شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب

          ░17▒ باب: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ الغروب.
          فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ(1): (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ / قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً(2) مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ(3)، فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ). [خ¦556]
          وفيه: ابن عمر قال(4): (قال النبيُّ صلعم: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ(5) أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا(6) انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإنْجِيلِ الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا إلى صَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا(7)، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ، فَعَمِلْنَا إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبَّ(8)، أَعْطَيْتَ هَؤُلاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا(9) قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ كُنَّا(10) أَكْثَرَ عَمَلًا، قَالَ اللهُ ╡: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لا، قَال: فَهُوَ(11) فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ). [خ¦557]
          وفيه: أَبو مُوسَى قَالَ النبيُّ صلعم: (مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا، يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلا إلى اللَّيْلِ(12)، فَعَمِلُوا إلى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا إلى أَجْرِكَ(13)، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، وَلَكُم الَّذِي شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ وقت(14) الْعَصْرِ، قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا(15) أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ). [خ¦558]
          قوله ◙: (مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً) يريد(16) ركعة، فكنَّى(17) بذكر السجدة عنها؛ إذ لا يكون مدركًا سجدةً إلَّا بعد إدراك ركعةٍ، وقد جاء حديث أبي هريرة هذا بلفظ آخر عنه ◙ أنَّه قال: ((من أدرك ركعة من صلاة(18) الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة(19) من صلاة(20) العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر)). ومعلوم أنَّ النبي صلعم لم يرد الركوع خاصة حتى يكون معه سجود، فمرَّة عبَّر بالسجود عن الركوع، ومرَّة اقتصر على ذكر(21) الركوع.
          وأئمَّة الفتوى متَّفقون على أنَّ من لم يدرك الركعة لم يدرك السَّجدة، وهذا الحديث عند الفقهاء خرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص لنهيه ◙ أن يتحرَّى بالصلاة طلوع الشمس وغروبها(22)، فالمراد به أصحاب الضرورات لأنهم(23) لا يلزمهم صلاة إلَّا أن يدركوا منها ركعة، أو يدركوا من الصلاتين المشتركتين الأولى منهما(24)، وركعة من الثانية، وهم: المغمى عليه(25) والمجنون يفيقان، والحائض تطهر، والكافر يُسلم، والصبيُّ يبلغ، كلُّ هؤلاء عند مالك يصلُّون الصلاة التي يدركون(26) منها ركعةً بسجدتيها في آخر وقتها، فإن(27) لم يدركوا منها ركعة بسجدتيها بعد الفراغ ممَّا يلزمهم من الطهارة لم يجب عليهم أن يصلُّوا(28)، وقال الشافعيُّ مثلَه في أحد قوليه، واختلف قولُه فيهم إذا أدركوا ركعة من العصر، فقال: يعيدون الظهر والعصر، وكذلك لو أدركوا مقدار تكبيرة الإحرام من العصر، فوافقَه(29) أبو حنيفة في أنَّهم إن أدركوا من وقت صلاةٍ مقدار تكبيرة الإحرام فقد أدركوها.
          واحتج أصحاب الشافعيِّ فقالوا(30): إنَّما أراد الرسول صلعم بذكر الركعة البعضَ من الصلاة، فكأنَّه قال: من أدرك عمل بعض الصلاة في الوقت، والدليل(31) على ذلك قولُه(32): من أدرك ركعةً، وقال(33) مرَّة أخرى: من أدرك سجدة، فدلَّ أنَّه أراد البعض، والتكبير بعض الصلاة. وقال(34) ابن القصَّار: فالجواب أنَّ هذا ينقض عليه أصلَه في الجمعة لأنَّه يقول: من لم يدرك ركعة بسجدتيها من الجمعة؛ فلم يدركها.
          والحجَّة لقول مالك قوله ◙: ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر))، فدلَّ هذا الكلام أنَّه لا يكون مدركًا بإدراك أقلِّ من ركعة؛ إذ لو كان أقلُّ من ركعة بمنزلتها لم يكن لتخصيصها بركعة(35) معنًى، وتكبيرة الإحرام لا تُسمَّى ركعة، ويُبين صحَّة هذا قولُه ◙: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة))، وهذا يُلزم من قال: إنَّه(36) إن(37) أدرك ركعة من العصر(38) قبل غروب الشمس وجب عليه أن يُصلِّي الظهر والعصر لأنَّه ◙ إنَّما جعل من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس مدركًا لصلاة واحدة وهي العصر، فلا يجوز أن يكون مدركًا لغيرها، ولا يجوز أن يجب عليه غير ما أوجبَه النبيُّ صلعم(39)، وقد اتفقنا أنَّه لو بلغ الصبيُّ وأسلم الكافر، و(40) طهرت الحائض في وقت المغرب لم تلزمهم صلاة الصبح، فكذلك صلاة الظهر لأنَّه لم يدرك من وقتها شيئًا، وأيضًا فإنَّ الشافعي يقول: إنَّ صلاة الظهر تفوت قبل دخول وقت(41) العصر، فإن(42) فاتت فلا قضاء لما فات وقتُه. ويقول أبو حنيفة، فيمن عدا المغمى عليه: أنِّهم إن(43) أدركوا العصر في وقتها لم يقضوا صلاة الظهر لأن بينها وبين العصر وقتًا تفوت فيه.
          وفي(44) حديث أبي هريرة من الفقه حجَّةٌ لما ذهب إليه عامة الفقهاء أنَّه من نام عن صلاة الصبح / أو نسيها، فأدرك منها ركعة قبل طلوع الشمس وركعة بعدها أنَّه يُتمُّها، وكذلك(45) العصر، هذا(46) قول مالكٍ، والثوريِّ، والأوزاعيِّ، والشافعيِّ(47)، وعامَّة العلماء. وخالف بعض هذا الحديث أبو حنيفة فقال: إن(48) أدرك ركعة من العصر قبل مغيب الشمس أنَّه يُتمُّها بعد مغيب الشمس، ولا يصلِّي غير عصر يومِه في ذلك الوقت، ولا يجوز أن يقضي(49) فيه صلاة فائتة غيرها، وإذا أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس بطلت صلاتُه، واستقبلها بعد ارتفاع الشمس. وأصحاب الضرورات عندَه إذا لم يدركوا إلَّا ذلك الوقت لم يلزمهم شيءٌ، واحتجَّ بأنَّ العصر يقع آخرها في وقت يصلح للإنسان أن يبتدئ الصلاة فيه، وليس هكذا(50) طلوع الشمس؛ لأنَّه ليس وقتًا للصلاة، وقالوا: ألا ترى أنَّ النبيَّ صلعم قد أخَّر الصلاة حين(51) نومِه عن الصبح من أجل انتباهِه عند طلوع الشمس، ولم يصلِّها حتَّى ارتفعت، وهذا ردٌّ لحديث أبي هريرة لأنَّه صلعم قال: ((من أدرك ركعةً من صلاة العصر قبل غروب الشمس فليتمَّ صلاتَه، ومن أدرك ركعةً من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتمَّ صلاتَه))، فسوَّى بين العصر والصبح في أنَّ(52) حكمهما واحد في الإتمام بعد غروب الشمس وبعد طلوعها، وقد يجوز أن يبتدئ قضاء الفرض في وقت لا يجوز أن تؤخَّر الصلاة إليه، فكذلك(53) يجوز أن يقع(54) آخر صلاتِه في وقت لا يجوز أن يبتدئ الصَّلاة فيه، وعلَّتهم تُقلب عليهم فيُقال: إنَّ العصر قد ابتدأها في وقت لا يجوز أن يفعلها فيه، وصلاة الصبح ابتدأها في وقتها، فإذا جاز ذلك(55) في العصر فالصبح أولى.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما أدخل حديث ابن عمر وأبي(56) موسى في هذا الباب لقولِه: ((ثمَّ أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأُعطينا قيراطين قيراطين(57)))، ليدلَّ على أنَّه قد يستحق بعمل البعض أجر الكلِّ، مثل الذي أعطى من العصر إلى الليل أجر النَّهار كلِّه لمستأجريه أولى(58)، فمثَّل هذا بالذي أعطي(59) على كلِّ ركعة أدرك وقتها أجر الصلاة كلِّها في آخر الوقت. وأمَّا احتجاجهم بأنَّ النبي صلعم أخَّر الصلاة في الوادي حين انتبَه حتَّى ارتفعت الشمس، فلا حجَّة لهم فيه لأنَّه قد ثبت أنَّهم لم يستيقظوا يومئذٍ حتى أيقظهم حرُّ الشمس، ولا يكون لها حرارة إلَّا والصلاة جائزة ذلك(60) الوقت(61).


[1] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[2] في (م): ((ركعة)).
[3] قوله: ((قبل أن تطلع الشمس)) ليس في (م).
[4] قوله: ((قال)) ليس في (م) و(ق).
[5] في (ق): ((يعطى)).
[6] قوله: ((إذا)) ليس في (ف).
[7] قوله ((قيراطًا)) ليس في (ق).
[8] في (م) و(ق): ((ربنا)).
[9] في (ق): ((وأعطينا)).
[10] قوله: ((كنا)) ليس في (م) و(ق) و(ص).
[11] في (م): ((فذلك)), في (ص): ((هو)).
[12] في (م): ((ليل)).
[13] في (ص): ((إلى عملك)).
[14] في (م): ((صلاة))، و في (ق): ((كان حين صلاة)).
[15] في (م) تحتمل: ((فاستكملوا)).
[16] زاد في (ق): ((من أدرك)).
[17] في (م) صورتها: ((وكما))، و في (ق): ((كنى)).
[18] قوله: ((صلاة)) ليس في (م)و(ق).
[19] قوله: ((ركعة)) ليس في (ص).
[20] قوله: ((صلاة)) ليس في (م) و(ق).
[21] في (م): ((ذلك)).
[22] قوله: ((وغروبها)) ليس في (م).
[23] في (م): ((أنه))، و في (ق): ((لأنه)).
[24] في (ص): ((منها)).
[25] في (م): ((عليهم)).
[26] في (ق): ((يدركوا)).
[27] في (م): ((منها ركعة بسجدتها وإن)).
[28] في (م)و(ق): ((يصلوها)).
[29] في (م)و(ق): ((ووافقه)).
[30] في (م): ((فقال)).
[31] في (م) و(ق): ((ومما يدل)).
[32] زاد في (ق): ((في الحديث)).
[33] في (م): ((وقوله)).
[34] في (م) و(ق): ((قال)).
[35] في (م) و(ق): ((لتخصيصه الركعة)).
[36] قوله: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، وهذا يُلزم من قال: إنَّه)) ليس في (ص).
[37] في (م)و(ق) و(ص): ((من)).
[38] قوله: ((من العصر)) ليس في (م).
[39] في (م): ((أوجبه الله تعالى)).
[40] في (ق): ((أو)).
[41] في (ز): ((وقت دخول)).
[42] في (م) و(ق): ((فإذا)).
[43] في (م): ((لو)).
[44] في (م): ((في)).
[45] زاد في (م) و(ق): ((في)).
[46] في (ق): ((وهذا)).
[47] قوله ((والشافعي)) ليس في (ق).
[48] في (م) و(ق): ((إذا)).
[49] في (م): ((تقع)).
[50] في (م) و(ق): ((كذلك)).
[51] قوله: ((حين)) ليس في (م) وفي (ق): ((يوم)).
[52] في (ص): ((وأنَّ)).
[53] زاد في (م): ((لا)).
[54] في (ق): ((يوقع)).
[55] قوله: ((ذلك)) ليس في (م) و(ق).
[56] في (م): ((وحديث أبي)).
[57] في (م): ((قيراطين)) لم تكرر.
[58] في (م) و(ق): ((كله المستأجر به أولًا)).
[59] قوله: ((من العصر إلى الليل أجر النَّهار كلِّه لمستأجريه أولى، فمثَّل هذا بالذي أعطي)) ليس في (ص).
[60] في (م)و(ق): ((إلا وتجوز الصلاة في ذلك)).
[61] زاد في (ص): ((تم الجزء الثاني والحمد لله والسلام على عباده الذين اصطفى, بسم الله الرحمن الرحيم عونك اللَّهُمَّ)).