شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قضاء الصلوات الأولى فالأولى

          ░38▒ باب قَضَاءِ الصَّلوَاتِ الأولَى فَالأولَى(1).
          فيه: جَابِر(2): جَعَلَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ(3) يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَسُبُّ كُفَّارَهُمْ، فَقَالَ: مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ، قَالَ: فَنَزَلْنَا بُطْحَانَ، فَصَلَّى بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ(4). [خ¦598]
          أجمع العلماء على الاستدلال بهذا الحديث، فقالوا: من فاتتْه(5) صلوات كثيرة(6)، وأيقن أنَّه يقضيها، ويصلي التي حضر وقتها قبل فواتها، أنَّه يبدأ بالأَوَّل فالأَوَّل(7)، واختلفوا: إذا خشي فوت وقت الحاضرة إن بدأ بالمنسية، فقالت طائفة: يبدأ بالتي ذكر فيصليها، وإن فاتتْه هذه(8)، هذا قول عطاء والزهريُّ ومالك والليث، واتفق مالك وأصحابُه على أنَّ حكم أربع صلوات فما دونَها حكم صلاة واحدة يبدأ بهنَّ، وإن خرج وقت الحاضرة، واختلفوا في خمس صلوات، فحكى ابن حبيب، عن مالك أنَّ خمسًا قليل يبدأ بهنِّ وإن خرج وقت الحاضرة(9)، وهو قول أبي حنيفة. وذكر ابن سحنون، عن أبيه أنَّ خمس صلوات كثير(10)، يبدأ بالتي حضر وقتُها، وقالت طائفة: يبدأ بالتي نسي إلَّا أن يخاف فوت التي حضر وقتها(11)، فإن خاف ذلك صلَّاها، ثمَّ صلَّى التي نسي، هذا قول(12) ابن المسيَّب والحسن البصريُّ والأوزاعيُّ والثوريُّ والشافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعلَّة أهل هذه المقالة أنَّه إن بدأ بالمنسية، وفاتَه وقت الحاضرة، فقد اجتمع عليه فوتان، فوتُ الحاضرة مع فوت المنسية، ففوتٌ واحدٌ أحسنُ حالًا من فوتينِ. ووجه القول(13) أنَّه يبدأ بالمنسية إن كانت خمسًا فدون، وإن فات وقت الحاضرة؛ لأنَّ المنسية عندهم واجبة قبل صلاة الوقت، فإذا ذكرها اشتركت مع صلاة الوقت في الوجوب، ولها حقُّ التقدمة، فكأنَّها ظهرٌ وعصرٌ اجتمعا في يوم واحد، فوجب أن يقدَّم(14) الظهر وإن قُدِّمت العصر وجب إعادتها؛ لأنَّ الترتيب عندهم في خمس صلواتٍ فدون من الفوائت وجوبُ(15) سُنَّة، وإنَّما لم يجب الترتيب عندهم في أكثر من خمس(16) صلوات؛ لأنَّها مشبهة(17) بصلاة اليوم بعينِه، ولو وجب في أكثر من ذلك لوجب في سنين كثيرة، وذلك ما لا يُطاق عليه لأنَّه لا سبيل(18) أن(19) يقضي صلاة سنة أو أكثر في يومين ولا ثلاثة(20)، ولو تكلَّف ذلك أحد لترك أيام القضاء بغير صلوات، وهذا جهل من قائلِه، فلم يكن بُدٌّ من حدٍّ بين القليل والكثير في ذلك. وفي هذا(21) الحديث ردٌّ على جاهل، انتسب إلى العلم وهو منه بريء(22)، زعم أنَّه(23) من ترك الصلاة(24) عامدًا(25) أنَّه لا يلزمُه إعادتها. واحتجَّ بأنّ النبيَّ صلعم قال: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها))(26)، ولم يذكر / العامد، فلم يلزمْه القضاء، وإنما يقضيها الناسي والنائم(27) فقط، وهذا ساقط من القول(28) يؤول إلى إسقاط فرض الصلاة عن العباد، وقد ترك النبي صلعم يوم الخندق صلاة الظهر والعصر(29) قاصدًا لتركها(30) لشغله بقتالِه(31) العدو، ثمَّ أعادها بعد المغرب(32). ويُقال له: لمَّا أوجب النبيُّ صلعم على الناسي والنائم الإعادة، كان العامد أولى بذلك؛ لأن أقلَّ أحوال الناسي سقوط الإثم عنه، وهو مأمور بإعادتها، والعامد(33) لا يسقط عنه الإثم، فكان(34) أولى أن تلزمَه إعادتها، ولا يوجد في شيءٍ من مسائل الشريعة مسألةٌ العامد فيها معذور والناسي غير معذور، بل الأمر بضدَّ ذلك لقولِه صلعم: ((إنَّ الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان))، فإذا تجاوز الله عن الناسي إثمَ تضييعِه، وأُمر بأداء الفرض(35)، فكان العامد المنتهك لحدود الله غير ساقط عنه الإثم، بل الوعيد الشديد متوجِّه عليه(36)، كان الفرض أولى ألَّا يسقط عنه ويلزمُه قضاؤُه، وقد أجمعت الأمَّة على أنَّ من ترك يومًا من شهر رمضان عامدًا من غير(37) عذر أنَّه يلزمُه قضاؤُه، فكذلك الصلاة، ولا فرق بين ذلك، والله الموفق.


[1] في (م) و(ق): ((الأول فالأول)).
[2] زاد في (م) و(ق): ((قال)).
[3] قوله: ((بن الخطاب)) ليس في (م) و(ق).
[4] قوله: ((المغرب)) ليس في (ق).
[5] في (م): ((فاته)).
[6] قوله: ((كثيرة)) ليس في (م)و(ق).
[7] في (ق) و(ص): ((بالأولى فالأولى)).
[8] قوله: ((هذه)) ليس في (م).
[9] قوله: ((واختلفوا في خمس صلوات، فحكى ابن حبيب، عن مالك أنَّ خمسًا قليل يبدأ بهنِّ وإن خرج وقت الحاضرة)) ليس في (ق).
[10] في (ص): ((كثيرة)).
[11] قوله: ((وقالت طائفة: يبدأ بالتي نسي إلَّا أن يخاف فوت التي حضر وقتها)) ليس في (ق).
[12] زاد في (ق): ((سعيد)).
[13] زاد في (م) و(ق): ((الأول)).
[14] في (م) و(ق): ((فوجب تقديم)).
[15] في (م) و(ق): ((خمس صلوات من الفوائت فدون، واجبٌ وجوب)).
[16] في (م) و(ق): ((عندهم إلا في خمس)).
[17] في (ص): ((مشتبهة)).
[18] زاد في (م) و(ص): ((إلى)).
[19] في (ص): ((أنه)).
[20] في (م): ((ثلاث)).
[21] قوله: ((هذا)) ليس في (م).
[22] قوله: ((وهو منه بريء)) ليس في (ق).
[23] في (م) و(ق): ((أن)).
[24] في (م): ((صلاة)).
[25] قوله: ((عامدًا)) ليس في (م).
[26] زاد في (م): ((قال)).
[27] في (م): ((النائم والناسي)).
[28] في (م): ((وهذا قول ساقط)).
[29] زاد في (ق): ((عامدًا)).
[30] في (م): ((لذكرها)).
[31] في (م) و(ق) و(ص): ((بقتال)).
[32] في (م): ((الغروب)).
[33] زاد في (م): ((الذي)).
[34] قوله: ((فكان)) ليس في (م)، و في (ق): ((فالعامد الذي لا يسقط الإثم عنه أولى)).
[35] في (م): ((بأدائه للفرض)).
[36] في (م) و(ق): ((الشديد إليه متوجه)).
[37] في (م) و(ق): ((عامدًا لغير)).