شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا}

          ░2▒ باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} إلى قوله{وَمَا تَكْتُمُونَ}[النور:27].
          وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أبي الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُؤُوسَهُنَّ، قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ.
          وقَول اللهِ ╡: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النور:30].
          وَقَالَ قَتَادَة: عَمَّا لا يَحِلُّ لَهُمْ.
          {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}[النور:31]، {خَائِنَةَ الأعْيُنِ}[غافر:14]: النَّظَرِ إلى مَا نُهِواَ عَنْهُ.
          وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي النَّظَرِ إلى التي لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّسَاءِ: لا يَصْلُحُ النَّظَرُ إلى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً.
          وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إلى الْجَوَارِي التي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ.
          فيه ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَرْدَفَ النَّبيُّ صلعم الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ على عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا، فَوَقَفَ النَّبيُّ صلعم لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللهِ صلعم، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبيُّ صلعم وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا...) الحديث. [خ¦6228]
          وفيه أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ، نَتَحَدَّثُ بها، قَالَ: فَإِذَاْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْاِلسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ). [خ¦6229]
          قال المؤلِّف: قال قتادة ومجاهدٌ وإبراهيم في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}[النور:27]قالوا: حتَّى تستأذنوا وتسلِّموا.
          وقال سعيد بن جبيرٍ: الاستئناس: الاستئذان، وهو فيما أحسب من خطأ الكاتب، وروى أيُّوب عنه عن ابن عبَّاسٍ: إنَّما هي حتَّى تستأذنوا، سقط من الكاتب.
          قال إسماعيل بن إسحاق: قوله: من خطأ الكاتب، هو بقول سعيد بن جبيرٍ أشبه منه بقول ابن عبَّاسٍ، لأنَّ هذا ممَّا لا يجوز أن يقوله أحدٌ، إذ كان القرآن محفوظًا قد حفظه الله من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
          وقد روي عن مجاهدٍ أنَّ الاستئناس: التنحنح و التنخُّم إذا أراد أن يدخل.
          وروى ابن وهبٍ عن مالكٍ قال: الاستئناس: الجلوس، قال الله تعالى: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ}[الأحزاب:53]وقال عمر حين دخل على النبيِّ صلعم في حديثه المشربة: ((أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم، فجلس عمر)).
          قال إسماعيل بن إسحاق: وأحسب معنى الاستئناس _والله أعلم_ إنَّما هو أن يستأنس بأن الذي يدخل عليه لا يكره دخوله، يدلُّ على ذلك قول عمر للنبيِّ صلعم: ((أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست))، قال إسماعيل: فدلَّ قوله: أستأنس على أنَّه أحبَّ أن يعلم أنَّ النبيَّ صلعم لا يكره جلوسه، وهذا ممَّا يضعف ما روي عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ.
          قال المهلَّب: ومعنى الاستئذان هو خوف أن يفجأ الرجل أهل البيت على عورةٍ فينظر ما لا يحلُّ له، يدلُّ على ذلك قوله صلعم: ((إنَّما جعل الاستئذان من قبل البصر))، وغضُّ البصر مأمورٌ به؛ لقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}[النور:30]{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}[النور:31]ألا ترى صرف النبيِّ صلعم لوجه الفضل عن المرأة ونهيه صلعم عن الجلوس على الطرقات إلَّا أن يغضَّ البصر، وإنَّما أمر الله تعالى بغض الأبصار عمَّا لا يحلُّ؛ لئلَّا يكون البصر ذريعةً إلى الفتنة، فإذا أمنت الفتنة فالنظر مباحٌ، ألا ترى أنَّ النبيَّ صلعم حوَّل وجه الفضل(1) حين علم بإدامته النظر إليها أنَّه أعجبه حسنها فخشي عليه فتنة الشيطان.
          وفيه: مغالبة طباع البشر لابن آدم، وضعفه عمَّا رُكِّب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهنَّ.
          وفيه: دليلٌ أنَّ نساء المؤمنين ليس لزوم الحجاب لهنَّ فرضًا في كلِّ حالٍ كلزومه لأزواج النبيِّ صلعم، ولو لزم جميع النساء فرضًا لأمر النبيُّ صلعم الخثعميَّة بالاستتار، ولما صرف وجه الفضل عن وجهها، بل كان يأمره بصرف بصره، ويعلمه أنَّ ذلك فرضه، فصرف وجهه صلعم وقت خوف الفتنة وتركه قبل ذلك الوقت.
          وهذا الحديث يدلُّ أنَّ ستر المؤمنات وجوههنَّ عن غير ذوي محارمهنَّ سنَّةٌ؛ لإجماعهم أنَّ للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ويراه منها الغرباء، وأنَّ قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}[النور:30]على الفرض في غير الوجه، وأنَّ غضَّ البصر عن جميع المحرمات وكلِّ ما يخشى منه الفتنة واجبٌ، وقد قال النبيُّ صلعم: ((لا تتبع النظرة النظرة، فإنَّما لك الأولى وليست لك الثانية))، وهذا معنى دخول {مِن} في قوله: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} لأنَّ النظرة الأولى لا تملك فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفروج، لأنَّها تملك.
          وقوله: (فَأَخْلَفَ بيَدِهِ(2) فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ) قال صاحب «الأفعال»: يقال: أخلف الرجل بيده إلى سيفه: مدَّها إليه ليأخذه عند حاجته إليه، وأخلف إلى مؤخِّر راحلته أو فرسه كذلك.


[1] في (ز): ((العباس)) والمثبت من المطبوع.
[2] في (ز): ((يده)) والمثبت من المطبوع.