شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إفشاء السلام

          ░8▒ بَابُ: إِفْشَاءِ السَّلاَمِ
          فيه: الْبَرَاءُ قال: (أَمَرَنَا النَّبيُّ صلعم بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلامِ، وَإِبْرَارِ القَسَم...) الحديث. [خ¦6235]
          قال الطبريُّ: إن قال قائلٌ: هذه الخلال التي أمر النبيُّ صلعم بها من حقِّ المسلم، هل هي من الحقوق التي إن لم يؤدِّها كان بتركها حَرِجًا ولربِّه عاصيًا أم لا؟
          قيل: منها ما يكون بتركها حرجًا، ومنها ما يكون غير حرجٍ، ومنها ما يكون بتركها حرجًا في حالٍ وغير حرجٍ في أخرى.
          فإن قيل: فبيِّن لنا ذلك. قيل: أمَّا التي يكون بفعلها محمودًا وبتركها حرجًا في كلِّ حالٍ فنصر الضعيف وعون المظلوم، وذلك أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، وقال صلعم: ((إنَّ المؤمنين جميعًا كالجسد الواحد))، وعلى المرء أن يسعى لصلاح كلِّ عضوٍ من أعضاء جسده سعيه لبعضها، فكذلك عليهم في إخوانهم في الدين وشركائهم في الملَّة وإنصارهم على الأعداء من نصرهم وعونهم مثل ما عليهم من ذلك في أنفسهم لأنفسهم، إذ كان بعضهم عونًا لبعضٍ وجميعهم يدٌ على العدوِّ.
          ولذلك خاطبهم ربُّنا ╡ في كتابه فقال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29]إذ كان القاتل منهم غيره بمنزلة القاتل نفسه، ولم يقل لهم لا يقتل بعضكم بعضًا؛ إذ كان المؤمن لأخيه المؤمن بمنزله نفسه في التعاون على البرِّ والتقوى، يؤلم كلَّ واحدٍ منهما ما يؤلم الآخر، ألا ترى أنَّ الله تعالى نهى المؤمنين أن يلمز بعضهم بعضًا، وأن يتنابزوا بالألقاب، فقال تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ}[الحجرات:11]فجعل اللَّامز أخاه لامزًا نفسه؛ إذ كان أخوه بمنزله نفسه، ومعلومٌ أنَّه لا أحد صحيح العقل يلمز نفسه، فعلم أنَّ معناه لا يلمز أحدكم أخاه المؤمن.
          وممَّا هو فرضٌ في كلِّ حالٍ إبرار القسم، قال الله تعالى: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ}[المائدة:89].
          وأمَّا التي هي فرضٌ في بعض الأحوال دون بعضٍ وفضلٌ في بعضها فشهود جنازة الأخ المؤمن، فالحال التي هو فيها فرضٌ إذا لم يكن للجنازة قيِّمٌ غيره، أو يكون ولا يستغنى عن حضوره إيَّاها، فلا يسعه حينئذٍ ترك حضورها، وذلك أنَّ الذي يلزم من أمر موتى المسلمين للأحياء غسلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم، وذلك فرض على الكفاية، فمن قام بذلك منهم سقط فرضه عن سائرهم.
          ومنه أيضًا تشميت العاطس إذا حمد الله، فإنَّه فرضٌ على جميع من سمع عطاسه وحمدَه لله تشميته، حتَّى إذا شمَّته بعضهم سقط فرض ذلك عن سائرهم.
          وأمَّا التي هو بفعلها محمودٌ وبتركها غير مذمومٍ فالسلام عليه إذا لقيه، فإنَّ المبتدئ أخاه بالسلام له الفضل كما قال صلعم في المتهاجرين: ((وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)).
          ومن ذلك عيادته لأخيه إذا مرض، وإجابته إلى طعامٍ إذا دعاه إليه؛ فإنَّ تارك ذلك تارك فضلٍ لا تارك فرضٍ؛ لإجماع الجميع على ذلك، وقد تقدَّم جملةٌ من معنى هذا الحديث في كتاب الجنائز [خ¦1239] وفي كتاب المظالم في باب نصر المظلوم [خ¦2445] وفي كتاب النكاح في باب إجابة دعوة الوليمة [خ¦5175] والحمد لله، وسيأتي ما للعلماء في بقيَّة الحديث في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. [خ¦5863]