شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب بدء السلام

          ░1▒ بَابُ بَدْءِ السَّلاَمِ
          فيه أَبُو هُرَيْرَةَ قال النَّبيُّ صلعم قَالَ: (خَلَقَ اللهُ آدَمَ على صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَه اللهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ على أُولَئِكَ _نَفَرٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ جُلُوسٌ_ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: عَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ _يعني: الْجَنَّةَ_ على صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ). [خ¦6227]
          قال المهلَّب: هذا الحديث يدلُّ أنَّ الملائكة في الملأ الأعلى يتكلَّمون بلسان العرب، ويتحيَّون بتحيَّة الله، وأنَّ التحيَّة بالسلام هي التي أراد الله ╡ أن يتحيَّا بها.
          وفيه: الأمر بتعليم العلم من أهله والقصد إليهم فيه، وأنَّه من أخذ العلم ممَّن أمره الله بالأخذ عنه فقد بلغ العذر في العبادة وليس عليه ملامةٌ؛ لأنَّ آدم أمره الله تعالى أن يأخذ عن الملائكة ما يحيُّونه، وجعلها له تحيَّةً باقيةً، وهو تعالى أعلم من الملائكة، ولم يعلِّمه إلَّا لتكون سنَّةً.
          وقوله: (فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ) فهو في معنى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين:4-5]ووجه الحكمة في ذلك أنَّ الله تعالى خلق العالم بما فيه دالًّا على خالقٍ حكيمٍ، وجعل في حركات ما خلق دليلًا على فناء هذا العالم وبطلانه، خلافًا للدهريَّة التي تعبد الدهر وتزعم أنَّه لا يفنى، فأبقى الله هذا النقص دلالةً على بطلان قولهم؛ لأنَّه إذا جاز النقص في البعض جاز الفناء في الكلِّ.
          وأمَّا قوله صلعم: (خَلَقَ اللهُ آدَمَ على صُورَتِهِ) فإنَّ العلماء اختلفوا في رجوع الهاء من: (صُورَتِهِ) إلى من ترجع الكناية بها.
          قال ابن فُورَك: فذهب طائفةٌ إلى أن الهاء من: (صُورَتِهِ) راجعةٌ إلى آدم ◙، وأفادنا بذلك ◙ إبطال قول الدهريَّة أنَّه لم يكن قطُّ إنسانٌ إلَّا من نطفةٍ، ولا نطفةٌ إلَّا من إنسانٍ فيما مضى ويأتي، وليس لذلك أوَّلٌ ولا آخرٌ، فعرَّفنا ◙ تكذيبهم، وأنَّ أوَّل البشر هو آدم ◙ خلق على صورته التي كان عليها من غير أن كان عن نطفةٍ قبله أو عن تناسلٍ، ولم يكن قطُّ في صلبٍ ولا رحمٍ، ولا كان علقةً ولا مضغةً، ولا طفلًا، ولا مراهقًا، بل خلق ابتداءً بشرًا سويًّا كما شوهد.
          وقال آخرون: المعنى في رجوع الهاء إلى آدم تكذيب القدريَّة، لما زعمت أنَّ من صور آدم وصفاته ما لم يخلقه الله ╡، وذلك أنَّ القدريَّة تقول: إنَّ صفات آدم على نوعين، منها ما خلقها الله ╡، ومنها ما خلقها آدم لنفسه، فأخبر ◙ بتكذيبهم، وأنَّ الله تعالى خلق آدم على جميع صورته وصفاته وأعراضه.
          وقال آخرون: يحتمل أن يكون رجوع الهاء إلى آدم وجهًا آخر على أصول أهل السنَّة أنَّ الله خلق السعيد سعيدًا والشقيَّ شقيًّا، فخلق آدم وقد علم أنَّه يعصيه ويخالف أمره، وسبق العلم بذلك وأنَّه يعصي ثمَّ يتوب، فيتوب الله عليه تنبيهًا على وجوب جريان قضاء الله تعالى على خلقه، وأنَّه إنَّما تحدث الأمور وتتغيَّر الأحوال على حسب ما يُخلَق عليه المرء ويُيَسَّر له.
          وذهبت طائفةٌ إلى أنَّ هذا الحديث إنَّما خرج على سببٍ، وذلك: ((أنَّ النبي صلعم مرَّ برجلٍ يضرب ابنه أو عبده في وجهه لطمًا ويقول: قبَّح الله وجهك، ووجهَ من أشبه وجهك، فقال صلعم: إذا ضرب أحدكم فليتَّق الوجه، فإنَّ الله خلق آدم على صورته)) فزجره النبيُّ صلعم عن ذلك، لأنَّه قد سبَّ الأنبياء ‰ والمؤمنين، وخصَّ آدم بالذكر؛ لأنَّه هو الذي ابتُدِئت خلقة وجهه على الحدِّ الذي تخلَّق عليها سائر ولده، فالهاء على هذا الوجه كنايةً عن المضروب في وجهه.
          وذهبت طائفةٌ إلى أنَّ الهاء كنايةً عن الله ╡، وهذا أضعف الوجوه؛ لأنَّ حكم الهاء أن ترجع إلى أقرب المذكور، إلَّا أن تدلَّ دلالةٌ على خلاف ذلك، وعلى هذا التأويل يكون معنى الصورة معنى الصفة كما يقال: عرَّفني صورة هذا الأمر، أي: صفته، ولا صورة للأمر على الحقيقة إلَّا على معنى الصفة، ويكون تقدير التأويل أنَّ الله تعالى خلق آدم على صفته، أي: خلقه حيًّا عالمًا سميعًا بصيرًا متكلِّمًا مختارًا مريدًا، فعرفنا بذلك إسباغ نعمه عليه وتشريفه بهذه الخصال.
          ونظرنا في الإضافات إلى الله تعالى فوجدناها على وجوهٍ، منها إضافة الفعل، كما يقال: خلق الله، وأرض الله، وسماء الله، وإضافة الملك فيقال: رزق الله، وعبد الله، وإضافة اختصاصٍ وتنويهٍ بذكر المضاف إليه، كقولهم: الكعبة بيت الله، وكقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}[الحجر:29]ووجهٌ آخر من الإضافة نحو قولهم: كلام الله، وعلم الله، وقدرة الله، وهي إضافة اختصاصٍ من طريق القيام به، وليس من جهة الملك والتشريف بل ذلك على معنى إرادته غير متعريَّةٍ منها قيامًا بها ووجودًا.
          ثمَّ نظرنا إلى إضافة الصورة إلى الله تعالى فلم يصحَّ أن يكون وجه إضافتها إليه على نحو إضافة الصفة إلى الموصوف بها من حيث تقوم به؛ لاستحالة أن يقوم بذاته ╡ حادثٌ، فبقي من وجوه الإضافة الملك والفعل والتشريف، فأمَّا الملك والفعل فوجهه عامٌّ وتبطل فائدة التخصيص، فبقي أنَّها إضافة تشريفٍ، وطريق ذلك أنَّ الله تعالى هو الذي ابتدأ تصوير آدم لا على مثالٍ سبق بل اخترعه، ثمَّ اخترع من بعده على مثاله، فتشرَّفت صورته بالإضافة إليه، لا أنَّه أريد به إثبات صورةٍ لله تعالى على التحقيق هو بها مصوَّرٌ؛ لأنَّ الصورة هي التألُّف والهيئة، وذلك لا يصحُّ إلَّا على الأجسام المؤلَّفة، والله ╡ قد تعالى عن ذلك.