوا في العمل، وقد بيَّن ذلك صلعم(24) في حديث آخر، فقال: ((أعمار أمَّتي من الستين إلى السبعين وأقلُّهم من(25) يجاوز(26) ذلك)).
          وأمَّا قول أنس بن مالك: (انْتَظَرْنَا رَسُولَ اللهِ صلعم حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ)، فهكذا وقع هذا الكلام(27) في جميع النسخ، وقد روى جابر بن عبد الله هذا الحديث بنحو هذا المساق، وكشف فيه صواب اللفظ(28)، وذكر فيه الشغل الذي منعَه من الخروج إلى الصلاة، وهو أنَّه اشتغل بتجهيز جيشٍ(29)، رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: ((جهز رسول الله صلعم ذات ليلة جيشًا، حتى قرب نصف الليل أو بلغَه))، وذكر هذا(30) الحديث، وقد ذكرتُه بتمامِه في باب فضل العشاء، فأبان هذا اللفظ معنى(31) حديث أنس، وتقدير الكلام فيه: حتى كان شطر الليل، أو كاد يبلغُه(32)، والعرب قد تحذف «كاد» كثيرًا من كلامها لدلالة الكلام عليه(33)، كقولهم في: أظلمت الشمس، كادت تظلم.
          قال الشاعر:
يتعارضون(34) إذا التقوا في موطـنٍ                     نظرًا يزيـل مواطئ الأقدامِ
          فلم يقل يكاد يزيل، ولكنَّه نواها في نفسِه، ومنه قولُه تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}[الأحزاب:10]، أي: كادت من شدة الخوف تبلغ الحلوق، ذكرَه ابن قتيبة.
          وقوله: (فَوَهَلَ النَّاسُ)، قال صاحب «الأفعال»: وَهَل إلى الشيء وَهْلًا: ذهب وهمُه إليه، ويُقال: كلَّمت فلانًا وما ذهب وَهَلي إلَّا إلى فلان، وما وَهَلْت إلَا إليه، من(35) «العين».


[1] في (ق): ((فقال)).
[2] زاد في (م)و(ق): ((بن مالك)).
[3] في (ق): ((و)).
[4] في (ص): ((لن)).
[5] في (م): ((لن يزالوا)).
[6] في (م) و(ق): ((عمرو)).
[7] في (م): ((من)).
[8] زاد في (م): ((أحد)).
[9] في (ص): ((لمذاكرة)).
[10] في (م) و(ق): ((قريب)).
[11] في (م)و(ق): ((بالناس)).
[12] زاد في (م) و(ق): ((أرأيتكم ليلتكم هذه)).
[13] في (م)و(ق): ((فإن)).
[14] قوله ((اليوم)) ليس في (ق).
[15] قوله: ((أحد)) ليس في (ص).
[16] قوله ((فيه)) ليس في (ق).
[17] زاد في (م) و(ق): ((الليلة)).
[18] قوله: ((ابن)) ليس في (م).
[19] في (م): ((أبي)).
[20] في (ق): ((زيد)).
[21] في (م) و(ق): ((يستفتونه)).
[22] في (م) و(ق): ((لصلاة)).
[23] في (ق): ((أوتروا)).
[24] في (م): ((بين ذلك بقوله ◙)).
[25] في (م): ((ما)).
[26] في (ق): ((تجاوز)).
[27] قوله: ((هذه الكلام)) ليس في (م) و(ق).
[28] قوله ((وكشف فيه صواب اللفظ)) ليس في (ق).
[29] في (م): ((الجيش)).
[30] قوله: ((هذا)) ليس في (م) و(ق).
[31] في (ق): ((في)).
[32] في (ص): ((أو كاد في أخرى يبلغه)).
[33] في (م): ((عليها)).
[34] في (ق): ((يتقاضون)).
[35] زاد في (م) و(ق): ((كتاب)).