شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها

          ░33▒ باب: مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ مِنَ الْفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا.
          وقال(1) كريب: عن أمِّ سلمة قالت(2): (صلى النبيُّ صلعم بعد العصر ركعتين(3)، وقال: شغلني ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر).
          وفيه: عائشة قَالَتْ: (وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ، مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ، وَمَا لَقِيَ اللهَ حَتَّى ثَقُلَ عَنِ الصَّلاةِ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاتِهِ قَاعِدًا _يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ_ وَكَانَ النبي صلعم، يُصَلِّيهِمَا، وَلا يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ، مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ على أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ(4)). [خ¦590]
          وقالت مرَّة: (مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلعم، السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ). [خ¦591]
          وقالت مرَّة: (رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنِ النبيُّ صلعم يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلا عَلانِيَةً: رَكْعَتَانِ قَبْلَ(5) الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ(6) الْعَصْرِ). [خ¦592]
          في قصة عبد القيس، حجَّة للشافعيِّ في(7) أنَّه يقضي المرء بعد الصبح والعصر ما فاتَه من النوافل المعتادة كالفرائض المنسية، ولا يقول بذلك مالك وأبو(8) حنيفة، إلَّا أنَّ مالكًا استحسن لمن لم يصلِّ ركعتي الفجر أن يصليهما بعد طلوع الشمس. واحتجُّوا على الشافعيِّ في ذلك بتواتر الآثار عن النبيِّ صلعم أنَّه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتَّى تطلع(9)، وبعد العصر حتَّى تغرب(10)، وأنَّ عمر كان يضرب الناس على الصلاة بعد العصر بمحضر من(11) الصحابة من غير نكير عليه، فدلَّ أنَّ صلاتَه ◙ الركعتين بعد العصر خصوص له دون أمَّتِه.
          قال الطحاويُّ: وممَّا يدلُّ على ذلك ما أخبرنا به عليُّ(12) بن شيبة، أخبرنا(13) يزيد بن هارون، قال: حدَّثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن أمِّ سلمة قالت: ((صلَّى رسول الله صلعم العصر، ثم دَّخل بيتي فصلَّى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صلَّيت صلاةً لم تكن تصليها! قال: قدم عليَّ مال فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر، فصلِّيتهما الآن، قلت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتا(14)؟ قال: لا))، فنهى ◙ في هذا الحديث أن يصليهما أحدٌ بعد العصر قضاءً عمَّا كان يصلِّيه بعد الظهر، فدلَّ ذلك على أن حكم غيرِه فيهما إذا فاتتا خلاف حكمِه ◙، فليس لأحدٍ أن يصليهما بعد العصر، ولا أن يتطوَّع حينئذٍ أصلًا لأنَّ من فعل ذلك، فهو(15) متطوع في غير وقت تطوِّعٍ. وقال أصحاب الشافعيِّ: الأزرق بن قيس من الشيوخ، ولو صحَّ(16) حديثُه لاحتمل التأويل، وذلك أنَّ(17) نهيه صلعم عن قضائهما ممَّا يدلُ(18) أنَّه لا(19) تجوز صلاتهما بعد العصر، وإنَّما نهى عن قضائهما على وجه الحتم والوجوب، وأمَّا من شاء أن يتطوَّع بالصلاة ذلك الوقت رغبةً في الفضل، فله في صلاتِه ◙، بعد العصر أفضل(20) الأسوة. فإن قال قائل: إنَّ(21) أحاديث هذا الباب معارضة لنهيه صلعم، عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتَّى تغرب، فكيف السبيل إلى الجمع بينهما(22)؟. قال الطبري: لا تعارض بينهما بحمدِ الله، ولها معاني(23) صحيحة، وذلك أنَّ للنهي وجوهًا: منها الكراهة، ومنها العزم والتحريم، ولا سبيل لأمَّتِه إلى علم مرادِه منها(24) إلَّا ببيانِه ◙، ولما لم يذكر(25) في ظاهر نهيه(26) عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح دلالة لسامعِه على معنى(27) مرادِه منه، كان غير جائز ترك بيانِه(28)، فكانت صلاتُه التي صلاها بعد العصر تبيينًا منه لأمَّتِه صلعم أن نهيه على وجه الكراهة، لا على وجه التحريم، كتحريمِه عند بروز حاجب الشمس للطلوع، وعند مغيب حاجبها للغروب، وإعلام منه لهم أنَّ من صلَّى بعد العصر وبعد الصبح غير حرج ما لم يوافق وقت الطلوع والغروب. وذلك نظير نهيه(29) إيَّاهم عن المزعفر(30) بالزعفران واستعمالِه(31)، وعن لبس المعصفر والأرجوان، ولبسِه إياها(32) إعلام منه لهم أنَّ نهيه عن ذلك على وجه الكراهية لا على وجه(33) التحريم؛ لأنَّه لو كان على وجه التحريم كان أبعدهم من فعلِه؛ لأنَّه أتقاهم لله، وأشدَّهم له خشية. فإنْ ظنَّ ظانٌّ أن ذلك كان خاصًا له(34) دون أمَّتِه، فقد ظنَّ خطأً، وذلك أنَّ ما خصَّ الله به رسولَه فغير جائز أن يكون غير(35) مبين لأمَّتِه إمَّا بنص التنزيل، أو بخبر يقطع العذر أنَّه خاصٌّ له لأنَّ الله سبحانه قد ندب عبادَه إلى التأسي به، ولو جاز أن يكون في أفعالِه التي خُصَّ بها دون أمَّتِه ما لم يوقفهم عليه أنَّه خاصٌّ له، لم يجز لأحدٍ التأسي به في شيء من أفعالِه حتَّى يأمرهم بها، وإذا كان ذلك(36) كذلك بان صحة القول(37) لمن نسي / ركعتي الفجر، ثمَّ ذكرهما بعد صلاة الصبح، أو نسي ركعتي الظهر، ثمَّ ذكرهما بعدما صلَّى العصر، أنَّ له أن يصليهما ما لم يبدُ حاجبُ الشمس للطلوع أو يتدلَّى للغروب، وأنَّ لمن(38) طاف بالبيت بعد الصبح(39) أن يركع ركعتي الطواف ما لم يوافق الطلوع والغروب، وكذلك صلاة الجنازة، وصلاة الكسوف(40)، وأن يجتنب(41) فيما لم يخفْ فوتَه من ذلك تأخيرُه إلى غروبها أو طلوعها، وبذلك جاء الخبر عن النبيِّ صلعم أنَّه فعل ذلك في ركعتي الفجر، إذ نام عنهما(42)، فقضاهما بعد ما طلعت الشمس، ولم ينكر على من فعلهما(43) بعد طلوعها.


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ق): ((قال)).
[3] قوله: ((ركعتين)) ليس في (ق).
[4] في (ص): ((عليهم)).
[5] زاد في (م)و(ق): ((صلاة)).
[6] زاد في (م) و(ق): ((صلاة)).
[7] في (م): ((من)).
[8] في (ق): ((ولا أبو)).
[9] قوله: ((حتى تطلع)) ليس في (م) و(ق), زاد في (ص): ((الشمس)).
[10] قوله: ((حتى تغرب)) ليس في (م) و(ق).
[11] قوله: ((من)) ليس في (م).
[12] في (م) و(ق): ((ما حدثنا علي)).
[13] في (م)و(ق): ((قال حدثنا)).
[14] في (م): ((فاتتانا)).
[15] قوله: ((فهو)) ليس في (م)و(ق).
[16] زاد في (م): ((ذلك)).
[17] زاد في (م): ((ليس))، و في (ق): ((وذلك أنه ليس)).
[18] زاد في (م) و(ق): ((على)).
[19] في (ق): ((ليس)).
[20] في (م) و(ق): ((أعظم)).
[21] قوله: ((إن)) ليس في (م) و(ق).
[22] في (م) و(ق): ((بين معانيها)).
[23] في (م) و(ق): ((معان)).
[24] في (م) و(ق): ((من ذلك)).
[25] في (م) و(ق): ((يكن)).
[26] زاد في (م): ((◙)).
[27] قوله: ((معنى)) ليس في (م).
[28] زاد في (م) و(ق): ((له)).
[29] زاد في (م): ((◙)).
[30] في (م) و(ق): ((التزعفر)).
[31] زاد في (م): ((له)).
[32] في (ق): ((إياهما)).
[33] قوله: ((وجه)) ليس في (م)و(ق).
[34] في (م): ((كان له خاصًا)).
[35] قوله: ((غير)) ليس في (ق).
[36] قوله: ((ذلك)) ليس في (م) و(ق).
[37] زاد في (م) و(ق): ((أن)), في (ص): ((القولين)).
[38] في (ق): ((من)).
[39] زاد في (م) و(ق): ((والعصر)).
[40] في (م) و(ق): ((وكذلك صلاة الجنائز والكسوف)).
[41] في (م) و(ق): ((اجتنب)).
[42] في (ق): ((عنها)).
[43] في (م) و(ق): ((قضاهما)).