شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من ناجى بين يدي الناس ومن لم يخبر بسر صاحبه

          ░43▒ بَابُ مَنْ نَاجَى بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ، وَلَمْ يُخْبِرْ بِسِرِّ صَاحِبِهِ، فَإِذَا مَاتَ أَخْبَرَ بِهِ
          فيه عَائِشَةُ قَالَتْ: (كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلعم عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي، لا وَاللهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ بها، فقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِي، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ _أَوْ عَنْ شِمَالِهِ_ ثُمَّ سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هِي تَضْحَكُ، فَقُلْتُ لَهَا _أَنَا مِنْ نِسَائِهِ_: خَصَّكِ رَسُولُ اللهِ صلعم بِالسِّرِّ مِنْ بَيْنِنَا ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم سَأَلْتُهَا: عَمَّا سَارَّكِ؟ قَالَتْ: مَا كُنْتُ لأفْشِي على رَسُولِ اللهِ صلعم سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لي عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ لَمَّا أَخْبَرْتِنِي، قَالَتْ: أَمَّا الآنَ فَنَعَمْ، فَأَخْبَرَتْنِي قَالَتْ: أَمَّا حِينَ سَارَّنِي في الأمْرِ الأوَّلِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِي(1) أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، فَلا أَرَى الأجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ فَاتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي؛ فَإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَاء الذي رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي سَارَّنِي الثَّانِيَةَ قَالَ: يَا فَاطِمَةُ، أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأمَّةِ). [خ¦6285] [خ¦6286]
          قال المؤلِّف: فيه من الفقه أنَّه يجوزالمسارَّة مع الواحد بحضرة الجماعة، وليس ذلك من باب نهيه صلعم عن مناجاة الاثنين دون الواحد؛ لأنَّ المعنى الذي يُخاف من ترك الواحد لا يُخاف من ترك الجماعة، وذلك أنَّ الواحد إذا تسارُّوا(2) دونه وقع بنفسه أنَّهما يتكلَّمان فيه بما يسوءه ولا يتَّفق ذلك في الجماعة، وهذا من حسن الأدب وكرم المعاشرة.
          وفيه: أنَّه لا ينبغي إفشاء السرِّ إذا كانت فيه مضرَّةٌ على المسِرِّ؛ لأنَّ فاطمة لو أخبرت نساء النبيِّ صلعم ذلك الوقت بما أخبرها به النبيُّ صلعم من قرب أجله لحزنَّ لذلك حزنًا شديدًا، وكذلك لو أخبرتهنَّ أنَّها سيِّدة نساء المؤمنين لعظم ذلك عليهنَّ، واشتدَّ حزنهنَّ، فلمَّا أمنت ذلك فاطمة بعد موته صلعم أخبرت بذلك ♦.


[1] في (ص): ((أخبر)).
[2] في (ص): ((تساورا)).