شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب آية الحجاب

          ░10▒ بَابُ آيَةِ الحِجَابِ
          فيه أَنَسٌ: (أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ النَّبيِّ صلعم الْمَدِينَةَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ الله صلعم عَشْرًا حَيَاتَهُ، وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ، فكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ في مُبْتَنَى النَّبيِّ صلعم بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَصْبَحَ النَّبيُّ صلعم بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِي مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم فَأَطَالُوا الْمُكْثَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ كَيْ يَخْرُجُوا، فَمَشَى رَسُولُ اللهِ صلعم وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى جَاءَ عُتْبَةُ بَيتَ عَائِشَةَ، ثُمَّ ظَنَّ رَسُولُ الله صلعم أَنَّهُم خَرَجُوا، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ على زَيْنَبَ، فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَتَفَرَّقُوا، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَظَنَّ أَنْهم قَدْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَأُنْزِلَ الْحِجَابِ فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا). [خ¦6238]
          وفيه عَائِشَةُ: (كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صلعم: احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكُنَّ نِسَاءُ النَّبيِّ صلعم يَخْرُجْنَ لَيْلًا إلى لَيْلٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَرَآهَا عُمَرُ وَهُوَ في الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: عَرَفْناكِ يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا على أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللهُ الْحِجَاب). [خ¦6240]
          قال الطبريُّ: في حديث عائشة: فرض الحجاب على أزواج النبيِّ ◙ لقول عمر للنبيِّ صلعم: (احْجُبْ نِسَاءَكَ)، وقال في حديث آخر: ((يا رسول الله، لو حجبت أمَّهات المؤمنين فإنَّه يدخل عليهنَّ البرُّ والفاجر))، فنزلت آية الحجاب.
          قال غيره: ويدلُّ على صحَّة ذلك قول الفقهاء إنَّ إحرام المرأة في وجهها وكفَّيها، وإجماعهم أنَّ لها أن تبرز وجهها للإشهاد عليها، ولا يجوز ذلك في أمَّهات المؤمنين.
          وقد اختلف السلف في تأويل قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:31]فذهبت طائفةٌ إلى أنَّ قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: الكحل والخاتم، وقيل: الخضاب والسوار والقُرط والثياب.
          وقال أكثر أهل التأويل: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفَّان، روي ذلك عن ابن عبَّاسٍ وابن عمر وأنسٍ، وهو قول مكحولٍ وعطاءٍ والحسن.
          قال إسماعيل بن إسحاق: قد جاء في التفسير ما ذكر، والظاهر _والله أعلم_ يدلُّ على أنَّه الوجه والكفَّان؛ لأنَّ المرأة يجب عليها أن تستر في الصلاة كلَّ موضعٍ منها لا يجوز أن يراه الغرباء وليس يجوز لها أن يظهر في الصلاة منها إلَّا وجهها وكفَّاها، وفي ذلك دليلٌ أنَّ الوجه والكفَّين يجوز للغرباء أن يروه من المرأة، والله أعلم بما أراد من ذلك.
          وسيأتي بقيَّة الكلام في حديث أنسٍ في باب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه، وتهيَّأ للقيام ليقوم الناس في هذا الجزء إن شاء الله تعالى. [خ¦6271]
          وقوله: (وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الحِجَابِ) فيه أنَّه يجوز للعالم أن يصف ما عنده من العلم لسائله عنه على وجه التعريف بما عنده منه لا على سبيل الفخر والإعجاب.