شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل صلاة العصر

          ░16▒ باب: فَضْلُ صَلاةِ الْعَصْرِ.
          فيه: جَرِير: (كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صلعم فَنَظَرَ(1) إلى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا على صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا(2)، فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ: {فَسَبِّحْ(3) بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها}(4)[طه:130])، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: افْعَلُوا لا تَفُوتَنَّكُمْ. [خ¦554]
          وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قال: (قَالَ رَسُولَ اللهِ صلعم: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ(5): كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ). [خ¦555]
          قال المؤلِّف: ذكر ابن أبي خيثمة قال: حدَّثنا الهيثم بن خارجة، حدَّثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت الأوزاعيَّ ومالك(6) وسفيان الثوريَّ والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية فقالوا(7): أمرَّها كيف جاءت بلا كيفية(8). قال المُهَلَّب: وقولُه: (فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا على صَلاةٍ)، يعني: على(9) شهودها في الجماعة، فخصَّ هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ولرفعهم(10) أعمالهم فيها، لئلَّا يفوتهم هذا الفضل العظيم، قال أبو عبد الله: وقد قال صلعم / يوم الخندق: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملأ الله قبورهم وبيوتهم(11)))، فسمَّى العصر وسطى. وممَّن ذهب إلى أنَّ العصر هي الصلاة الوسطى(12) عليُّ بن أبي طالب(13) وعائشة وأبو هريرة وابن عمر وأبو أيوب الأنصاريُّ، والحسن والزهريُّ، وهو قول أبي حنيفة(14) والشافعيُّ وأحمد، وأكثر أهل الحديث، واحتجُّوا بقولِه يوم الخندق، وقيل(15): إنَّها الصبح، رُوي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأبي موسى وأبي أمامة وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: عطاء وعكرمة وطاوس ومجاهد وهو قول مالكٍ، وحكى مالكٌ أنَّه بلغَه عن عليِّ بن أبي طالب مثلُه، وقيل(16): إنَّها الظهر رُوي ذلك عن: زيد بن ثابت وابن عمر وأبي سعيد الخدري وعائشة وعروة بن الزبير، وقال قَبِيصَة بن ذُؤَيب: هي(17) المغرب.
          واحتجَّ الذين قالوا: إنَّها الظهر بما روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: كنت في قوم فاختلفوا في الصلاة الوسطى _وأنا أصغر القوم_ فبعثوني إلى زيد بن ثابت لأسألَه عن ذلك، فسألتُه قال(18): كان رسول الله صلعم يصلي بالهاجرة والناس في قائلتهم وأسواقهم ولم يكن يصلي وراء رسول الله صلعم إلَّا الصف والصفان، فنزلت: {حَافِظُواْ على الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ(19)}[البقرة:238]، فقال رسول الله صلعم: ((لينتهين قوم(20) أو لأحرقن بيوتهم)).
          وأما الذين قالوا: إنَّها المغرب فقالوا(21): ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تُقصر في السفر، وأنَّ(22) رسول الله صلعم(23) يؤخِّرها عن وقتها ولا يعجلها(24).
          وأمَّا حجة الذين قالوا: إنها(25) الصبح، فإنَّ ابن عباس قد استدلَّ على(26) ذلك بأنَّها تُصلَّى في سواد من الليل وبياض من النهار، وقالوا: وهي(27) أكثر الصلوات تفوت الناس.
          قال إسماعيل بن إسحاق: ومن الحجَّة على ذلك قولُه تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(28)}[الإسراء:78]، فخُصَّتْ بهذا النَّص(29) وأنَّها مفردة(30) لا يشاركها فيه غيرها. قال(31) أبو عبد الله بن أبي صُفرة: وإنَّما سمَّى النبي صلعم العصر وسطًا(32) _والله أعلم_ شبَّهها(33) بالصبح لفضلها واجتماع الملائكة فيها في قولِه صلعم:((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار(34)، ويجتمعون في صلاة الصبح(35) وصلاة العصر)). {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]، فالصبح وسطًا(36) بالكتاب والعصر وسطًا بالسنَّة؛ لأنَّ الصبح مذكورة بالكتاب(37) بشهود الملائكة لها، والعصرَ مذكورة بذلك في السنَّة، ألا ترى أنَّ عائشة وحفصة أَمَرَتا أن يكتب لهما في المصحف: ((حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى وصلاة العصر))، فخصَّتا العصر بالمحافظة مع الوسطى لاشتراكهما في تعاقب الملائكة، ولاشتباههما في أنَّ الصبح يغلب الناسَ النومُ عليها، وأنَّ العصر يُغلبون عليها بالكسل والسآمة لما كانوا عليه من اشتغالهم ونظرهم في معاشهم(38)، فتزاحم الشغل والكسل(39) في وقتها، والله أعلم.
          قال المُهَلَّب: في حديث أبي هريرة أنَّ أهم ما يُسأل عنه العبد عند ملاقاة ربِّه: الصلاة، وأنَّ أهم الصلوات صلاة الصبح وصلاة العصر؛ لاجتماع الملائكة فيهما، وأنَّ الله تعالى(40)، يسأل عمَّا أكَّد المحافظة(41) عليه منهما(42)، فلذلك عرَّفهم أنَّهم ملاقوه وأنَّهم يرونه، ويسألهم عن ذلك.
          وقوله(43): (لَا تُضَامُوْنَ فِي رُؤْيَتِهِ(44)) كأنَّه من الضيم، من رواه مخفَّف(45) الميم معناه(46): لا يُضيم بعضكم بعضًا بأن يدفعَه عنه أو يستأثر به دونَه. وقال بعض أهل اللغة: إنَّما هو تضامّون _بإدغام الميم_ على تقدير تفاعلون، وهو من الانضمام؛ يريد أنَّكم لا تختلفون فيه حتَّى تجتمعوا للنظر وينضمَّ بعضكم إلى بعض، فيقول واحدٌ: هو ذاك(47)، ويقول آخرُ: ليس كذلك(48) فِعلَ الناس عند النظر إلى الهلال أوَّل ليلة من الشهر، قاله ابن قتيبة. قال(49): وكذلك في رواية من روى: ((تضارُّون))، وهو(50) من الضير أي: لا يضير(51) بعضكم بعضًا بأن يدفعَه عنه أو يستأثر به دونَه، وقال بعض أهل اللغة: إنَّما هو تضارون من الضرار وهو أن يتضارر(52) الرجلان(53) عند الاختلاف، يُقال: ضارَّ الرجلُ الرجلَ مضارَّة وضرارًا، وقد وقع الضرار بينهما والاختلاف.


[1] في (م): ((فنظرنا)).
[2] في (م): ((الغروب)).
[3] في (م) و(ص): ((وسبِّح)).
[4] قوله: ((فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها})) ليس في (م).
[5] قوله: ((بهم)) ليس في (ص).
[6] زاد في (م): ((بن أنس)).
[7] في (م): ((فقال)).
[8] في (م): ((أمرُّوها كام جاءت بلا كيف)).
[9] قوله: ((على)) ليس في (م).
[10] في (ص): ((ولرفع)).
[11] زاد في(م) و(ص): ((نارًا)).
[12] قوله: ((وممَّن ذهب إلى أنَّ العصر هي الصلاة الوسطى)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((بن أبي طالب)) ليس في (م).
[14] زاد في (م): ((وأصحابه)).
[15] في (م): ((وذهبت طائفة إلى)).
[16] في (م): ((وذهبت طائفة إلى)).
[17] في (م): ((إنها)).
[18] في (م): ((فقال)).
[19] قوله: ((وقوموا لله قانتين)) ليس في (م).
[20] في (م): ((أقوام)).
[21] في (ص): ((قالوا)).
[22] في (م): ((أن)).
[23] زاد في(م): ((لم)).
[24] في (م): ((ولم يعجلها)).
[25] في (م): ((وأما الذين ذهبوا إلى أنها الصبح)).
[26] من قوله: ((وهذا مستغنى عن الاحتجاج لوضوحِه)). وقول أبي أمامة: ((صلينا مع عُمَر بن عبد العزيز الظهر...)) إلى قوله: ((وأمَّا حجة الذين قالوا: إنها الصبح، فإنَّ ابن عباس قد استدلَّ على)) ليس في (ق).
[27] في (م): ((هي)).
[28] قوله: ((إن قرآن الفجر كان مشهودًا)) ليس في (م) و(ص)، وزاد فيها ((الآية))، و قوله ((قال إسماعيل بن إسحاق: ومن الحجَّة على ذلك قولُه تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًَا})) ليس في (ق).
[29] زاد في (م) و(ق): ((خصها الله بشهود الملائكة)).
[30] في (م) و(ق): ((منفردة لوقتها)).
[31] في (ق): ((وقال)).
[32] في (م): ((وسطى)).
[33] في (م) و(ق): ((تشبيهًا لها)).
[34] قوله ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)) ليس في (ق).
[35] في (م) و(ق): ((الفجر)).
[36] في (م) و(ق): ((وسطى)) وكذا ما بعدها.
[37] في (ق): ((في الكتاب)).
[38] في (م) و(ق): ((معايشهم)).
[39] في (م): ((الكسل)) بلا واو.
[40] قوله: ((أن الله تعالى)) ليس في (ص).
[41] قوله: ((المحافظة)) ليس في (م).
[42] في (م) صورتها: ((منها))، و قوله: ((منهما)) ليس في (ق).
[43] في (م): ((قال ابن قتيبة: قوله)).
[44] قوله ((في رؤيته)) ليس في (م) و(ق) و(ص).
[45] في (م) و(ق): ((بتخفيف)).
[46] في (م) و(ق): ((فمعناه)).
[47] في (م): ((ذلك)).
[48] في (م): ((بذلك))، و في (ق): ((بذاك)).
[49] قوله: ((قاله ابن قتيبة، قال)) ليس في (م) و(ق).
[50] في (م) و(ق): ((هو)) بلا واو.
[51] في (م): ((يضرُّ)).
[52] في (م): ((والضرار أن يتضارَّ)).
[53] في (ق): ((الرجل)).