شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب وقت الفجر

          ░27▒ باب وَقْتِ الْفَجْرِ.
          فيه: زَيْد بْن ثَابِتٍ حَدَّثَهُم(1): (أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيِّ صلعم، ثُمَّ قَامُوا إلى الصَّلاةِ قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ آيَةً). [خ¦575]
          وفيه: سَهْل بْن سَعْدٍ يَقُولُ(2): (كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أَنْ أُدْرِكَ صَلاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم). [خ¦577]
          وفيه: عَائِشَة(3): (كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم صَلاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إلى بُيُوتِهِنَّ(4)، حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاةَ، لا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ). [خ¦578]
          أجمع العلماء على أنَّ(5) وقت صلاة الصبح طلوع الفجر، وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي، واختلفوا في التغليس بها(6) هل هو أفضل أم الإسفار؟، فممَّن كان يُغلِّس بالفجر: أبو بكر وعمر وعثمان وأبو موسى وابن الزبير، وهو قول مالكٍ والليث والأوزاعيِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق. وممَّن كان يسفر بالصبح(7) ابن مسعود وأبو الدرداء وعمر بن عبد العزيز وأصحاب عبد الله. وقال ابن سيرين: كانوا يستحبون أن ينصرفوا(8) من الصبح وأحدهم يرى مواقع نبلِه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابِه، والثوريِّ، واحتجُّوا لفضل الإسفار(9) بما رواه شعبة عن أبي داود(10) عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لَبِيد(11)، عن رافع بن خديج قال: (قال النبيُّ صلعم: أسفروا بالفجر، فإنَّه أعظم للأجر). واحتج أهل المقالة الأولى بمداومتِه ◙، ومداومة أصحابِه على التغليس بها، ألا ترى قولها: (كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم صَلاةَ الْفَجْرِ فيَنصَرِفْنَ(12) لا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ)، وهذا إخبار عن أنَّه كان يداوم على ذلك، أو أنَّه أكثر فعلِه، ولا تحصل المداومة إلَّا على الأفضل. وزعم الطحاويُّ أنَّ(13) آثار هذا الباب إنَّما تتفق بأنْ يكون دخولُه ◙، في صلاة الصبح مغلِّسًا، ثمَّ يطيل القراءة حتَّى ينصرف منها(14) مسفرًا، وهذا فاسدٌ من قولِه لمخالفتِه قول عائشة لأنَّها حكت أنَّ انصرافهنَّ من الصلاة كان ولا يُعْرَفْنَ من الغلس. وروى(15) حماد بن سلمة، عن / عبيد الله(16) بن عُمَر، عن عَمْرة، عن عائشة قالت: ((كنَّا نصلي مع رسول الله صلعم صلاة الفجر في مروطنا فننصرف، وما يعرف بعضنا وجوه بعض)). فبان بهذا الحديث أنَّ النساء كُنَّ لا يُعرفن أرجالٌ هنَّ أم نساء؟؛ وأنَّهنَّ كنَّ يسرعن الانصراف عند الفراغ من الصلاة، ويدلُّ أنَّ الإمام(17) لا يطيل القراءة جدًّا، ولو أطالها لما انصرفنْ إلَّا في الإسفار البيِّن. والذي يجمع بين حديث عائشة وبين قولِه صلعم: ((أسفروا بالفجر)) من التأويل ما قالَه أحمد بن حنبل، فإنَّه قال: الإسفار الذي أراد صلعم، هو أن يتَّضح الفجر، فلا يشكَّ أنَّه قد طلع، قال غيرُه(18): والإسفار في اللغة: الكشف، يُقال: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفتْه، فكأنَّه قال صلعم: ((أسفروا بالفجر))، أي: تبينوه، ولا تغلسوا بالصلاة وأنتم تشكون في طلوعِه حرصًا على طلب الفضل بالتغليس، فإنَّ صلاتكم بعد تيقن طلوعِه أعظم للأجر، و على هذا التأويل لا تتضادد(19) الآثار، وممَّا يشهد لصحة هذا التأويل حديث ابن مسعود أنَّه سأل النبيَّ صلعم: ((أي الأعمال أفضل، قال: الصلاة لأول وقتها))، ومن جعل الإسفار تأخير الصلاة عن أول وقتها، فهو محجوج بهذا الحديث، وحَملُ الآثار على ما ينفي التضادَّ(20) عنها أولى، والحمد لله.
          وفي حديث زيد بن ثابت، وسهل بن سعد تأخير السحور، وإنَّما كانوا يؤخِّرونه إلى الفجر الأول، وسيأتي معنى ذلك(21) في كتاب الصيام، إن شاء الله تعالى. والمروط: أكسية من صوف رقاقٍ، واحدها مِرْط. ومتلفعات يعني: مشتملات، يُقال: تَلَّفَعَ بثوبه، إذا اضطبع(22) به، وتلَفَّعَ الرجلَ الشيبُ،(23) إذا اشتملَه(24)، عن صاحب «العين»، وقال صاحب «الأفعال»: لفاع المرأة كالقناع.


[1] قوله: ((حدثهم)) ليس في (م) و(ق).
[2] في (م) و(ق): ((قال)).
[3] زاد في (م): ((قالت)).
[4] قوله: ((إلى بيوتهن)) ليس في (م) و(ق).
[5] زاد في (م): ((أول)).
[6] في (ص): ((فيها)).
[7] في (م): ((بالفجر)).
[8] في (م): ((ينصرفون)).
[9] قوله: ((الإسفار)) ليس في (ص).
[10] زاد في (م) و(ق) ما صورته: ((الحفري)).
[11] في (م): ((الوليد)).
[12] زاد في (ص): ((متلفعات)).
[13] في (ص): ((بأنَّ)).
[14] في (م): ((عنها)).
[15] في (م): ((روى)) بلا واو.
[16] في (ص): ((عبد الله)).
[17] زاد في (م) و(ص): ((كان)).
[18] قوله: ((قال غيره)) ليس في (م)و(ق).
[19] في (م): ((يتضاد))، وفي (ق) و(ص): ((تتضادّ)).
[20] في (ص): ((التضادد)).
[21] قوله: ((معنى ذلك)) ليس في (ص).
[22] في (م) و(ق): ((اشتمل)).
[23] في (م)و(ق): ((بالشيب)).
[24] في (ق) و(م) و(ص): ((شمله)).